معنى النَّفي!

بقلم : د . ادم عربي

تاريخ النشر: 14/09/24 | 15:21

لفهم واستيعاب مفهوم النَّفي في الجدل الهيجلي والماركسي، يجبُ علينا أولاً أنْ نتقن استخدام هذه الأداة المنطقية العظيمة في التحليل والتفسير.
فكثيرون قد أخفقوا في هذا الاستخدام لأنَّهم فهموا النَّفي بطريقة تتعارض مع معناه الجدلي.

النَّفي الجدلي، على عكس النفي الميتافيزيقي، هو فعل يتطلب وجود عنصرين متلازمين: النافي والمنفي. هذان العنصران يتواجدان في نفس المكان والزمان.
لنأخذ بعض الأمثلة: الحَفْر، الرفع، والظلم.
الحفر يستلزم وجود الحافر والمحفور؛ فلا يمكن أنْ يكون هناك حافر دون محفور، ولا محفور دون حافر.
الرفع يتطلب وجود الرافع والمرفوع؛ فلا يمكن أنْ يكون هناك رافع دون مرفوع ، ولا مرفوع دون رافع .
الظلم يستدعي وجود الظالم والمظلوم؛ فلا يمكن أنْ يكون هناك ظالم دون مظلوم، ولا مظلوم دون ظالم.

تأملوا جسمًا متماسكًا بدأ يتصدع ويتفتت ويتجزأ. كيف يمكن لهذا الجسم، من حيث تماسكه، أنْ يتغير؟
إنَّه، بصفته متماسكًا، لنْ يتغير إذا سخن مثلاً. تغيُّره في هذه الحالة يعني نفي تماسكه؛ أي أنْ يتفتت ويتجزأ. فالتغيير لا معنى له إلَّا إذا كان تحولًا للشيء إلى نقيضه.

ما هو معنى نفي التماسك؟ وكيف يمكن أنْ يُنفى التماسك بالتفتت؟
أولاً، النفي لا يكون إلَّا لما هو موجود؛ فلا يمكن أن يتفتت إلَّا جسم كان في حالة تماسك. وجود التماسك هو بداية عملية نفيه.
تخيل جدارًا متماسكًا، وهو الآن في حالة نفي لتماسكه. هذا التماسك يُنفى عندما يظهر أول وأصغر تصدع في الجدار. هناك من يعتقد أو يتوهم أنَّ الجدار كان في حالة تماسك خالص ومطلق قبل ظهور أول تصدع، دون أي أثر للنقيض، وهو التفتت.

لا يمكن أنْ يوجد تماسك خالص من نقيضه؛ فالتماسك والتفتت يتواجدان معًا في نفس المكان والزمان بشكل لا ينفصل. دائمًا ما يكون هناك جزء من التفتت أو الميل إليه داخل التماسك الذي يبدو لنا خاليًا من أي أثر للتفتت.
عندما يظهر أول تصدع في الجدار المتماسك، نقول إنَّ تماسكه قد نُفي. ومع ظهور هذا التصدع الأولي، يصبح الجدار في حالة تصدع.
إذا تأملنا في هذه الحالة، سنجد أنَّ التماسك لمْ يختفِ تمامًا من الجدار؛ بلْ ما زال يتواجد بجانب التفتت. وهذا ما يفسر قابلية الجدار لمزيد من التصدع. فكيف يمكن للجدار أنْ يتصدع أكثر إذا نُفي تماسكه نفيًا ميتافيزيقيًا، أي إذا خلا تمامًا وبالمعنى المطلق من التماسك؟!
النفي الجدلي للتماسك يعتمد على ثلاثة شروط: وجود التماسك، التغلب على التماسك وقواه، والاحتفاظ بالتماسك وقواه في الوقت نفسه.
التفتت لا يمكن أنْ يحدث إلَّا من تماسك موجود ومن إلغاء وجود هذا التماسك. لكن هذا التفتت لنْ يستمر لحظة واحدة إذا زال التماسك تمامًا؛ فالضدان يولدان معًا، يعيشان معًا، ويزولان معًا.

لتبسيط الفكرة، تخيل أنَّ العلاقة بينك وبين خصمك تشبه علاقة الضدين. كلاكما يظهر مع الآخر، يعيش معه، ويموت معه. أنتما نقيضان في صراع دائم لا ينتهي. كلٌّ منكما يسعى للسيطرة على الآخر وإخضاعه، ولكن لا يمكن لأحدكما القضاء على الآخر تمامًا؛ لأنَّ زوال أحدكما يعني زوال الآخر أيضًا. لذلك، يسعى كلٌّ منكما للتفوق على الآخر مع الحفاظ على وجوده. الهدف النهائي لكلٍّ منكما هو السيطرة الكاملة على الآخر.
لوْ أدركنا جوهر النفي بهذا العمق، لوجدنا أنَّ العدالة ليست سوى الظلم حين يُهرم، ويظل حاضرًا في آنٍ واحد. والحركة ليست إلا سكونًا متغلبًا عليه،في آنٍ واحد. والإيمان، هو الكفر حين يُهزم ويستمر في آنٍ واحد. والحرية تصبح عبودية مهزومة مع الاحتفاظ بها بنفس الوقت . والذكورة ليست إلا أنوثة متغلبًا عليها،مع الاحتفاظ بها بنفس الوقت . والنظام، في حقيقته، هو الفوضى المهزومة، لكنها موجودة في الوقت نفسه.

يجبُ علينا أنْ نرى كلَّ شيء على أنه نقيضه الذي تم التغلب عليه، ومع ذلك تم الاحتفاظ به في نفس الوقت. بهذه الطريقة، نفهم الأشياء والظواهر والأحداث والعمليات والخصائص بعمق أكبر، وبحيوية وقوة ودقة أكثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة