بين يدي عام هجري جديد
تاريخ النشر: 28/11/11 | 23:47قبل أيام ودعنا عامًا هجريًا وبدأنا عامًا آخر، انقضت صفحة من صفحات حياتنا، ولا ندري عما طويناها، هل سودناها بسوء أعمالنا، أم بيضناها بصالح قرباتنا.
والمسلم الصالح من تكون له وقفات دائمة مع نفسه ليحاسبها ويصحح مسيرته ويتدارك خطأه، لا سيما عند انقضاء مرحلة من مراحل عمره.
إن النفس سريعة التقلب، ميالة في كثير من الأحيان إلى الشر، كما قال الله تعالى عنها: {إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي}… (يوسف: 53).
ومـن هنـا كـان لزاما على كل عبد يرجو لقاء ربه أن يطيل محاسبته لنفسه، وأن يجلس معها جلسات طِــوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع فيها.
قال أبو حامد الغزالي: “اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم، حرصا منهم على الدنيا، وخوفا من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيـرة لهم في فواته… فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟! ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك”.
أولا: معنى المحاسبة:
المحاسبة يا عباد الله كما قال الماوردي: “أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودا أمضـاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموما استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في الـمستقبل” يقول ابن القيم رحمه الله: “المحاسبة أن يميز العبد بين ما له وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود”.
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: “هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك، فإن تبيّن له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه، وكف جوارحه عمّا كرهه الله عز وجل ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى أدائه”.
ثانيا: أهمية محاسبة النفس:
لمحاسبة النفس فوائد كثيرة متعددة:
1- فمنها أن غيابها نذير غرق الأمة في لجج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة، وأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهرا جليا حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حسابا، لا يتوقع حسابا من رب قاهر أو من ولي حاكم أو من مجتمع محكوم أو من نفس لوامة، وحينما لا يتوقع المجتمع والفرد حسابا على تصرفاتهم فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون وكما تهوى أنفسهم فيتقلبون على الحياة ودروبها بلا زمام ولا خطام فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا . وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}… (النبأ: 27-28).
2- ومنها الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها، ومن اطلع على عيوب نفسه، أنزل نفسه المنزلة الحقيقة لا سيما إن جنحت إلى الكبر والتغطـرس. وما من شك أن معرفـة العبد قدر نفسه يورثه تذللا لله وعبودية عظيمة لله عز وجل، فلا يمن بعمله مهمـا عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا”.
3- ومنها أن يتعرف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكـون ذلك رادعا له عـن فعل كل مشين وقبيح؛ وعنـد ذلك يعلـم أن النجـاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، ويتيقن أنه من حقه سبحانه أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
4- من فوائد المحاسبة كذلك أنها تزكي النفس وتطهرها وتلزمها أمْر الله تعالى. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}… (الشمس: 9-10). وقال مالك بن دينار: “رحم الله عبدا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدا”.
5- إن المحاسبة تربي عند الإنسان الضمير الحي داخل النفس، وتنمي في الذات الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق هـو ميزان الشرع.
6- يقول ابن الـقيم رحمـه الله وهو يحذر من إهمال محاسبة النفس: “أضر ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها”.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضـاع وإن تفطمه ينفطـم
فاحـذر هواها وحـاذر أن توليـه إن الهـوى ما تولى يعم أو يصـم
وراعها وهي في الأعمـال سائمة وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كـم حسـنت لـذة للمـرء قاتلـة من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضـاك النصـح فاتهم
إذا كان أرباب الأعمال وأرباب الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم مراحل العملية الإدارية، فبدون هذه المراحل تكون المنشأة عرضة لفشل محقق، فما بالكم بهذا الإنسان المسكين الضعيف الذي يقطع مراحل حياته ليلقى ربه، فإما فوز ونجاة، وإما خسارة وعذاب.
يا من تعيشون في هذه الديار التي علا فيها صوت الشيطان، وأجلب على أهلها بخيله ورجله، نحن في حاجة أكبر لمحاسبة النفس، المعاصي تغزونا حتى في دورنا وبين أهلينا، والغفلة رانت على قلوبنا، وطاعة الله بعيدة عنا.
ثالثا: فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك:
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}… (الحشر: 18). قال صاحب الظّلال: “وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدم لغـده في هذه الصفحة. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلا ورصيده من البر ضئيلا؟! إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدا، ولا يكف عن النظر والتقليب”.
قال الحسن البصري في تفسير قول الله عز وجل: {وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}… (القيامة: 2). “لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه”.
ويقول الله عز وجل في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلة والتقصير ويرجعون عما كانوا عليه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}… (الأعراف: 201).
قال الفاروق عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}… (الحاقة: 18).
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: “المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة”. ويقول ميمون بن مهران: “إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه”.
رابعا: كيفية المحاسبة:
بين بعض العلماء أن المحاسبة تكون على نوعين:
النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن: “كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقف”. قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة؟ فقال: “كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة، ثم قال: امض”.
أنواع المحاسبة:
أ- محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم سؤال نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصا فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان مقصّرا ـ وأيّنا يسلم من ذلك؟ ـ فليسد الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللوم يخف التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.
ب– القسم الثاني من المحاسبة بعد العمل محاسبة النفس على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: “وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته عز وجل وجنايتك؛ فحينئذ يظهـر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب.
وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال، وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل… فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص وأن حدها: [أنها] الجاهلة الظالمة، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبدا. ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقا: أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي”.
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطولة فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحية والمذهبة للسيئات. قال سبحانه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}… (هود: 114).
فالبدارَ البدارَ يا عبد الله قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتب منها. وتذكّر الحشر والنشر وهول جهنم وما أعده الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نار قال فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم: “إن أهون أهل النار عذابا رجل انتعل نعلين يغلي منهما دماغه”.
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقا في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب -ومن منا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟!- نسأل الله اللطف والتخفيف.
ج- محاسبتها على أمر كان تركه خيرا من فعله، أو على أمر مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجه لنفسه أسئلة متكررة: لِمَ فعلت هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.
وأما المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحا لي؟ أو فعلته عادة وتقليدا بلا نية صالحة ولا قصد في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثر في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكل هذه الأسئلة غاية في الأهمية حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: “إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي؛ ولكن –واللهِ- ما من صلة إليك، هيهات!! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردت إلى هذا، وما لي ولهذا؟ والله ما لي عذر بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبدا إن شاء الله.
إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله”.
وبالجملة؛ فلا بد للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتهـا وتذكيرها كلما وقعت منها زلة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.
خامسا: نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:
لقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في محاسبة النفس، مما لو حاولنا أن نستقصيه لطال بنا المقام، ولعجزنا عن ذلك، لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجسادا في الأرض وقلوبا في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره نفسه إلا بخير.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول -وبيني وبينه جدار-: “عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك”.
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغا حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرة، فانصرف الرجل حزينا، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرة، وقال له: “اضربني كما ضربتك” فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: “إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك” فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: “يا بن الخطاب: كنتَ وضيعا فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفا فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه!! ما تقول لربك غدا إذا أتيتَه؟ وظل يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه”.
وقال إبراهيم التيمي: “مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي”.
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامة صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: “يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟”.
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: “أنه جلس يوما ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفا وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحد وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!”.
بحار الغفلة ورياح الهوى!!
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لله،ِ وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَد”.
فإلى متى نسبح في بحار الغفلة، ونسير مع رياح الهوى، أليس وراءنا حساب، أليس وراء الحساب عذاب؟.
وباختصار ليعاهد كل منا نفسه أن يكون له في كل يوم قبل نومه لحظة حساب، فإن لم يكن ففي شهره، فإن لم يكن ففي سنته، وإلا فليس وراء ذلك خوف ولا خير!.