تحليل ظاهرة القضاء والقدر!
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 27/09/24 | 13:44ظاهرة “تعارض النتائج مع التوقعات” لطالما أذهلَتِ الناسَ وأربكتْهم، سواءً كانوا أفرادًا أو جماعاتٍ. فقد كان سعيُهم الحثيثُ لتحقيقِ أهدافِهم غالبًا ما ينتهي بنتائجَ مخالِفةٍ لتوقعاتِهم أو بنتائجَ لم تخطرْ على بالِهم قطّ، وكأنَّ هناك قوَّةً خفيَّةً تعملُ في الاتجاهِ المعاكسِ لجهودِهم وتطلعاتِهم. هذه الظاهرةُ المُحيِّرةُ جعلَتِ الكثيرينَ، حتى من بينِ المفكرينَ، يجدونَ صعوبةً كبيرةً في تفسيرِها، مما دفعَهم إلى الاعتقادِ بالقضاءِ والقدرِ كوسيلةٍ لفهمِ ما يعجزونَ عن تفسيرِه.
لكن من الممكنِ النظرُ إلى المسألةِ من زاويةٍ أخرى. فالإنسانُ، في سعيِه لتحقيقِ هدفٍ معيَّنٍ، لا يعملُ في عزلةٍ عن الآخرينَ، بل يتفاعلُ ويتأثرُ بهم. ولهذا، نادرًا ما تثمرُ مساعيهِ بالنتائجِ التي يرغبُ فيها. فتفاعلُ وتضاربُ جهودِ الأفرادِ والجماعاتِ يؤديانِ بشكلٍ طبيعيٍّ إلى نتائجَ تختلفُ عن التوقعاتِ الأصليةِ. وفي هذا الإطارِ، يُصنَعُ “التاريخ”، الذي غالبًا ما تأتي أحداثُه بما لا يشتهي البشرُ. لهذا السببِ، كان التاريخُ دائمًا غامضًا ومعقَّدًا، يصعُبُ على الناسِ فهمُ كيفيةِ صنعِ أحداثِه، مما دفعَ العديدَ من علماءِ الاجتماعِ والتاريخِ والفلاسفةِ إلى إخراجِ التاريخِ من دائرةِ “العلومِ المضبوطةِ” كتلك التي تنتمي إلى الفيزياءِ.
هذا الاعتقادُ بوجودِ يدٍ خفيَّةٍ أو قَدَرٍ يتحكَّمُ في الأحداثِ تطوَّرَ عبرَ الزمنِ. فمعَ تكرارِ التجاربِ الإنسانيةِ، تحوَّلتْ فكرةُ القضاءِ والقدرِ من مجرَّدِ تفسيرٍ افتراضيٍّ إلى عقيدةٍ راسخةٍ لدى الكثيرينَ، وخاصةً بينَ أولئك الذينَ يفتقرونَ إلى السيطرةِ الكاملةِ على ظروفِ حياتِهم، مثلَ المزارعينَ والبحَّارةِ والصنَّاعِ الذينَ يبيعونَ منتجاتِهم في أسواقٍ خاضعةٍ لتأثيراتٍ غيرِ معروفةٍ. ومعَ تعمُّقِ هذا الاعتقادِ، تضاءلَتِ الثقةُ في قوَّةِ الإرادةِ الإنسانيةِ، وتساءلَ الناسُ عمَّا إذا كانت لهم بالفعلِ “حريةُ الإرادةِ”. من هنا نشأَ مذهبُ “التسييرِ والتخييرِ”، الذي يناقشُ ما إذا كانَ الإنسانُ مُسيَّرًا أم مُخيَّرًا.
الفيلسوفُ الألمانيُّ فريدريك نيتشه كانَ من أوائلِ من أشاروا إلى أنَّ شعوبَ الشرقِ، بإيمانِهم العميقِ بالقضاءِ والقدرِ، نسَوا حقيقةً بسيطةً لكنها جوهريةٌ: أن إرادتَهم نفسَها جزءٌ من هذا النظامِ القدريِّ. فالإنسانُ المؤمنُ بالقضاءِ والقدرِ يجب أن يدركَ أنه لا يريدُ إلا ما قُدِّرَ له أن يريدَ. فلا يكونُ اختيارُه للطريقِ الذي يسلكهُ حرًّا تمامًا كما قد يتصورُ، بل هو جزءٌ من لعبةِ القدرِ التي تفرضُ عليه اختيارًا محدَّدًا سلفًا.
وفي النهايةِ، الحاضرُ هو اللحظةُ الحاسمةُ التي تُصنعُ فيها أفعالُ الإنسانِ والتي تحدِّدُ مستقبلَه. الإنسانُ يرتبطُ بماضيهِ من خلالِ مشاعرِ الندمِ، لكنه لا يخافُ منه، بينما يتطلعُ إلى المستقبلِ بخوفٍ من المجهولِ دونَ ندمٍ على ما لم يحدثْ بعد. كثيرًا ما يتمنى الإنسانُ لو استطاعَ العودةَ بالزمنِ إلى الوراءِ ليغيرَ أفعالَه، معتقدًا أنَّ حكمةَ الحاضرِ كانت ستظلُّ كما هي لو لم تحدثْ تلك الأخطاءُ. لكنَّ هذه “الحكمةَ” نفسها هي نتاجُ التجاربِ التي مرَّ بها، بما في ذلك ما يندمُ عليه.