المظهريَّة!
بقلم د . ادم عربي
تاريخ النشر: 29/09/24 | 14:49المظهرُ هو الصورةُ الخارجيةُ التي يبدو عليها الإنسانُ أو الشيءُ، وهو الانعكاسُ الذي يراه الآخرون. أمّا التطورُ، بمعنى ما، فهو القدرةُ على حلِّ التناقض بين المحتوى الداخلي والشكل الخارجي. فالشكلُ، مهما تمرّد المضمونُ عليه، سيخضع في النهاية له، وسينسجم معه. هذا بالضبط هو الفارقُ الجوهريُّ بين “المريضِ” و”المتظاهرِ بالمرض”؛ الأولُ يعكس مظهرُه حالتَهُ الحقيقية، بينما الثاني يتناقضُ مظهرُه مع حقيقتِهِ الداخلية.
أتحدثُ هنا لألفتَ الانتباه إلى مرضٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ وسلوكيٍّ نعاني منه بوضوح، وهو داءُ “المظهريّةِ” الذي ينتشرُ خصوصاً في المجتمعاتِ الشرقيّة. هذا المرضُ ليس إلا نتيجةً لتخلّفنا الاجتماعيِّ والحضاريِّ، أو قد يكون سبباً له، إذ يصعب التفريقُ بين السببيّةِ والنتيجةِ في هذه الحالة؛ فكلاهما مترابطان.
كانَ ذاكَ الرجلُ عظيماً خلّدهُ التاريخُ بإنجازاتِهِ وأفعالِهِ. دخل مجلساً وجلس عند الباب متواضعاً، فجاء أحدُهم وقال له: “سيدي، لك الصدارةُ”، فردّ قائلاً: “الصدارةُ حيث أجلسُ”. كان هذا الرجلُ ممتلئاً كالغصن المثمرِ، الذي يحنو بثقله. أمّا في مجتمعاتِنا المصابةِ بداءِ المظهريّةِ، فإن أمثالَ هؤلاء قلّما يُفهمون، لأنهم يعيشون في عالمٍ يقدّس الشكلَ على حساب الجوهرِ. هؤلاء الذين يعانون من المظهريّةِ هم كالأغصانِ الصفراءِ الفارغةِ التي لا تحملُ ثماراً، ولكنّها دائماً ما تبحثُ عن التصدُّرِ في كلِّ شيءٍ، تلبسُ لباسَ اللاشيءِ وهو الغرورُ وتتباهى بما لا تملكه.
إنّ هؤلاء يشبهون إلى حدٍّ كبير الإعلاناتِ التجاريةَ التي تروّجُ لمنتجاتٍ تبدو براقةً ومثاليةً في ظاهرها، لكنها عند الاستخدامِ تكشف عن جودتها المتدنية. كذلك هم أصحابُ النزعةِ المظهريةِ في مجتمعاتِنا، يقدّمون أنفسهم أو يُقدَّمون على أنهم الأفضلُ، لكن في واقع الحال، عندما يتعرضون للاختبارِ العمليِّ والحقيقيِّ، يظهر عجزُهم وتفاهتُهم.
لقد تحوّلت الوظيفةُ في مجتمعاتِنا إلى تمثيلٍ لأبشعِ صورِ البيروقراطيةِ، حتى أصبحت الشرَّ المجرّد، حيث يعشعش فيها الفسادُ الإداريُّ بكلِّ أشكالِهِ. هذا الفسادُ ليس إداريّاً فقط، بل أخلاقيٌّ وسلوكيٌّ وتربويٌّ أيضاً. لقد أصبحت الوظيفةُ مكاناً يحتضن الفسادَ ويتغذى عليه، إذ تتعطل القيمُ وتنعدم الكفاءةُ، ليصبحَ المظهرُ هو المعيارَ الأولَ والأخير.
إنّ عظمةَ الأمةِ لا تُقاسُ إلّا بقدرتِها على التمييزِ بين العظيمِ والتافه، بين من يستحق التكريمَ ومن يستحق الإهمال. الأمةُ العظيمةُ هي التي تزن أبناءها بموازينِ الدقةِ والحكمةِ، على شاكلةِ “ميزان المتنبي” الذي يرى في العظيمِ شخصاً تصغرُ في عينه الأمورُ الجليلةُ، وفي الصغيرِ شخصاً تتضخم في عينه التفاهاتُ. أمّا في مجتمعاتِنا، فإنّ التفاهاتِ هي التي تسود، والمظهريّةَ هي التي تضربُ بجذورِها عميقاً في تربتِها.
في الإدارةِ والبيروقراطيةِ، أصبح “المكانُ” هو كلَّ شيءٍ، وأصبحت الصدارةُ مرتبطةً بمن يشغلُ المكانَ بغضِّ النظر عن كفاءتِه أو استحقاقِه. أمّا الشخصُ الذي يشغلُه وفقاً لمعايير الفسادِ الإداريِّ، فغالباً ما يكون لا شيءَ. الفرقُ شاسعٌ بين منْ يُعَظَّمُ بالمكانِ وبين مَنْ يَعْظُمُ المكانُ به. الأولُ يبقى حماراً مهما زُركش بالزينة، بينما الثاني يضع الصدارةَ حيث يكون هو، حتى لو كانت تلك الصدارةُ في موقعٍ قمامة.
لم أرَ عظيماً يحملُ في قلبهِ نزعةَ المظهريّةِ؛ فالعظمةُ الحقيقيةُ تتجلّى في البساطةِ والتواضعِ، وفي العملِ الصادقِ الذي يرفعُ الإنسانَ بفعلهِ وليس بمظهرِه. أمّا أولئك الذين يفتقرون إلى المحتوى الحقيقيِّ للعظمةِ، فينشغلون بتوافهِ الأمورِ ويجعلون من البيروقراطيةِ زينةً يتباهون بها، كأنما هم في معركةٍ للظهورِ لا للإنجازِ.
هؤلاء الأفرادُ ليسوا سوى تجسيدٍ لمصالحَ تافهةٍ صنعتهم، فخلقوا على شاكلتِها. وأولئك الذين صنعوهم، صنعوهم وفقاً لمبدأ: “إذا أردت السيطرةَ على شخصٍ، فأشعره بالعظمةِ الزائفةِ”. والوسيلةُ لتحقيقِ ذلك هي في أنْ يُمنح ما لا يستحقُّ لمن لا يستحقُّ، ليصبح نظامُ الفسادِ هذا آليةً تكميليةً تدورُ في حلقةٍ مفرغةٍ، تعزّزُ من قيمِ المظهريّةِ وتدمّرُ قيمَ الجوهرِ والإنجاز.