تأبين مطوّل للشاعر الصديق جمال قاسم

حسن عبادي

تاريخ النشر: 30/09/24 | 14:20

في مشواري الأخير إلى عمان للمشاركة في حفل إشهار كتاب “ندوات أسرى يكتبون” ناولني صديقي صالح حمدوني نسخة من ديوان “لا أكتب الشعر” لصديقنا جمال قاسم قائلاً: “بدنا نرتّب حفل إشهار في إجزِم” (شعر، 137 صفحة، صف وتنسيق: صالح حمدوني، لوحة الغلاف: الفنان التشكيلي محمود عيسى موسى، اخراج وتصميم وطباعة: مرايا طباعة ونشر -الأردن/ إربد، صدر له “سوسنة في مرآة الريح”).
قرأت الديوان وبدأت بالتحضير لحفل الإشهار على أراضي قرية إجزم المهجّرة، (تماماً كما فعلت حين أشهرنا رواية “يس” للروائي أحمد أبو سليم على أراضي دير ياسين المهجّرة، وديوان “أنا سيّد المعنى” للشاعر الأسير ناصر الشاويش على أراضي قنّير المهجّرة، ورواية “مريم مريام” للروائي الأسير كميل أبو حنيش على أراضي صفورية المهجّرة) وخطّطنا له ليكون بعد انتهاء العدوان الغاشم على غزة، آملين شفاء جمال، وصُعقت حين شارك صالح خبر نعيه على صفحتي صباح السبت 28 أيلول، وجاءتني قصيدته “حكمة الظل” التي خصّها إلى أرابيوس الشاعر وصالح حمدوني الفنان، ومن الجدير بالذكر أنّه نُقش على شاهد قبر أرابيوس (الفيلسوف الشاعر الروماني) في مدينة أم قيس الأثريّة الأردنيّة: “إليك أقول أيها المار، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، تمتّع بالحياة فإنك فانٍ”.
جاء في الإهداء:
“لعصافير هبّت على دهشتي فامتلأتُ شبابا
ولقافيةٍ أسرجت فرساً وصدًى
فازدحمتُ رؤًى ونحوتُ كتابا
قد نذرتُ حروفيَ
للفقراءِ وللأنبياءِ وللشعراءِ
لوردٍ على شرفةٍ وانسربتُ غيابا”.
جاء الديوان ذاكرة وعشق وحنين للوطن وأيام الزمن الجميل والبلاد المشتهاة التي عاشها عبر الآباء والأجداد، فيقول في قصيدة “ذاكرة”:
“شجر أخضر الروح في الذاكرة
قال جدي: هنالك في الجنة الساحرة
تلك أرضي وباكورة الحلم
والغيمة الزاخرة
لملم الخفق يا قلب واجمع خطانا
فلسطين جنتنا الآخرة
غاب جدي ولم تغب الذاكرة”. (ص. 19)
ورغم الغربة والشتات، يستحضرها كلّ الوقت عبر زقاق المخيّم فيقول في قصيدة “ملح على شفتي”:
“بائع الجورنال على دفةِ الكشك
في الكورِ مبتسمٌ كالظهيرة
يعلمُ أني غريبٌ
(غريبُ بمعنى المسافةِ)
كان يحدثني عن أبيه
وعن ثورة البحر ضد الغزاة
يقول: فلسطين أختُ الجزائر
والمستعمرُ الأجنبي سيرحلُ حين تقررُ أرض البلاد وتُعلنُ ثورتها…
كنت أتركه يتحدّثُ…
أذهب أجلس في الكر
أبحث عن وطنٍ في الجريدة”. (ص. 30)
للتهجير والنكبة وأثرها وللمخيّم حضور طاغٍ عبر صفحات الديوان وجاء في قصيدة “حاسة سادسة”:
“في أقاصي المخيم
طفلٌ ميتّمْ
وطفل متيّم
وسحرٌ قديم على أمه الكرمليّة يجثم
وواحدة من نساء الملاحم
تحمل تعويذة
وتفك طلاسم هذا اليباب
عليك بناصية الحلم…
يا ولداً من صدىً”. (ص.44)
مرض الشاعر وقضى سنواته الأخيرة في علاج دائم، وعلى فراش المرض يشعر بالوحدة والحنين والأمل فيقول في قصيدته “في المشفى”:
“ها عدتُ في المشفى وحيدا
ها عدتُ أجلس قرب نافذتي
أطل على المكان أحاور الأشياء
من خلف الزجاج…
بلا جدوى وجودي
بين جدران المشافي والمنافي
لا أدرك لست أذكر كيف جئت
وكيف صرت مقيداً
كسريري المركون في هذا الفناء
وعليّ أن أمضي
على درب الطبيب إلى النهاية…
لا مناص
ولا عتاب على أحد”. (ص.57)
وها هو يمشي على خطى أرابيوس برفقة صديقي صالح حمدوني محاولاً أن يترك بصمة في هذه الحياة ويخاطبه في قصيدته “حكمة الظل”:
“يا أرابيوسُ يا سيد الحكماء
سأقطفُ من شجرٍ في المغيب يديَّ
وومضةَ شمسٍ
أُعلّقها في جدار
لكي يعلمَ القادمون…
هنا قد مررتُ…
ومرت خطانا
على عجل وخيالاتُنا الزائلةْ”. (ص.69)
ويقول في قصيدته “سأزور عيدي”:
“سأزور حارتي القديمة
مرةً في كل عيدٍ…
أسمع التكبيرَ والتهليلَ في الطرقات.
لوحةُ الهنديّ خارطة لأفراحٍ مؤجلّةٍ
على باب المخيّم…
العيد في الحارات أجملُ
ذكرياتُ طفولةٍ منسيةٍ مسبيةٍ
في الريحِ
عالقةٍ على الوجدان
أزور حارتي القديمة مرة في كل عيد
لا لشيء…
إنما أشتاق للغةِ البريئةِ صحبةٍ-لله-صافيةٍ
لعلّي أستطيع قصيدةً حملت رسائلها
سنونوةٌ وحطّتْ عند شُبّاكي؟” (ص. 86)

أما قصيدته “لا أكتب الشعر” التي يحمل الديوان عنوانها فجاءت سيرة مهاجر أقتلع من أرضه وأرض أجداده ليتيه في صحراء لا بدر في ليلها، محاولاً أن يوقد الشمع من ليلة باردة، حاملاً سارية من الحنين، طموحاً بحجم المسيرة من كرمل الذكريات إلى سهل حوران، يدوّن حلمه ويبسط كفّه ليرفع من وتر العشق حدّ التصوّف…ليمسح عن وجه قريته حزنها.
“منذ سبعين عاما
تركتُ خطاي بوادي المغارة
ما بين صبارتين
وعلقتُ أمنية في الدوالي…
أنا لغة راودت فكرةً
وأنا فكرة راودت حجرا
فوقه حجرٌ بعده حجرٌ
شقفه ما نشتهيه وما يفتح الأفقَ دربا لزيتوننا
حيث يمشي إلى ظله في الجليل
يعانق عكا، ويكتبُ:
دبابةٌ جابهت حجرا…” (ص. 127)
يكتب الشاعر أشعاراً لوالديه؛ قصيدة “لأمي” (ص. 11)، وقصيدة “لأبي” (ص. 17)، وأخرى لخاله “رسالة شوق” الشاعر محمد أبو زميرو، وإلى روح جدّه الشاعر حسين أبو زميرو “على شط شنوة”، ويبقى الأمل والتمني سيّد الموقف كما جاء في قصيدة “ضالع في التمنّي”.
كلمة لا بدّ منها؛
حال عودتي من عمان صوّرت الديوان على شرفة الحريّة الحيفاوية وبعثت له بالصورة فشاركها حالاً، من على فرشة المرض، على صفحته وكتب: “الصديق العزيز الحيفاوي حسن عبادي صاحب أرقى مبادرات الثقافة والمقاومة بالكلمة “أسرى يكتبون” يضع نسخة من ديواني الأخير “لا أكتب الشعر” على شرفة من شرفات حيفا ويطوق قلبي بمشهد كرملي قبالة بحر انتظاراتنا. شكرا صديقي حسن. شكرا صالح حمدوني لإيصال نسخة الديوان نيابة عني في ظل ابتعادي في مرضي…فرحتُ جدا”.
عقّبت: “أول الغيث قطرة، ديوانك فأنت…ألف سلامة عليك شاعرنا”، فردّ كاتباً: “يا سلام عليك أيها الرائع! نعم سنعود ونشرب شايا على شرفة من شرفات حيفا”.
لروحك صديقي جمال الرحمة والسكينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة