صدور الأحرار قبور الأسرار
الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلاميّة
تاريخ النشر: 04/10/24 | 8:24في عالم الضوضاء والانكشاف وتعاظُم سطوة وسائل التمزّق الاجتماعي، باتت خصوصيّات الناس مشاعًا، وبتنا نجد أنفسنا نختصر المسافات وندخل البيوت دونما استئذان، نطّلع على أدقّ تفاصيل الأسرة وحياتها اليوميّة، نعرف فطورها وغداءها وعشاءها، نتابع رحلاتها خطوة خطوة، لباسها ومقتنياتها، تكتظّ الصفحات بالصور، بعضها يخدش الحياء، فضلًا عن مقاطع الفيديو الّتي توثّق بالتفصيل مسار هؤلاء في المحلّات التجاريّة والسيّارات والأفراح، بل وحتّى أدقّ تفاصيل حياتهم الشخصيّة والخاصّة، فلا تجد سرًّا يُحفَظ بين المرأة وزوجها، ولا بين الأمّ وابنتها، ولا بين الأخ وأخيه. يغرقوننا صورًا ومقاطع وكأنّهم في بيوت زجاجيّة، دون خجل ولا حياء ولا استحياء.
ولا عجب أنّ نسبة الطلاق في مجتمعنا تتصاعد بوتيرة مقلقة. قالوا قديمًا “البيوت أسرار” بأل التعريف، فحيث تُذاع أسرار البيوت وتُهتك حرماتها، فإنّ أركانها تتهاوى وجدرانها تتصدّع وتُهدَم، ولا يبقى فيها ألفة ولا سكن ولا مودّة ولا طمأنينة، قال عليه الصلاة والسلام: “إنّ من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرّها”. اليوم وللأسف، بات الواحد من الزوجين يُفضي للآخر على الملأ بالصوت والصورة، وكأنّنا أمام مسلسل له أوّل ولا آخر له، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
يقول تعالى في محكم التنزيل: “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا”، ولم تكن الخيانة هنا بالعرض ولا الشرف، وإنّما خيانة في الدين، خيانة لله ورسله، وذلك حين لم تحفظا لنوح ولوط عليهما السلام سرًّا، فكانتا تفشيان أسرار بيتيهما لعموم الناس، ولهذا استحقّتا أبشع الأوصاف الممكنة، وصف الخيانة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قيل في محضر الحروب وكشف الأسرار أنّ “الألسنة المنفلِتة تُغرق السفن”، ذاك أنّ السّر إن وصل العدوّ استغلّه ليوجّه ضربة قاسية قد تكون قاضية. فإن كانت الألسنة المنفلِتة قادرة على إغراق السفن، فهي على إغراق البيوت وتدميرها أقدر، وفي هذا الانفلات إفسادٌ للعلاقات الزوجيّة، وتحطيمٌ لأواصر المودّة والثقة، يقول تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً”، فلا تتحصّل المودّة والرحمة بين الزوجين إلّا حين تسكن النفس بالنفس، وتتحصّن الأسرار في الصدور، فلا يُذاع لهما سرٌّ، ولا ينكشف بينهما ستر، يقول عليه الصلاة والسلام: “طوبى لمن مَلَك لسانَه، ووسِعَهُ بيتُه..”.
والأنكى من ذلك وأشدّ خيانة، هو أن يُفشى سرٌّ بعد طلاقٍ يقع بين زوجين، أو خلاف يحصل بين صديقين، لأنّ هذا الإفشاء يجمع بين الخيانة واللؤم وخبث الطبع وسوء الخلق. كان أبو سعيد الثوري يقول: “إذا أردت أن تُواخي رجلًا فأغضِبه، ثمّ دسّ عليه من يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيرًا وكتم سرّك فاصحبه”، فالمروءة تظهر حين يكون المرء وفيًّا للسرّ دون أن يرتبط ذلك بحسن العلاقات أو سوئها.
ثمّ إنّ حفظ السرّ يعين على النجاح في جوانب الحياة عمومًا، في الجانب الزوجي والأسري، وفي الجانب العملي والعسكري والعلاقات الحياتيّة. كانت أولى وصايا يعقوب ليوسف عليهما السلام حين أخبره برؤياه: “قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا”، حيث أنّ الكتمان من مقوّمات النجاح، قال عليه الصلاة والسلام: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالسرّ والكتمان، فإنّ كلَّ ذي نعمةٍ محسود”، وهي دعوة من رسول الله للاحتفاظ بالخصوصيّة عند مواجهة التحدّيات وحتّى إتمام الهدف، ذاك أنّ الخصوصيّة والكتمان وقاية وحماية وسترٌ عن العيون، وهذا يزيد من فرص النجاح، فالمياه الهادئة تتغلغل ببطء، لكنّها تصل إلى عمق لا يُدركه أحد. قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ”، وقال سيّدنا علي بن أبي طالب: “ليس كلُّ ما يُعلم يُقال، ولا كلُّ ما يُقال جاء أوانه”.
ثمّ إنّ كتمان السرّ وقاية للنفس من الخيبات المعلَنة، وهي أقسى على النفس وأشدّ من الخيبات المكتومة، ذاك أنّ الخيبة حين تكون على الملأ تكسر النفس وتبدّد الطاقات وتجعل الإنسان فريسة للإحباط والعجز، وتفتح أبواب الملامَة للألسنة والعيون، وتثقل الروح بعبء التفسير والتوضيح والتبرير، في حين أنّ كتماننا لسرّ ما نقوم به، أو ما ننوي القيام به، فيه حصانةٌ للنفس، وإبقاءٌ لمساحة واسعة من الستر والكرامة والعزيمة، دون انحسار ولا انكسار.
نتابع جميعًا هذه الأيّام سيرورة الحرب عبر وسائل الإعلام، نشهد مفاجآت هنا وهناك، وتحوّلات على أرض المعركة وأجوائها. هذه التحوّلات ما كانت لتكون لوما نجاح طرف باختراق منظومة السريّة والكتمان للطرف الآخر، هذا الاختراق الّذي يقلب الموازين، ويقضي على الجنود والقيادات، وقد يقضي على المشروع برمّته.
في غزوة الخندق، حفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه خندقًا بالكتمان ودون أن ينكشف لهم سرّ، حتّى فوجِئت قريش وحلفاؤها بخطّة لم يستعدّوا لها. غزا رسول الله يوم تبوك في يوم حرٍّ شديد، وسفرٍ بعيد وعدوٍّ كثير، متّكئًا على عنصر المفاجأة والكتمان، دون أن ينكشف له سرّ. هاجر عليه الصلاة والسلام مكّة ليلًا متستّرًا متكتّمًا، مستخدمًا طريقًا غير مألوف، مصاحبًا أمين سرّه، دون أن ينكشف له سرّ. وقد أحسن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختيار ثقاته ممّن يكتمون السرّ حتّى عن أقرب الناس إليهم. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “أتى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلّم علينا، فبعثني إلى حاجةٍ فأبطأتُ على أمي، فلمّا جئتُ قالت: ما حبسك؟ قلتُ: بعثني رسول الله لحاجةٍ. قالت: ما حاجته؟ قلتُ: إنّها سرّ! قالت: لا تخبرنّ بسرّ رسول الله أحدًا”. نعم التربية الّتي تعزّز فضيلة الثقة والكتمان وحفظ الأسرار وأمان العلاقات.
إذا المرءُ أفشى سرَّهُ بلسانِهِ، ولامَ عليهِ غيرَهُ فهُو أحمق
إِذا ضاقَ صدرُ المَرءِ عَن سِرِّ نفسِهِ، فَصَدرُ الَّذي يُستَودَعُ السِرَّ أَضيَق.