هنا أكون…. أو هناك…حفرت ضوئي بإزميل اللون
تاريخ النشر: 03/12/11 | 22:44أنا هنا …
كأني هنا كنت من قبل ، أو تجسد لي المكان في يقظة بفاس أو غيرها من الأمكنة التي أبسط فيها ذاكرتي للنبش والقبض على بنات الأفكار.
كأني كنت هنا متجليا في ركن أرصد تحركات الروح ..
هل أنا هنا ؟؟ كيف تنوجد الذات في أمكنة نسكنها ولم نصلها ؟
شدني المكان بعطر الزيتون وصمود شجر الرامة وهي تؤرخ لما قبل الحب، بدماثة أرض أنجبت حنظلة…أسئلة كونية وأخرى وجودية تسابق إلى ذهني، وأنا أحاول أن أكون مقاما من مقامات الصوفية أساقب الإمام الصندحاوي الذي ينير “كفر قرع” بثلاث ليلية واثنان ضوئية، وما خفي كان في ميزان القبول، وأنا أرتل ما تيسر من الذكر، وأحن إلى تراتيل القرويين بفاس.
الهنا… أو الهناك… أيهما أقرب إلي … أقترب أكثر.. أحس بلوعة المكان والتواجد .. أتراجع إلى أناي أبحث في ثناياي عني، أنكش في دفاتري عن سطر مخبئ ليوم كريهة أو طعان خلس، وأصبر النفس برذاذ الأمل الذي يبشر بميلاد ملاك….
هنا … كيف نتواجد في مكان هو منا وفينا ؟ كيف نوجد حيث لا نكون ؟ كيف بفاس أكون وأنا هنا ؟ كيف أكون هنا وأنا بفاس ؟ أي ضوء هلامي هذا الذي يفتح معراج الروح إلى ميتافزيقا الكون؟؟؟ بفاس أكون وأتحلى في عين الغربال …أنقب في العمق عن لغة خميائية كميائية.. تختلف الكلمات لكن الحروف واحدة…تتعدد الأجناس والأعراق والديانان، لكن الإنسان واحد …أنا هنا ويتجلى “الهنا” في سر إلهي مكنون في أربعة عشر حرفا ” نص حكيم قاطع له سر”.
أنا هنا وأحمل معي عمق المدينة التي هيجت نفسي بالعودة لتاريخها المنفتح على الديانات والثقافات والأعراق، تلك ال “فاس” التي علمتني ما لا أعلم، وبين دروبها التي تقود للمعرفة حتما، شاهدت التعايش والتساكن والتسامح والحلم، ولمست احترام الحيوان، وانفتاح الأمكنة على الأفضية، المتساكنة جهرا، تجارة وعلما، مرورا وسكنا، فاس وحدها كفيلة بتلقين المبتدأ والخبر، والبقية تجرأ على نشرها العلامة ابن خلدون في كتابه ” كتاب العبر…” الذي رصع حروفه في بيت هو الآن يئن بفاس تحت وطأت عوادي الزمن والإنسان، حيث تفاصيل فنون العمارة وعلوم الاجتماع وما خفي كان أعظم…ومن قرأه كان من الجهل أسلم.
هنا استحضر الكل ولا استثني أحدا، أنا هنا بصيغة جمع متعدد التكوين والتلوين، وكأني أحمل معي غيري لكي أتذاوت مع محيطي الذي اكتشفته منسجما ومتكاملا، لا فرق بين مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مسيحي ولا لا ئكي..إلا في اللغة، يتعملق الإنسان متحدا متحديا صيغ الفرادة الإنية، ليكتب مسيرته بعمق شفيف، ويحاور إنسانيته المتجلية هنا وهناك وفي كل المعمور البيضوي. بعين الغربال وجدت لغات فنية، ومدارس تشكيلية، واتجاهات لونية، وتقنيات تعتمد على الكائن والممكن، رسما وتشكيلا ونحتا وشعرا…تنفتح اللغة الفنية وتحاور صمتي المعقم بأسئلة تعرف كيف تمسك بتلابيب الجواب في محاولة لسبر أغوار اللوحة وفهم أسرارها المبثوثة فكرا وتقنية، وحده النحت ينتصب مبهورا من غفلة التراب، يبعث حيا بصيغة أخرى بعد تجديد روح الصخر وتطويع أشكاله الطبيعية، هي لغة الإزميل والحفر التي تكشف عن لغات “هيكل” .
في عين الغربال تم إعادة تكويني سرا، وأنا أرى ما أريد، وأتبع ما أسمع، وأرتب سعة المكان: فنا وشعرا وتشكيلا ونحتا وتلقينا ونشرا لمعرفة أسرار البيئة المغصوبة فينا قهرا ونكدا، هنا تنفتح أمامي مسالك القراءات، وأسائل وجودية “سارتر” وفوضوية” جاك بردون” وشكوك ” ديركات” وعقلانية”كانط”، وأحاور أبا حيان التوحيدي، وأعارض “نقد ملكة الحكم”، ويكون رجع صدى الأسئلة فتنة “ديدرو” ويقينية ” باشلار”، تحضرني قصائد المتنبي ومقامات الحريري والمعلقات السبع، ليفضح عريي المسكون بحرف الضاد ” سيبويه” العميق و” ابن عقل” في شرحه الذي يحتاج اليوم إلى شرح ينقح هشاشة اللغة، ويجدد فينا الهوية المغبونة .
في عين الغربال كانت لي مناسبة سانحة لأعيد قراءة قصائد الشاعر العميق إبراهيم أبومالك وأنفتح على حروفه الشعرية وهي تغربل الكون، وتحفر مسالك الهوية بين الجزائر، وتونس، وبلاد المجر، وفلسطين، بمعاول إنسانية.
في عين الغربال تعلمت كيف أشاهد من جديد أعمال الفنانة الرقيقة رانية عقل، وهي ترصد حق العودة من خلال المثابرة باللون والخط والخامات المتاحة، وهي تطوع الحرف والصخر، وتفتح مسارات البعد المعرفي للخريطة الموجوعة، وهي تجمع بعين الغربال ما افترق في مصب النهر المتدفق ماؤه،زيتونا.
في عين الغربال ركبت مع الفارس المغوار الفنان أحمد كنعان، كل الأحصنة التي جسدها رسما أو نحتا أو حفرا، وهو يثير نقع الأسئلة في أسنة الرماح القادمة، وأدركت أن الزمن يقاوم صدأ الفرس الذي يتربص بالفن.
في عين الغربال عاينت تجارب الضوء، ومسارات الشكل، وفتحت تجربتي لكي أتمثل كل الصيغ المعرفية والتشكيلية التي انطبعت في ذاكرتي متأثرا ومؤثرا في أعمال الفنان خضر وشاح وهو يعيد وشم الجلد في الحرف، وفي أعمال الفنان عبد الرحبم العرجان وهو يسائل هوية الضوء، ويرمم جغرافيات منسية، وفي أعمال الفنانة بثينة ملحم وهي تنسج من جديد علامات تسمو في أرض مقدسة، وفي أعمال الفنانة هدى جمال هي تحاصر بموادها الأليمة انبعاج الكلمة من صمت الطين.
في عين الغربال اقترفنا أنا والكاتب عبد الرؤوف أبو فنة، غواية البحث عن أجوبة ممكنة لأسئلة تقود حتما لمعرفة البواطن قبل الظواهر.
في عين الغربال كان أسامة ملحم يطبخ خلطاته الطبيعية، لكي يطعم شخوصه القادمة من تيه اليقين.
في عين الغربال كان محمود ولبنى، وهما يضيئان المكان بالهدى وقناديل أخرى.
في عين الغربال كانت “لموش” وهي تخط بأناملها الطفولية البرئية، رسالة/وصية، وتطرز بحروفها مناديل المحبة، وكانت ” هيا” وهي ترصع الفضاء بابتسامة بالغة، وكان “كريم” وهو يقتنص اللحظات، ويوثق للزمن القادم. ومازال الورد يعطرني بالورد.
في عين الغربال استحضرت أستاذي الفنان والبداغوجي الوامق سيدي محمد ابن كيران وأنا أشاغبه بأسئلتي التي تنبش في طلحب الوقت، كان يرافقني ويقوم اعوجاجي، وأنا أعيد له بهاءه المنسي في حي ” درب الجياد” بفاس، رجل لا أعرف كيف يمدد، ويطوع ساعات اليوم، لكي تصبح أكثر من 24 ساعة، يقرب المسافات التشكيلية، ويعمق الحوار، ويرصف الطريق، لجمهور المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بفاس.
في عين الغربال كنت قاب قوسين أو أدنى، ورأيت بالبصيرة، وسمعت بالبصر، ولمست بالسمع، وشاهدت بالذوق، كل أشكال الحب وهي تقربني إلى الله.
في عين الغربال كنت، ومعي هالات من الضوء
تنير مساري
ما في الفن غيرنا
ما ترسمه يوقع اسمك
كن أنت ولا تكن غيرك
فنك سرك
ما تكنه يكونك
فلا تبحث عن البعيد فيك
واقترب منك
فنك فيك
ينضح بما أنت
واحرص على شموخ روحك
سعيد العفاسي
كفر قرع / فلسطين في 18 نونبر 2011
جميل جداً
كل الاحترام للكاتب ..اشي قيَم ومهم
وللموقع الذي يفسح لنا المجال للانفتاح على الثقافة العربية والعالمية
والى الامام
[…] في هذا السياق حول الفنان والكاتب: هنا أكون…. أو هناك…حفرت ضوئي بإزميل اللون حوار مع الفنان التشكيلي المغربي سعيد العفاسي في […]
[…] مشاركة متميزة لفنانين من فلسطين بمهرجان فاس الدولي هنا أكون…. أو هناك…حفرت ضوئي بإزميل اللون فنانين عرب بافتتاح معرض”الوضع الراهن” في تل ابيب […]