الفقر ووعي الفقر !
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 08/10/24 | 19:53الفقر وحده لا يُشعلُ الثوراتِ؛ بل إنَّ وعيَ الإنسانِ بفقرِهِ وبأسبابِه هو الذي يولِّدُ الثورة. فالطاغيةُ يسعى جاهدًا إلى إفقارِ الشعوبِ، ولكنَّ دورَه لا يكتملُ إلا بوجودِ حليفٍ له، وهو “شيخُ الطاغيةِ” أو رجلُ الدينِ الذي يسعى لتغييبِ وعيِ الفقيرِ، وجعلِ عقلِه غارقًا في قناعاتٍ وهميَّةٍ تُبعدُه عن إدراكِ الأسبابِ الحقيقيةِ لمعاناتِه. “ماركس”
الفارقُ بين “الفقيرِ” و”الغنيِّ”، وبين “الفقرِ” و”الغنى”، يبدو واضحًا لكلِّ من يراه؛ فهو كالفارقِ بين الليلِ والنهارِ. ولكنَّ معرفةَ هذا الفارقِ السطحيِّ لا تُساهمُ في تغييرِ الواقعِ، فحتى الحيواناتِ الضالةِ تُميزُ بين القمامةِ الفقيرةِ والقمامةِ الغنيَّةِ. لكنَّ وعيَ الفقرِ لا يكمنُ في هذه المعرفةِ البسيطةِ، بل في إدراكِ الأسبابِ التي تقفُ وراءَ هذا الفقرِ والغنى. الوعيُ الحقيقيُّ هو أنْ تُدركَ أنَّ الفقرَ والغنى ليسا مجردَ حالتينِ منفصلتينِ، بل إنَّ الغنى غالبًا ما يولَدُ من رحمِ الفقرِ، والفقرُ يُغذَّى بتكدُّسِ الثروةِ لدى الأغنياءِ ، تعريف الشمس كمصدر للضوء والحرارة ليس بحد ذاته وعيًا للشمس، بلْ إنَّ وعيها يكمن في إدراك السبب وراء ضوءها وحرارتها. يتعلق الأمر بفهم الاندماج النووي في جوف هذا النجم باعتباره المحرك وراء توليد ضوء الشمس وحرارتها..
الطاغيةُ ليس مجردَ حاكمٍ جائرٍ أو مستبدٍّ؛ إنَّه نظامٌ قائمٌ، طريقةٌ في إدارةِ الحكمِ والمواردِ تسمحُ لفئةٍ صغيرةٍ من المجتمعِ بالسيطرةِ على ثرواتِه. هذا النظامُ الهرميُّ يستندُ إلى قاعدةٍ متينةٍ من الاستغلالِ والظلمِ، حيثُ يتطلبُ استمرارُ الثروةِ للفئةِ الحاكمةِ إفقارَ الفئاتِ الأدنى. الضرائبُ هي إحدى وسائلِ هذا النظامِ؛ تجمعُ الأموالَ من الشعبِ تحتَ ذريعةِ المصلحةِ العامةِ، ولكنَّها في النهايةِ تُنهَبُ لصالحِ تلك الطبقةِ الحاكمةِ التي تعيشُ في رفاهيةٍ على حسابِ معاناةِ الفقراءِ.
ولأنَّ النظامَ الاستبداديَّ يدركُ أنَّ الفقرَ وحدَه قد يولِّدُ السخطَ، فهو بحاجةٍ إلى أداةٍ لترويضِ العقولِ، وهنا يأتي دورُ “شيخِ الطاغيةِ” أو رجلِ الدينِ. هذا الرجلُ يتلقى جزءًا من الثروةِ المسروقةِ مقابلَ أنْ يقومَ بمهمةٍ خطيرةٍ: تغييبِ وعيِ الفقراءِ. عملُه ليس مجردَ توجيهٍ روحيٍّ؛ بل هو عمليةٌ منظَّمةٌ لإقناعِ الفقراءِ أنَّ فقرَهم قدرٌ محتومٌ، وأنَّ اللهَ قد أرادَ لهم هذا المصيرَ. فيملأُ رؤوسَهم بأفكارٍ تُثنيهم عن التمرُّدِ، وتجعلُهم يرونَ في الفقرِ نوعًا من الاختبارِ الإلهيِّ الذي يجبُ تحمُّلُه بالصبرِ والرضا.
شيخُ الطاغيةِ لا يكتفي بذلكَ، بل يروِّجُ لفكرةِ أنَّ الفقرَ والغنى ليس لهما علاقةٌ ببعضِهما البعضِ. فهو يُصورُ الفقرَ كحالةٍ طبيعيةٍ، مفروضةٍ من السماءِ، وأنَّ اللهَ قد قسمَ الأرزاقَ وفقَ إرادتِه. الفقراءُ، في هذا التصورِ، ليسوا ضحايا للنظامِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ الظالمِ، بل هم جزءٌ من ترتيبٍ إلهيٍّ، تم اختيارُه بعنايةٍ. الأغنياءُ ليسوا مستغلينَ، بل هم مباركونَ بنعمةِ اللهِ، يُظهرونَ آثارَ فضلِه فيما يأكلونَ ويلبسونَ، بينما الفقراءُ مطالبونَ بالرضا والقناعةِ، وعدمِ السعي إلى تغييرِ واقعِهم بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ.
إنَّ تمردَ الفقيرِ على واقعِه، وفقًا لهذه الرؤيةِ، هو تمردٌ على إرادةِ اللهِ نفسِه. من هنا، يأتي التحذيرُ الشديدُ بأنَّ الفقراءَ الذين يثورونَ ويطالبونَ بالعدالةِ الاجتماعيةِ يُعتبرونَ عصاةً وكافرينَ. يُدعى الفقيرُ إلى الصبرِ والتحمُّلِ، وإلى أنْ يرى في فقرِه اختبارًا من اللهِ لإيمانِه وقوةِ تحملِه. يُطلبُ منه أنْ يقبلَ بالفقرِ، وأنْ يجتهدَ في العبادةِ والدعاءِ، متمنيًا أنْ يمنَّ عليه اللهُ بالغنى في الآخرةِ، وليس في الدنيا.
من ناحيةٍ أخرى، إذا ما سعى الفقيرُ إلى تحسينِ وضعِه الماديِّ من خلالِ الثورةِ أو المطالبةِ بحقوقِه، فإنَّ ذلك يُعتبرُ سرقةً في نظرِ رجالِ الدينِ ومنظومةِ الاستبدادِ. بينما يُعتبرُ استغلالُ الأغنياءِ لثرواتِ المجتمعِ وإفقارُهم للفقراءِ أمرًا مشروعًا و”حلالًا”. هذا المنطقُ يجعلُ الفقيرَ رهينةً لفكرِه المغلقِ، يمنعُه من رؤيةِ أنَّ ثرواتِ الأغنياءِ تأتي مباشرةً من عرقِه وجهدِه المسلوبِ.
يُطلبُ من الفقيرِ أنْ يقبلَ الحياةَ في “وادي الدموعِ”، حيثُ يعيشُ في معاناةٍ وجوعٍ وألمٍ لا ينتهي، على أملِ أنْ يجدَ الراحةَ والسعادةَ في الآخرةِ. يُغذَّى على وعودِ الجناتِ وحورِ العينِ والنعيمِ الأبديِّ، بينما يُتركُ في الدنيا ليعيشَ في شقاءٍ وحرمانٍ. يُطلبُ منه الصبرُ على الظلمِ والاستغلالِ، مع التحذيرِ من مغبةِ التمرُّدِ أو السعي إلى الثورةِ، لأنَّ ذلك سيؤدي إلى خسارتِه الدنيا والآخرةَ.
هذا الوعيُ المزيَّفُ الذي يبثُّه “شيخُ الطاغيةِ” في عقولِ الفقراءِ يخلقُ نوعًا من الاستسلامِ التامِّ. فهو يجعلُ الفقيرَ عدوًا لنفسِه، يعادي حقوقَه الأساسيةَ، ويرى في أيِّ محاولةٍ للتحرُّر من هذا الفقرِ تمردًا غيرَ مقبولٍ. يُغرقُ الفقيرَ في قناعاتٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ تجعله يرى في طاعتِه للظلمِ فضيلةً، وفي تمردِه خطيئةً.
أمَّا “الشرطيُّ الأرضيُّ”، الذي يعملُ لصالحِ الطاغيةِ، فهو أكثرُ حذرًا من أنْ يثقَ تمامًا بفعاليةِ “الشرطيِّ السماويِّ”، أي الأفكارِ الدينيةِ التي يزرعُها رجلُ الدينِ في عقولِ الفقراءِ. هذا الشرطيُّ الأرضيُّ يدركُ جيدًا أنَّ الجوعَ لا يمكنُ أنْ يتحولَ إلى بردٍ وسلامٍ في قلوبِ الجياعِ، ولهذا يجتهدُ في فرضِ النظامِ بالقوةِ، لضمانِ استمرارِ السيطرةِ.
الفقرُ، عندما يقترنُ بسيطرةِ “شيخِ الطاغيةِ” على عقولِ الفقراءِ، يُحولهم إلى قطعانٍ ماشية . ولكن الفقرَ الذي يقترنُ بالوعي الحقيقيِّ، بالقدرةِ على إدراكِ الأسبابِ الحقيقيةِ للفقرِ، هو الذي يُشعلُ الثورةَ. الثورةُ لا تولدُ من مجردِ الحاجةِ، بل من الوعيِ العميقِ بالظلمِ والاستغلالِ، ومن الرغبةِ في تغييرِ هذا الواقعِ القاسيِ.