أُحجية وحُجج القضاء والقَدر!
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 14/10/24 | 14:15لطالما كان سؤال “هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟” يشغل العقول منذ الأزل. هذا التساؤل ليس من النوع الذي يمكن الحصول فيه على إجابة قاطعة، بل هو يظل يثير الفضول ويدفعنا إلى البحث المستمر عن جواب يُخفّف من قلقنا الفكري. فهو ينشأ من رغبة الإنسان في اختبار حدود إرادته الحرة.
في واقع الأمر، هذا السؤال نابع من العجز الذي يشعر به الإنسان عندما يدرك عدم قدرته على تحقيق الحرية الكاملة في أفعاله. فهو ليس حراً في كل ما يفعل، بل يتعرض دائماً لقوى خارجة عن إرادته تؤثر على ما يستطيع تحقيقه. هذا التناقض هو ما ولّد فكرة “التسيير والتخيير”.
والإشكالية تعمقت نتيجة الفهم الخاطئ لمفهوم “الحرية” و”حرية الإرادة الإنسانية”، إذ أوجدت العديد من العقبات الفكرية أمام التوصل إلى إجابة ترضينا. فنحن نجد أنفسنا نلجأ لمفاهيم مثل “القضاء والقدر” عندما تقع علينا المصائب، مبررين تلك الأحداث بأنها مكتوبة مسبقًا.
وغالبًا ما يتذرع بعض الناس بفكرة “كل شيء مكتوب” للهروب من مسؤولياتهم. فعندما يتسبب شخص ما بحادث نتيجة تهوره، يتذرع بأن الحادث كان مقدرًا ولا مفر منه، متجاهلاً أن تهوره هو الذي قاد إلى تلك النتيجة.
الإنسان يعيش دائمًا بين متناقضين؛ فهو يشعر بالحرية من جهة، ولكنه يدرك القيود التي تفرضها عليه الظروف الطبيعية والاجتماعية من جهة أخرى. ولهذا، لا يمكن فهم “حرية الإرادة” إلا إذا اعتبرناها نتيجة لوعي الإنسان بالقوانين الطبيعية والتاريخية التي تحدد مسار أفعاله.
على سبيل المثال، هل يمكنني تحضير كوب من القهوة وقتما أشاء؟ الإجابة هي “نعم” و”لا” في آن واحد. فأنا حر في تحضيرالقهوة ، لكن ذلك مرهون بشروط معينة، مثل غليان الماء وذوبان القهوة فيه. إذا لم تتحقق هذه الشروط، فلن أتمكن من تحقيق ما أريد.
إذاً، قدرة الإنسان على الفعل مشروطة بمدى إدراكه للواقع ووعيه بالقوانين التي تحكم هذا الواقع. هذه القوانين تمثل جزءًا من الواقع الموضوعي الذي يتعين عليه احترامه وتطبيقه حتى يحقق ما يريد.
إدراك هذه الحقائق يقودنا إلى تساؤل أعمق: “كيف يمكن للإنسان مواجهة الكوارث المحيطة به؟” فالتاريخ ليس مقدراً بشكل كامل، بل هو عملية مستمرة في التشكّل. وعلينا أن ندرك أن “القضاء والقدر” ليسا حجة نعلّق عليها أخطاءنا وفشلنا.
محاولة التوفيق بين مفهوم “التسيير” و”التخيير” تبدو مستحيلة. على سبيل المثال، إذا ارتكبت خطيئة، فهل فاجأت بذلك الخالق؟ بالتأكيد لا، فالخالق يعلم مسبقاً كل ما سأفعله. ومن هذا المنطلق، فإن اختياري ليس سوى جزء من علمه الأزلي. وهذا يقود إلى سؤال آخر: إذا كان الخالق يعلم أنني سأرتكب خطيئة، فهل كان بإمكاني تجنبها؟
للدفاع عن “التخيير”، يُطرح مثال: أنت تعرف ابنك جيدًا، وتتوقع أن يرتكب خطأ ما، لكنك لم تجبره على ذلك. غير أن هذا التشبيه ليس دقيقًا عند الحديث عن الخالق، لأن علمه يشمل كل شيء ولا مجال لمفاجأته. فحتى لو علم الأب بتصرف ابنه، يظل الابن قادرًا على مخالفته، أما مع الخالق، فلا يمكن أن يحدث شيء خلاف ما هو معلوم لديه.
الخالق، بصفته “عالم الغيب والشهادة”، لا يخلق فقط الخير بل الشر أيضًا، فهو خالق لكل ما يأتي به البشر من أفعال، سواء كانت صالحة أو طالحة. ومشيئة الإنسان لا يمكن أن تخرج عن مشيئة الخالق، فهو الذي جعل لنا القدرة على الفعل ضمن حدود قدره.
لذا، القول بأن الإنسان مخير لأنه يستطيع تمييز الصواب من الخطأ، هو قول لا يحل الإشكال. فمهما تميّز العقل ووعى الإنسان، تبقى إرادته في النهاية تحت مظلة مشيئة الخالق.
إذا أردنا فهم “حرية الإرادة” من منظور علمي أكثر، يمكننا تخيّل أن الذرات الاوكسجين إذا كانت تمتلك وعيًا أو افترضنا أنّها تملك وعياً، فلن تتمكن من تشكيل جزيء الماء إذا لم تتوفر لها الظروف اللازمة لذلك. إرادة الذرات لا تكفي وحدها، بل تحتاج إلى ذرات هيدروجين ( الشروط الموضوعية لتحقيق تلك الرغبة). وهذا يشبه تمامًا وضع الإنسان في محاولته لتحقيق إرادته في العالم.
الحرية الحقيقية تتحقق عندما تتوافق إرادة الإنسان مع الواقع الذي يتحرك فيه، والنجاح هو عندما تأتي نتائج أفعاله مطابقة لما كان يتوقعه. أما الفشل فيعني حدوث ما يناقض توقعاته، نتيجة عدم وعيه أو تجاهله للقوانين التي تحكم العالم.
يظهر الفرق بين “الحرية” و”العبودية” في مدى قدرة الإنسان على معرفة قوانين الطبيعة والعمل بما يتناسب معها. فهو لا يولد حرًا، وإنما يكتسب حريته شيئًا فشيئًا مع تقدمه في اكتشاف هذه القوانين والوعي بها إنّه كمن يصعد سلَّم لا نهاية له .
“الضرورة” كامنة في كل ما نراه من ظواهر طبيعية، وكل حدث هو نتيجة حتمية لأسباب متعددة. وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض الأحداث قد تبدو عشوائية لنا بسبب جهلنا ببعض العوامل المؤثرة فيها، ما يجعلنا نصفها بـ”المصادفة”.
لكن حتى هذه المصادفة تتجلى في إطار الضرورة، فظهور أي حدث يعتمد على توفر شروطه، وعدم تحقق تلك الشروط يؤدي إلى غيابه. وحتى الظروف الطارئة، مثل الرياح التي تقتلع جذور الشجرة وتمنعها من الإثمار، هي نفسها جزء من النظام الحتمي الذي يحكم الوجود لذلك نقول المصادفة الخالية من الضرورة لا وجود لها .
الإنسان، الذي لا يُولَد حراً كما يعتقد البعض، لن يمتلك من “الحرية” و”المعرفة” إلا بقدر ما ورثه وحققه. وسيبقى في رحلة صعود لا تنتهي، ينتقل فيها من “العبودية” إلى “الحرية” ومن “الجهل” إلى “المعرفة”. فهذا الإنسان الذي خرج للتو من رحم أمه يُمثِّل “العبودية القصوى” و”الجهل الأعمق”.
“الضرورة” تتجلى في كل ما نراه من أشياء وظواهر؛ فما ظهر أو وُجد، تحقق بفضل توافر “أسباب” وجوده. فليس هناك شيء يظهر إلا بتكامل وتوافر شروط ظهوره.
هذه هي “الحتمية” التي لا جدال فيها، ولا ينكرها إلا من أعمى البصر والبصيرة. فالشيء الذي كان يجب أن يظهر ولم يظهر هو في الحقيقة الشيء الذي لم تكتمل أسبابه، والتي لا يمكننا إدراكها جميعًا، فقد اكتشفنا بعضها والبعض الآخر لا يزال مجهولاً.
والشيء الذي كان يجب أن يظهر ولم يظهر، هو ما أُحبِطَت مسيرته بسبب “قوى وأسباب طارئة” نسميها “المصادفة”. على سبيل المثال، الشجرة التي كان يُفترض أن تُثمر قريباً، لأن أسباب إثمارها قد أوشكت على الاكتمال، ولكنها لم تُثمر بسبب ريح عاتية اقتلعت جذورها. هذه الريح تمثل “المصادفة”.
لكن تلك “الريح” ذاتها، التي منعت الشجرة من إثمارها الحتمي، لم تكن هي الأخرى إلا نتاجاً لـ”الحتمية”، إذ اجتمعت الأسباب لوجودها فظهرت. و”هلاك الشجرة” وطريقة موتها هما أيضاً جزء من “الحتمية”، إذ لا توجد “واقعة” تخلو من “الضرورة”.
من ينكر هذه الحتمية ينكر أيضًا إمكانية المعرفة، لأن نفي الضرورة يعني أن كل شيء ممكن وغير متوقع. وإذا فقدت القوانين الطبيعية معناها، فكيف يمكننا فهم العالم من حولنا؟
كل واقعة هي نتيجة لسبب ما، وكل نتيجة تؤدي بدورها إلى سبب جديد. وحتى عندما نفشل في تحقيق هدف ما، فإن هذا الفشل يعكس حدود وعينا وقدرتنا على التحكم في الظروف.
هكذا، يستمر الإنسان في رحلة دائمة نحو فهم أعمق لحريته. فهو لا يزال يتحرك بين قيد الضرورة وفسحة الحرية، يحاول جاهدًا توسيع حدود إرادته ضمن إطار القوانين التي لم يصنعها لكنه يسعى لفهمها والتحكم فيها.