ببساطة…تباطؤ الزمن!
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 25/10/24 | 11:45يشكل الزمن لغزاً محيراً في الفيزياء، يختلف فهمه تماماً مع ازدياد السرعة أو شدة الجاذبية. بفضل نظريات آينشتاين، بات مفهوم الزمن أكثر تعقيداً وتفرداً. إذ تُشير النظرية النسبية العامة والخاصة إلى أن الزمن لا يسير بنفس الوتيرة في كل الظروف، بل يبطؤ كلما زادت السرعة أو كلما زادت شدة الجاذبية.
كيف يتباطأ الزمن؟
عندما نتحدث عن “تباطؤ الزمن”، فإننا نعني أن الحوادث والأحداث تستغرق زمناً أطول لحدوثها، لكن ليس وفقاً لمن يعيش تلك التجربة، بل وفقاً للآخرين الذين يراقبونها من خارج نطاق التجربة. فمثلاً، عندما تكون في مركبة فضائية تتحرك بسرعة فائقة، فإن دقات قلبك ستظل تُحسب بنفس المعدل الذي تعتاد عليه ،75 نبضة في الدقيقة الواحدة. بالنسبة لك، يبدو كل شيء طبيعياً، وكأن الزمن يسير كما هو معتاد. لكن، بالنسبة لي أنا الجالس على كوكب الأرض وأراقبك من بعيد، سأرى أن قلبك ينبض ببطء شديد، ربما فقط 5 نبضات في الدقيقة. هذا الاختلاف ليس بسبب تغيير في ساعتك أو ساعتك الداخلية، بل هو نتيجة التفاوت في كيفية مرور الزمن بالنسبة لكليْنا.
التجربة العكسية: من تباطؤ الزمن إلى تسارعه
المسألة تصبح أكثر إثارة عندما ننظر إلى الأمور من زاوية معاكسة. فأنتَ الذي تتحرك بسرعة فائقة أو في مجال جاذبية شديد، ترى أن الوقت عندي على كوكب الأرض يمر بسرعة فائقة. تبدو لي الأحداث أسرع، وقلب الإنسان العادي يبدو وكأنه ينبض بسرعة خيالية ،ربما 600 نبضة في الدقيقة حسب ساعتك. في هذا السيناريو، لو كنت توأمي وسافرت في مركبتك، ستعود وتجدني وقد تقدمتُ في العمر بسرعة بينما أنتَ بقيت شاباً. هذا الاختلاف في معدلات مرور الزمن بيننا هو ما يجعل من النسبية تجربة مثيرة للعقل، إذ يُظهر أن الزمن ليس شيئاً مطلقاً بل هو نسبي، يعتمد على الظروف المحيطة بنا.
لكن لماذا تتسبب السرعة والجاذبية في تباطؤ الزمن؟
هذا السؤال من أكثر الأسئلة الغامضة في الفيزياء، ولم تجد له الإجابة الشافية بعد. لماذا تُبطئ السرعة أو الجاذبية من مرور الزمن؟ لا توجد نظرية فيزيائية تُفسر هذا بالكامل بعد. نعرف أنه يحدث، ونفهم بعض الآليات التي تسبب هذا التباطؤ، ولكن السؤال عن “لماذا” لا يزال مفتوحاً للتأمل والبحث.
ومع ذلك، توصلت الفيزياء إلى الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية في هذا المجال:
هل يتباطأ الزمن؟ نعم، أكدت التجارب والنظريات صحة ذلك، سواءً عند السرعات العالية أو في حقول الجاذبية القوية.
ما الذي يسبب تباطؤه؟ يتسبب كل من زيادة السرعة أو زيادة شدة الجاذبية في تباطؤ الزمن.
كيف تتسبب السرعة والجاذبية في تباطؤه؟ نظرياً، كلما اقتربت السرعة من سرعة الضوء، زاد تباطؤ الزمن. وبالمثل، كلما اقتربت من جسم ذي جاذبية كبيرة، مثل ثقب أسود، يتباطأ الزمن بشدة.
تخيلوا هذا السيناريو: رحلة عبر الزمن
لنتخيل الآن سيناريو يعكس هذه الأفكار، لنستوعب أبعادها الزمنية. لنفترض أن حضارة متقدمة جداً وُجدت على كوكب الأرض قبل 8 ملايين سنة. وكان هناك رَجل عمره 40 عاماً قرر السفر في مركبة فضائية إلى كوكب يبعد عن الأرض 100 مليون سنة ضوئية. زادت سرعته تدريجياً حتى اقتربت من سرعة الضوء، مثلاً 290 ألف كيلومتر في الثانية، ليبدأ رحلته المذهلة.
هذا الرَجل، الذي غادر كوكب الأرض منذ ملايين السنين وفقاً لساعتنا الأرضية، يعود الآن إلينا في 24 أكتوبر 2024. لكن المفاجأة تكمن في أن عمره الآن أصبح 41 عاماً فقط ،لقد كَبُرَ عاماً واحداً منذ رحيله! بينما مرَّت على الأرض 8 ملايين سنة من التطور والتغيرات الجغرافية والبيولوجية، لم يشعر هو إلا بعام واحد إضافي في حياته.
ما الذي يحدث هنا؟
في تلك الرحلة، قطع الرجل مسافة فضائية تُعادل 200 مليون سنة ضوئية (ذهاباً وإياباً)، ولكنه عاشها كما لو كانت مجرد 12 شهراً وفقاً لساعته الخاصة. وعلى الرغم من أن سرعته لم تصل لحد سرعة الضوء، إلا أنها كانت كافية لتجعل الزمن يتمدد بشكل هائل بالنسبة له. وعند عودته إلى الأرض، يجد نفسه شاباً أمام حضارة جديدة تماماً لا يعرف عنها شيئاً، وكأنه قد عاد من مستقبل سحيق لم يكن يدركه….فيا لعبقريتك يا آينشتاين.
هذا السيناريو يعكس مفهوم تمدد الزمن، حيث لا يقتصر التأثير على الأبعاد الفيزيائية، بل يتسرب إلى جوهر فهمنا لمرور الوقت ذاته. وكم هو مذهل أن تتيح لنا هذه النظرية استيعاب رحلات خيالية كهذه. إنها لا تجعل من السفر عبر الزمن أمراً ممكناً فحسب، بل تفتح أبواباً لفهم أعقد جوانب الكون.
لا يمكننا إلا أن نُعجب بعبقرية آينشتاين، الذي فتح لنا أبواب هذه العوالم غير المتوقعة. فكرة أن الزمن ليس ثابتاً، بل يتباطأ ويتمدَّد وفقاً لعوامل مثل السرعة والجاذبية، جعلت من التفكير العلمي أكثر انفتاحاً نحو حقائق جديدة قد تبدو غريبة ولكنها ثابتة في علم الكونيات.
تأملنا لهذا السيناريو يجعلنا ندرك مدى هشاشة مفاهيمنا التقليدية عن الوقت. الزمن ليس فقط عقرب ساعة يسير بلا انقطاع، بل هو مرن، يتأثر ويتشكل بما حوله. والآن، عندما ننظر إلى النجوم، نتساءل: كم من هؤلاء الرحّالة المجهولين قد يعود إلينا يوماً ما، وقد عاشوا عاماً واحداً بينما الأرض تجاوزت عصوراً؟.