جدلية الروح والجسد في نص “حكاية جدار” للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور
الدكتورة مها القصراوي
تاريخ النشر: 28/10/24 | 14:02ناصر أبو سرور أسير فلسطيني، اعتقل في عام 1993 بعد تنفيذ عملية استهداف أحد الضباط الصهاينة، وحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة، وهو من قرية بيت نتيف إحدى قرى الخليل التي احتلت عام النكبة 1948 ولد وترعرع في مخيم عايدة على أطراف مدينة بيت لحم.
يهدي ناصر نصه السردي إلى مزيونة أمه التي ما عادت ترى بعد أن ضعف بصرها وهي تنتظر خروجه، وإلى ننّا الحبيبة التي فقدت قدرتها على مواصلة العلاقة مع ناصر وهو المحكوم المؤبدي، وامرأة أخرى هي شذا التي ما زالت قادرة على رؤيته.
“حكاية جدار” نص سردي، حدد جنسه الأدبي على غلاف الكتاب أنه رواية، ولكن من يتأمل في تشكيل النص يتجلى له أنه تمثيل لتداخل الأجناس الأدبية، فقد اجتمعت الرواية مع السيرة الذاتية مع القصيدة في نسج بنية هذا النص، وإن كان أقرب للسيرة الذاتية. وقد أبدع ناصر في المزج بين هذه الأجناس بلغة شعرية تكشف قدرته البلاغية في تطويع اللغة، وهو يقول في مقدمة النص أنه يتمنى للقارئ قراءة وعرة، لأننا أمام نص استثنائي يحمل في طياته نصوصا عدة تبكيك وتفرحك وتغرقك في الحب والألم.
وقبل الغوص في متن النص نتوقف عند عتبته، فالعنوان حكاية جدار يكشف حالة التوحد والتماهي بين الراوي وجدار الزنزانة حيث لا يمكن الفصل بينهما في متن النص، فالجدار عنصر ثابت لازم الراوي منذ ولادته وحتى لحظة الكتابة “إنها حكاية قرر أن يختارني شاهدا على ما يقول ويفعل، وما كان لجمل هذا النص أن تصطف لولا استنادها إلى عنصر ثابت ووحيد هو الجدار”ص7
يؤنسن الكاتب الجدار ويمنحه الحياة لأنه الثابت في حياته وما دونه متغير، لذلك منحه الصفات والألقاب منذ ولادته في المخيم على هامش المدينة وفي السجن وفي قلب امرأة أحبها، جداره في المخيم كان شاهدا على نكبته وبؤسه، وهو ما دفعه للالتحاق بالحركة الوطنية كي يغير هذا الواقع الذي فرضه الاحتلال. أما جدار الزنزانة فقد وقع في غرامه وفي جرحه والتصق به التصاق المحب وغازله كالعاشقين في أول عشقهم، وهو الذي أكل لحمه وعظمه وتمدد وتقلص على هواه.
لقد استطاع ناصر أن يحول جدار الزنزانة من عدو له يحبس حريته إلى جزء من ذاته يتوحد معه ويصبح رفيقه بل ويستمد منه قوته في مواجهة قيود سجّانه.
والجدار عنصر مادي ثابت لكنه قادر على الحكاية، والحكي فعل روحي يستقوي به الأسير في مواجهة واقعه المادي وينتصر على زمانه ومكانه وسجانه، ففي التاريخ العربي استطاعت شهرزاد أن تنتصر على حتمية الموت بالسرد والحكاية، وناصر الأسير يستقوي بفعل الحكي حتى يظل على توازنه في مواجهة قيوده ومؤبده.
يتماهى ناصر مع جدار زنزانته وما الجدار إلا رمز يمثل الثبات والديمومة في مواجهة كل المتغيرات رغم أنه جدار بناه المحتل إلا أنه على الأرض التي عشقها ناصر، فيتحول من عدو يحبس الحرية إلى صديق يتوحد معه الأسير في مواجهة سجانه، لأن الأرض تعرف أهلها وتحن عليهم، وهنا يبرز السؤال، هل كان جدار الزنزانة هو رمز الثبات والقوة الذي يتمسك به ناصر وهو الأسير المحاصر المعذب في محيط يمور بالتناقضات بعد انتفاضة الحجارة المباركة التي أجهضها اتفاق أوسلو، وهل ما عجز عنه الكيان الصهيوني في قمع الانتفاضة جاء بمن يقمعها وينهي مشروعها على قاعدة لا يفل الحديد إلا الحديد.
يعبر ناصر عن علاقته بالجدار بقوله:”بدأت غزليتي مع الجدار مبكرا، وظل طوال مشوار اعتقالي ثابتي الوحيد….جعلت من جداري نقط الثابتة، بها أحدد ملامح ما يحيطني من مكونات: موقعها، سرعتها ومسافة كل مكون فيها عن ثابتي، ولا، لم أصبح مركز هذا الكون، لكني وجدت مكاني فيه.”ص14
يبني ناصر النص على جدلية الروح والجسد ويقسمه إلى جزأين، فجاء الجزء الأول بعنوان أنا، ربي وضيق المكان وجاء الآخر أنا، قلبي وضيق المكان. وقد تجلت هذه الثنائية في فصول النص، إذ يتغلب الأسير على حبس الجسد في مكان ضيق بتطواف روحي في فضاءات عدة يتجاوز السجن والسجان، ويأتي فعل القراءة والكتابة والحكي ليكسب الأسير قدرة على مواجهة واقعه المادي. وهذا يجعلنا أمام تساؤل، هل كانت الكتابة وسيلة ناصر للاستشفاء والانتصار على قيده ومؤبده، وهو الذي يؤمن أن القلوب إذا أصابها جرح تركن إلى العزلة، فإما أن تشفى في هدوء أو تموت في صمت.
وسم الجزء الأول بعنوان أنا، ربي وضيق المكان، ثالوث الأنا والإله والسجن هو ما بنى ناصر عليه نصه في هذا الجزء، حيث ذاته مع ربه وسجنه في حالة صوفية وتأمل جعلته يفرح وينتشي حين يقرر سجانه أن يعزله في زنزانة انفرادية لأنها منحته فرصة الأمل والتساؤل والشك والفحص لكل القضايا التي آمن بها سواء منها السياسي أو الديني أو الوجودي، وهو العالق بين زمنين: زمن يعيشه في ضيق المكان، وآخر قبلي قرر أن يروي حكايته، وظل عالقا حتى وصل إلى مرحلة التخلي، وفقد جسده الفيزيائي وزنه من خلال الالتحام مع الثابت الإله والجدار وقرر أن يستشفي بالكتابة.
يتناول ناصر في الجزء الأول من نصه محطات حياته في المخيم وانتفاضة الحجارة وأوسلو وغيرها من الأحداث الخارجية التي ألمت بالمنطقة وتأثيرها على القضية الفلسطينية، ولكن ما يلفت الانتباه في هذا النص أن ناصر لم يحك عن التعذيب في سجون الاحتلال إلا بصورة موجزة، وكأنه بعد كل سنوات الاعتقال قد تجاوز الألم والتعذيب وأصبح أكثر قوة جسديا ونفسيا وإرادة في مواجهة واقعه المادي.
يجسد الكاتب فلسفته العميقة ورؤيته تجاه الكون والحياة والإنسان، وهو الذي يؤمن أن الحب أساس الوجود، وأنك كي تحافظ على من تحب عليك التخلي عن غرائز التملك والتعلق والأنانية، وهم ما وسم به الفصل الأول من نصه” تخل وتمسك” ففي التخلي تصل إلى متعال لانهائي، ويطرح تساؤلات فلسفية أهمها: كيف يكون الرضا والتسليم والقبول تخليا، وكيف يصبح الالتصاق بالجدار أقصر الطرق لاجتيازه، وهل يعقل حقا أن تقيد يداك قيدك وأن يمتلأ قلبك حبا ولا موضوع يملأه، وهو الذي يؤمن أن الشك يقود إلى اليقين.
وهذا يعيدنا إلى جلال الدين الرومي حين سأل شمس التبريزي كيف تبرد نار النفس، فرد عليه بالاستغناء، فمن ترك فقد ملك. لقد آمن ناصر أن تجاوز مؤبده وقيده يكون بالتخلي عن كل ما هو قابل للزوال، لذلك توحد مع جداره الذي كتب عليه بعد حكم المؤبد وداعا يا دنيا وهو على يقين أن الجسد محبوس لكن الروح تحلق في فضاءات بعيدة، وهذا ما جعله يطلق على الأسرى أرواح، لأنه يؤمن أن الجسد يحبس ويفنى لكن الأرواح تظل تطوف حاضرة في فضاءات عدة. إن استقواء الأسير بقوته الروحية تجعله ينتصر على سجنه وسجانه، وتخلق عنده حالة توازن تمنعه من الانهيار.
حين يتحرر الإنسان من متطلبات الجسد والمادة تنتصر الروح وتصبح أكثر خفة قادرة على التحليق في الآفاق ويستنير الوعي والفكر، وما فعلته المدنية الغربية في استعباد الشعوب باستحقاقات مادية أفقدت الإنسان إنسانيته، وجعلته عاجزا عن التفكير وعطلت عقله وروحه وفكره في مقابل هذا الاستحقاق المادي.إن الأسير الفلسطيني في زنزانته لا يملك إلا أن ينتصر على متطلبات الجسد، يقول ناصر: ” في السجن، نعيش نحن الأرواح في غنى عن أجسادنا، فليس في الأجساد إلا ثقيل حملها واستجاباتها لقوانين طبيعية يُحد من قدرتها على الدوران والتحليق والسباحة في محيط من الغيمات. ليس في الأجساد إلا الجوع والعطش والتعب….تظل الأرواح على استغنائها عن أجسادها، فيعيش الطرفان في حالة انفصال متفق عليها، تنغمس الأجساد في عالمها السفلي وتظل الأرواح على تحليقها وإنكارها كل محيط فيزيائي من شأنه اعتراض عفويتها وانطلاقها، ولا يثقل طرف على آخر ولا تدخل ولا اعتراض إلا بما يضمن حالة السلم الأهلي بين العالمَين.”ص248
في الجزء الأول من النص يكشف الكاتب عن رؤيته السياسية تجاه أوسلو وانتفاضة الأقصى، ويشعر بالألم والمرارة لما يسمى بجيل أوسلو الذي سار بنهج التسوية والمفاوضات العبثية وكانت النتيجة صفرية بل وخسارات متتالية فقد فيها الفلسطيني كل المبادئ الثورية التي قاوم وناضل من أجلها على مدار عقود. ولعل أكثر ما يؤلم ناصر هو تخلي القيادة عن أسراها أصحاب الأحكام العالية وتُركوا لمصيرهم، وهذا ما دفع أسيرنا إلى البحث عن ثابت يلتصق به فما وجد إلا ربه وجدار زنزانته وهو يشهد متغيرات المرحلة.
يكشف ناصر في نصه عن المؤامرات التي دُبرت من أجل القضاء على انتفاضة الأقصى، وقد استطاع الكيان الصهيوني وكل من تآمر معه أن يجهضها، ويتم تصنيع الفلسطيني الجديد كما أرادت خطة دايتون، حيث يعيش حالة انفصام بعد إغراقه باستحقاقات مادية، فيقبل الظلم ويتخلى عن حقه في أرضه وكرامته مقابل حفنة من الدولارات.
تظل جدلية الروح والجسد تغزل نص حكاية جدار، ففي الجزء الثاني الموسوم بأنا ، قلبي وضيق المكان يحكي قصة حب بين الأسير وننا المحامية التي وقعت في غرامه وبدأت تغزل حكاية عشق رغم الجدران، وقد استمرت عبر الرسائل واللقاءات يفصلهما جدار زجاجي، استمرت حالة الحب ثلاث سنوات انتهت بانسحاب ننا التي لم تعد قادرة على الاستمرارية رغم العشق الكبير الذي ربط بينهما، إلا أنها فقدت الأمل بخروجه فغرقت في حالة البكاء والدموع والألم.
مع ظهور ننا في حياة الأسير ناصر صار قلبه يدق حبا ويتعلق وهو الذي قرر التخلي حين قال وداعا يا دنيا، ولكن هذه المرأة التي أحبها أعادت له التعلق والانزلاق، وسقط ثابته الجدار وحلت محله وفتح الله بوابات جحيمه كلَها ولا شيء ينجيه من احتراقه في ننا بعد أن سقط جداره، وقد غابت الجغرافيا والحدود والسجان، وتماهت الأرواح في حالة فرح وتخطيط للمستقبل وإنجاب الأطفال، فالحب أنعش زمانه ومكانه وقلبه وروحه، وصارت ننا منبع خوفه وقوته وشكه ويقينه ومعركته الأخيرة التي قرر أن ينتصر فيها.
“عجيب أمر الحب وعجيبةٌ قدرته على اختصار الطرق الطويلة، والجمع بين عوالم أرضية وأخرى سماوية، هذا التعمير والتجسير والتخضير في صحراء زجاجية خلت من مائها والتراب، عجيب أمر الحب، هدي المؤمنين وأقصر الطرق إلى الله، تصير أحلى وأجمل، ترقص الألوان على نغماتك، يكبر فيك تصالحك وتسامحك، تغفر لمن أخطأ فيك أو أخطأك، تغوص لا تخشى اغترافا، تحلق وإن سقطت فإلى أعلى….تتسع المساحات الخضراء وتنسحب الصحراء خطوتين إلى الوراء، لا يعود قيد ولا سلاسل، يُعطل الحب فيك مخاوفك وخشياتك…..حين تحب، تتهدم فيك جدران وسقوف، ويسقط ظلُك واقفا، وتحتل يداك قيدَك”ص239-240
لقد تحولت لغة ناصر ومفرداته في الجزء الثاني لتصبح أكثر نشوة وفرحا وأملا، وأمام هذا الجزء تنسى أنك تقرأ نصا لأسير مؤبدي وإنما ينقلك إلى فضاءات تصبح أنت أسير فرحه وكلماته وهو الحر الذي تغرد روحُه في الآفاق فيمنحك لحظة فرح وتجل، وتتساءل أمام لغته وفرحه، هل يستطيع الحب أن يعيد برمجة الحياة ويكون فارقا فيها.
أمام جدلية الروح والجسد استطاع ناصر في الجزء الأول أن يتقن فن التخلي لأنه آمن أنه كي ينتصر على مكانه الضيق وجسده المحبوس عليه أن يتخلى عن متطلبات الجسد،”ففي السجن، تفقد الأجساد موضوعها وغايتها، ولا يكون الاعتناء بها إلا لضمان عدم إثقالها على الروح، فأي حاجة لنا نحن الأرواح بأذرع لا تعانق إن استقبلت أو ودعت، لأيد لا تمتد حين الحاجة إليها..”ص249، ولكن بعد حالة العشق عاد إليه جسدُه وهو يرى في العشق بعثا وقيامة ، وهو الذي تجاهل جسدَه قبل ننا، يقول ناصر”عاد إلي جسدي وعاد معه القيد والحديد، عاد معه ار تطامي بالجدار…”ص257
في الجزء الأول يتجلى الثالوث الذات والاله والسجن حيث الجسد يغيب في ظل حضور الروح على مبدأ التخلي، ويحضر الجدار رمزا للثبات وقد أنقذه إيمانُه من السقوط في هاوية سجنه وفقده للعالم الخارجي. أما في الجزء الثاني فيتجلى ثالوث الذات والقلب والسجن، وفي حضور ننا يحضر الجسد الذي حيّده قانون التخلي. لقد أشعل حضور ننا الطاغي في حياة ناصر الحرائق وغاب جداره الذي كان يراقبه من بعيد وخاصمه وكره وجود امرأة في حياة صاحبه.
إن حضور ننا في حياة ناصر كان زلزالا في رؤيته وفلسفته التي بناها على عبارة وداعا يا دنيا، فما قبل ننا ليس كما بعدها، إذ نقلته هذه المرأة من حالة صوفية تأملية زهد فيها بالدنيا وكل ما يتعلق بها إلى حالة تمتلئ فرحا وحبا وأملا، لكن ما لبث هذا الفرح حتى تحول إلى ألم ومرارة ودموع وبكاء. لم تعد ننا قادرة على الاستمرار في علاقة غزلتها مع أسير مؤبدي وقررت أن تنسحب، وقرر هو أن يعود إلى جداره الذي فارقه حين تجلت ننا في حياته.
هو يحبها وقد تخلى عنها كي يتمسك بالحب أكثر بعد أن حرره جداره من خوفه عليها، وهو الذي لا يريد أن يؤلمَها أكثر، فاختار أن يحررها من فضائه وأن يعود إلى جداره الثابت، هو يحبها لكنه تخلى عنها لأجلها ورأفة بدموعها وألمها.
يعبر ناصر عن فلسفته في الحب فهو يرى في التخلي تمسك حيث يصير الحب خيارا بلا شروط أو معادلات أو موضوع، لا تعلق ولا تملك ولا غيرة ولا فناء، فيصبح الحب موضوعا بذاته ولذاته. غابت ننا بجسدها لكن روحها ظلت ترافقه وتلازمه في زنزانته لأن الحب صار موضوعا بذاته ولذاته بمنأى عن الشروط والمعطيات. عاد إلى ركنه الصغير في زنزانته إلى ربه إلى جداره وإيمانه القديم، فلم يكسره الحب ولكن زاده صلابة والتصاقا بجداره الثابت الذي عاد وتصالح معه.
ناصر الذي ولد مرتين في الأولى من رحم مزيونه في مخيم ضيق علقه على جداره وانتهى ظلما في زنزانة مؤبدية، وفي الآخرة من رحم ننا حين غزلت قصة حب معه آمن بها وامتلأ فرحا وسرعان ما انفرط الغزل وتبدد الأمل لكن ناصر الأسير المؤبدي يظل رغم الآلام هو سيد المكان وسيد الزمان رغم ضيق زنزانته وتوقف زمانه وديمومة مكانه.