الأزمة في تعريف الحقيقة!
بقلم : د ادم عربي
تاريخ النشر: 28/10/24 | 17:30عندما يتناول العلماء موضوعات كونية، غالبًا ما يجدون صدىً لأفكارهم في الأوهام الدينية التي يسوقها خصوم “الحقيقة”. إنَّ هؤلاء الخصوم ينشئون حالةً من الحماسة الفكرية، يسعون من خلالها إلى جمع المزيد من الأدلة النظرية التي تبرهن على عجز البشر عن إدراك “الحقيقة” وفهم العالم المحيط بهم. إنَّهم يتعصبون لمبدأ “عدم اليقين” الذي وضعه هايزنبرغ، مبررين بذلك اعتقادهم بأنَّ هناك حكمةً إلهيةً تحجب البشرية عن إدراك الحقيقة الكاملة. لذا، لا يجدون سوى فهم جزءٍ ضئيلٍ من الحقيقة، غير قادرين على تجاوز “جدار بلانك”، مما يفرض عليهم الاكتفاء ببعضٍ من المعرفة.
“الحقيقة” هي مفهومٌ معقّدٌ، حتى أولئك الذين يعلنون عداءهم تجاهها، يسعون أحيانًا في سبيل العثور عليها. ولكن مصالحهم تُشوّه هذا السعي، فتجعلهم ينكرونها أو يشوّهونها، أو حتى يحجبونها عن الآخرين. وعندما يتعرض مفهومٌ أو فكرةٌ تضرُّ بمصالحهم، لا يترددون في محاربتها بكلِّ ما أوتوا من قوة.
جميعنا نسعى لنصل إلى “الحقيقة”، ونستثمر فيها وقتنا وجهودنا، لكننا نغفل غالبًا عن التفكير في الإجابة عن سؤال “ما هي الحقيقة؟”، كأنَّنا نبحث عن تعريفٍ يتناسب مع مصالحنا الشخصية. في نظرة آينشتاين الساخرة، يجب أن تتوافق أيُّ نظريةٍ جديدةٍ مع الواقع؛ وإنْ لم تتوافق، فالأفضل أن يتغيَّر الواقع، غير أنَّ آينشتاين في سخريته من هذه الفكرة، أكَّد على أهمية التعديل في النظرية لتكون متوافقةً مع الواقع.
تظهر الفجوة الكبيرة بين من يتقبل النظرية لأنَّها تتوافق مع الواقع، وبين من يرفض الواقع لأنَّه لا يتماشى مع نظريته، وشتَّان ما بين الاثنين. آينشتاين عرّف “الغباء” بأنَّه تكرار نفس التجربة مع توقّع نتائج مختلفة، ما يعني أنَّ النتيجة تتوقف على مدى واقعية التوقعات.
مهما كانت الصعوبات التي تواجهنا في بحثنا عن “الحقيقة”، فإنَّها عادةً ما تكون أكثر بساطةً مما نتوقع. يميّز آينشتاين بين “الأحمق”، الذي يعقّد الأمور البسيطة، و”العبقري”، الذي يعرف كيف يبسط المعقّد بقوله: “إذا لم تستطع شرح فكرتك لطفلٍ يبلغ من العمر ست سنوات، فهذا يعني أنَّك لم تفهمها بعد.”
يميل معظم الناس إلى اعتبار الخيال نقيضًا لـ”الحقيقة” والمعرفة مرادفًا لها، لكن آينشتاين يراها بصورة مختلفة، مؤكِّدًا على أهمية “الخيال” الذي يفوق “المعرفة”. فيقول إنَّ “المنطق” يقودك من النقطة أ إلى النقطة ب، بينما “الخيال” هو الذي يفتح لك أبوابًا جديدةً ويقودك إلى أيِّ مكان.
ومع ذلك، عندما نصل إلى نظريةٍ ما بواسطة “الخيال”، ندرك أنَّ هذه النظرية لا تتماشى مع “الحقيقة” ما لم تدعمها الوقائع. لا يوجد مقياسٌ أفضل لقياس “الحقيقة” في كلِّ فكرةٍ سوى “الواقع الموضوعي”، الذي يستند إلى التجربة العملية.
عندما يدخل آينشتاين في مفهوم “المثالية”، يشير إلى أنَّ علومنا المرتبطة بالواقع لا تزال في مراحل بدائية، ويتساءل عن كيفية نضوجها. لكن سرعان ما يخرج من “المثالية” ليؤكّد أنَّه كلما اقتربت القوانين والمفاهيم من “الواقع”، كلما اهتزّت، في حين أنَّ الابتعاد عنها يؤدي إلى فقدانها للواقع. الفكر يتسم بالسكون بينما الواقع ديناميكي.
يحدّد آينشتاين مفهوم “الحقيقة” بأنَّها ما يتحقق عند امتحان التجربة، حيث لا يمكن قياس “الحقيقة” في الأفكار والنظريات إلا من خلال الممارسة العملية. كل ما يتوافق مع “الواقع الموضوعي” يجب أن يُعتبر جزءًا من عالم الحقائق.
مع ذلك، يختلف الناس في فهمهم لـ”الحقيقة”: بعضهم يقبل “الحقائق النسبية” فقط، بينما آخرون لا يعترفون بأي فكرةٍ كـ”حقيقة” إلا إذا كانت مطلقة. وهناك من ينكرون وجود “الحقيقة المطلقة”، بل ويعتبرون أنَّ “الحقيقة المطلقة الوحيدة” هي أنَّه لا يوجد شيء يُدعى “الحقيقة المطلقة”؛ فكل الحقائق نسبية.
لقد أُسيء فهم “الحقيقة النسبية” تمامًا كما أُسيء فهم “الحقيقة المطلقة”، ويرجع ذلك إلى نقصٍ في “جدلية” التفكير والنظر إلى المسائل. يميل معظمنا إلى فهم العلاقة بين كلِّ ضدَّين بطريقةٍ ميتافيزيقية. نسبية الحقائق تتشوّه عند الكثيرين بفعل المثالية، حيث يتجاهلون عنصرًا بالغ الأهمية، وهو أنَّ “الموضوعية” تشكّل جوهر وأساس النسبي من الحقائق.
لنفترض مثالًا يوضّح النسبية (الموضوعية) للحقيقة: تخيّل شخصين يجلسان على طاولة، كلٌّ منهما أمام الآخر. على الطاولة، هناك دلةُ قهوةٍ وفنجان، مما يتيح لهما الإجابة عن سؤال: “أيّهما موضوعٌ أمام الآخر؟”. أحدهما يقول إنَّ دلةَ القهوة هي التي تقف أمام الفنجان، بينما الآخر يؤكّد أنَّ الفنجان هو الموضوع أمام دلة القهوة، وكلاهما صحيح. إذن، من منهما عبّر عن “الحقيقة”؟
الإجابة هي: كلاهما أدلى بالحقيقة؛ فالحقيقة هنا “نسبية”. الأول كان محقًّا في إجابته، والثاني أيضًا. هذه حالة بسيطة لكنها غنية بالمعاني، تحفّز على التفكير العميق.
ومع ذلك، فإنَّ هذا التناقض الموضوعي في الإجابتين قد يثير استغراب الكثيرين الذين اعتادوا رؤية “الحقيقة” وفق مبدأٍ ميتافيزيقي “إمّا… أو”. ووفقًا لهذا المبدأ غير العملي، سيقولون إنَّ تضارب الإجابتين يعني أنَّ كليهما لا يتصل بمفهوم “الحقيقة”، متسائلين بسخرية: كيف يمكن أن تكون هناك “حقيقة” إذا كان لهذه المسألة إجابتان متناقضتان صحيحتان؟
إنَّ “الواقع الموضوعي” لدلةِ القهوة ينفي هذا الاستهزاء ويقول: “لكنها الحقيقة؛ فدلة القهوة موجودة أمام الفنجان ووراءه في آنٍ واحد”. هل يستطيع أي شخصٍ ثالثٍ أن يحسم الأمر (حسمًا ميتافيزيقيًّا) بالقول إنَّ الحقيقة المطلقة هي أنَّ الإبريق موضوعٌ الآن أمام الفنجان، لا وراءه؟
لم يتناقض أصحاب الإجابتين لأسبابٍ ذاتية، ولم يكن كلاهما يرغب في تعارض إجاباتهما؛ بل كلٌّ منهما، باستخدام أساليب وطرائق “الاختبار الموضوعي”، توصّل إلى أنَّ إجابته صحيحةٌ وتمثّل “الحقيقة”.
لنقارن ذلك بمسائل أخرى: هل هذا الكائن حيٌّ أم ميت؟ إنَّه حيٌّ وميتٌ في الوقت نفسه. وهل هذا الجسم متحركٌ أم ساكن؟ إنَّه متحرّكٌ وساكنٌ في ذات الوقت. وهل هذا الشخص عالمٌ أم جاهل؟ إنَّه عالمٌ وجاهلٌ معًا. وهل نظام الحكم دكتاتوريٌّ أم ديمقراطيٌّ؟ إنَّه كذلك في ذات الوقت.
من خلال هذا المثال البسيط، نستشفُّ معنى “نسبية” الحقيقة، بينما نجد أيضًا ما يمكن اعتباره “المطلق” فيها. “نسبية الحقيقة” تتجلّى بوضوح في قول أحدهما إنَّ دلة القهوة أمام الفنجان، والآخر يقول إنَّه وراءه. أمّا “المطلق” الكامن في النسبي فيظهر في الإجابة الثالثة: الإبريق موجود أمام الفنجان ووراءه في الوقت نفسه (تأمّل جيدًا في الضدّين “الأمام” و”الوراء”، وما تعنيه عبارة “في الوقت نفسه”).
إنَّ “الوجود المتناقض لكلِّ شيء” هو “حقيقة مطلقة”، لكنه ليس “الحقيقة المطلقة الوحيدة”. فالمطلق من الحقيقة يتواجد دائمًا في كلِّ “حقيقة نسبية”، ويجب علينا فهم العلاقة بين “النسبية” و”المطلق” كما فهمنا العلاقة بين “الأمام” و”الوراء” في مثال الدلة والفنجان، وبالتالي يمكننا القول إنَّ هذه الحقيقة هي “نسبية” و”مطلقة” في ذات الوقت.
يوجد “مطلق” في “النسبية”، كما في نظريتي “النسبية الخاصة” و”النسبية العامة” لآينشتاين. ولكن، أين يكمن هذا المطلق؟ قبل الإجابة، أودُّ الإشارة إلى أنَّ الكثير من “الجدليين”، ومن بينهم أنا، لا يحبّذون فهم “النسبية” كنفيٍ مطلقٍ للمطلق. لكن، هناك من لم ينجح في اكتشاف ورؤية المطلق في النسبية، فمال إلى الارتياب فيها.
لا يوجد مراقبٌ كونيٌّ إلا بصفته جزءًا من “إطار مرجعي” لا يمكن الانفصال عنه. كلُّ مراقبٍ هو نتاج “إطاره المرجعي” القابل للتغيير، وإذا تغيّر، تغيّرت رؤيته للعالم الخارجي. قد ينفصل المراقب عن “إطاره المرجعي”، لكنه لا يمكن أن ينفصل إلا إذا ارتبط في تلك اللحظة بـ”إطار مرجعي” آخر. لذا، يمكن القول إنَّ هناك “مطلقًا” يتصف بالعلاقة مع “النسبية”.
قد يتطلّب فهم هذا المطلق تفكيرًا عميقًا، لكن إذا تجرّأ الكثيرون على تفهّمه، فسيكون ذلك خطوةً على طريق “الحقيقة”.
مفهوم أنَّ “النسبية” لا تعني بالضرورة غياب “المطلق”، بل يمكن أن يحتوي كلُّ إطار مرجعي نسبيٍّ على جوانب مطلقة، وحسب نظريات آينشتاين، مثل “النسبية الخاصة” و”النسبية العامة”، كمثالٍ على هذا التوازن بين النسبية والمطلق.
في نظريتي النسبية الخاصة والعامة، يتغيّر فهمنا للزمان والمكان بحسب المراقب، وهذا هو جانب النسبية. لكن حتى في ظل هذه النسبية، توجد ثوابت، مثل سرعة الضوء التي تبقى ثابتةً في جميع الأطر المرجعية. هنا يكمن “المطلق” داخل “النسبية”، فبينما تتغيّر مقاييس الزمن والمسافة بالنسبة لكلِّ مراقب، فإنَّ هناك عنصرًا مشتركًا ثابتًا لا يتغير.
الفهم السائد الذي يعتقد أنَّ النسبية تعني غياب أيِّ حقيقةٍ ثابتة ليس صحيحًا.
الفهم الجدلي (الديالكتيكي) يرى أنَّ حتى الحقائق النسبية تحمل داخلها عنصرًا ثابتًا أو مطلقًا. كما أنَّ المراقب لا يستطيع الخروج من إطار مرجعيٍّ معيّنٍ دون أن يكون مرتبطًا بإطارٍ آخر، مما يعني أنَّ المراقب نفسه جزءٌ من هذه النسبية ولكنه يتفاعل مع حقائق ثابتة.
تخيّل أنَّ شخصين يسافران في مركبتين فضائيتين، واحدةٌ تتحرّك بسرعةٍ كبيرةٍ بالنسبة للأخرى. وفقًا لنظرية النسبية الخاصة، سيلاحظ كلٌّ منهما أنَّ الزمن يمرُّ بشكلٍ مختلفٍ للآخر (ظاهرة تباطؤ الزمن). من منظور أحدهما، يبدو أنَّ الزمن يمرُّ أبطأ للشخص الآخر بسبب الحركة النسبية. هذه هي “النسبية” لأنَّ قياس الزمن يعتمد على حركة المراقب.
لكن حتى في هذه الحالة، هناك ثابتٌ لا يتغير: سرعة الضوء. بغضِّ النظر عن سرعة كلِّ مركبة، سيقيس كلٌّ منهما سرعة الضوء على أنَّها 299,792,458 متر/ثانية، ولن تختلف هذه السرعة بين أيٍّ منهما. هذا هو “المطلق” الذي يبقى ثابتًا رغم التغيرات في الزمن والمسافة بالنسبة للمراقب.
إذن، المثال يُظهر كيف أنَّ هناك عنصرًا مطلقًا (سرعة الضوء) داخل إطارٍ نسبيٍّ (قياسات الزمن والمكان المتغيرة)، وهو ما يتوافق مع أنَّ النسبية لا تعني غياب المطلق، بل أنَّ المطلق يمكن أن يوجد في صلب النسبية.