الحرية والضرورة في حكاية جدار
بقلم: مجدي ممدوح
تاريخ النشر: 30/10/24 | 13:51يذكرني جدار ناصر بصخرة سارتر. فكلاهما لم يشكلا عائقا أمام الحرية. الأشياء في ذاتها محايدة، وهي تكون ما نريده لها نحن أن تكون بلا زيادة أو نقصان كما يقول ناصر. كان سارتر قد قال شيئا شبيها عن صخرته، فهذه الصخرة التي يمكن أن تشكل عقبة كأداء من وجهة نظر ما فإنها يمكن أن تكون عاملا مساعدا عندما نرتقيها لكي نتأمل منظر البحر وهو يمتد في الأفق الأزرق البعيد. جدار ناصر تحول بفعل إرادة ناصر من جدار حاجز ومانع للحرية إلى فسحة يمارس من خلالها حريته. تنطوي هذه المفارقة على فهم معمق للحرية من منظور الفلسفة الوجودية التي تتضح ملامحها مبكرا في مفتتح الرواية. والحرية في الفلسفة الوجودية تقترن على الدوام بالضرورة. وهذا الربط بين الحرية والضرورة نجده في أوضح صوره عند عراب الوجودية سورين كيركجارد الذي بدأ ناصر حكايته بتقمص الحالات التي عاشها هذا العراب.
انشغل فلاسفة الوجودية قبل ناصر بإيجاد متسع للحرية داخل نسيج وجودنا. وقد احتجوا على النمط الذي اقترحه كانط من الحرية، والذي عد الخرية غير ممكنة داخل وجودنا الواقعي حيث كل شيء يخضع داخل هذا الوجود (عالم الظواهر) لاشتراطات الزمان والمكان والسببية الصارمة، واعتبر أن الحرية الحقيقية تقع في عالم الشيء في ذاته حب لا حيث وعند لا عند وكيف لا كيف. في الوجود الإنساني ثمة سقوف نعتها الوجوديون بالسقوف الوجودية والتي يتوجب علينا أن نمارس حريتنا داخلها ولا نحاول تخطيها لكيلا نفقد حريتنا ووجودنا معا. وقد دعا هيدجر هذه السقوف بالمواقف النهائية. إن الحرية توصف دائما بأنها كفاح وصراع ضد الحتميات والضرورات التي تحيط بالإنسان، وعندما تتلاشى هذه الضرورات والحتميات ففإن الحاجو للحرية تنعدم، بل أن مفهوم الحرية يفقد معناه ويصبح ضربا من العبث. والحالة الوحيدة التي تختفي فيها الضرورات والحتميات والسقوف هي حالة الألوهية، ولكن حرية الألهة لا يمكن بأي حال أن تلائم الكائن الإنساني.
من الواضح أن ناصر كان على وعي عميق بكل التداعيات السابقة عندما وقف يناجي جداره الماثل أمامه أبدا سواء على شكل جدار أو على شكل حكم بالسجن المؤبد، وقرر أن ينتزع حريته من بين براثن هذا الجدار.
في سياق مختلف يعثر ناصر على حريته المفقودة من خلال التعالي على الواقع المادي وإخضاع هذا الواقع لهيمنة الخيال. يستطيع العقل الإنساني بما أوتي من قوة الخيال أن يخرج من كل الاشتراطات الزمانية والمكانية والأسباب والعلل ليخلق عالما متحررا من ربقة المادي. وهذه الحرية ليست غريبة عن اشتغالات الفلاسفة، حيث اعتبرها شوبنهاور المتنفس الوحيد للحرية. واعتبر أن الفن بكافة أشكاله هو هروب الإنسان نحو الحرية. لقد وجد ناصر حريته التي يبحث عنها في الفن، والذي يستطيع أن يتعالى على قمع الواقع وضجيج نواقيسه الجبارة. والدليل على ذلك هو هذا العمل الفني الذي بين أيدينا، أقصد روايته. الرواية التي بين أيدينا هي وثيقة تحرر لكاتبها وشاهد على حريته التي ما فتئ يناضل من أجلها.
ما الذي أراد ناصر قوله عندما استلهم مفهوم التخلي من كيركجارد؟. من المعلوم أن كيركجارد نحت هذا المفهوم تحت وطأة صراعه الداخلي حيال علاقته بخطيبته ريجينا ولسون. كان كيركجارد يحدس بأن الأقدار قد هيأته لشأن عظيم، ولهذا السبب كان يرى أن السعادة التي تنتظره بصحبة ريجينا التي أحبها وأحبته سوف تقوده لحياة الدعة والهدوء، والذي من شأنه أن ينأى به عن الدور الذي رسمه له القدر. ولهذا السبب قرر التحلي والإقدام على التضحية بسعادته من أجل ما هو أعظم. وقد كان النموذج الحاضر في ذهن كيركجارد هو إبراهيم الذي جاءه الهاتف من الملأ الأعلى أن يكون جاهزا للتضحية بولده وتلبية النداء الأعظم. ولكن تضحية إبراهيم لم تكتمل لأن هاتفا من الملأ الأعلى قدم له أضحية بديلة لقاء إخلاصه في تلبية النداء. لقد كان كيركجارد ينتظر تدخلا مشابها يقول له أن يا كيركجارد قد صدقت الرؤيا وهذه حبيبتك خالصة لك. ولكن هذا التدخل لم يحصل وسار كيركجارد قدما في قطع علاقته بريجينا في حادثة مأساوية لكليهما.
هل مضى ناصر حتى نهاية الشوط في تخليه وتضحيته أم أن القدر تدخل وأوقف مسيرة التخلي والتضحية واستبدلها بقربان؟ هذا السؤال لا أحد يستطيع الإجابة عليه سوى ناصر. وربما يمكن استشفاف الإجابة التي تخفت في خبايا النص.
[*] مداخلة في ندوة “أسرى يكتبون” في رابطة الكتاب الأردنيين (الخميس 17.10.2024)