أنا أُفَكِّر لأنِّي موجود!
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 07/11/24 | 15:33في مقولة ديكارت الشهيرة: “أنا أُفكِّر، فأنا موجود”، نجد بُعداً فلسفياً عميقاً حاول ديكارت من خلاله إثبات الوجود من خلال الشكّ والتفكير. ديكارت، الفيلسوف الفرنسي الملقب بـ “أبو الفلسفة الحديثة”، يُعتبر صاحب تأثير كبير، إلا أنَّ العبارة نفسها، على الرغم من شهرتها وعظمة قائلها، قد تبدو في نظر البعض خالية من أي عمق فلسفي حقيقي. بل إن محاولات بعض المثقفين لإضفاء مزيد من العظمة على هذا القول قد تبدو أحياناً مبالغاً فيها وتزيد من سطحية العبارة ذاتها.
القول بأنَّ “أنا أُفكر، إذن أنا موجود” يعني ببساطة أن الإنسان يستدل على وجوده من خلال فعل التفكير. فإذا طُرِح عليك سؤال: “هل أنت موجود؟”، سيكون الرد المباشر: “نعم، أنا موجود لأنني أُفكر؛ التفكير هو أفضل دليل على وجودي”. هذه العبارة، إذاً، ليست سوى استنتاج شخصي للوجود بناءً على الوعي الذاتي، وهي تقف عند حدود الفكر المثالي ، والله بناء على هذا المنطق و في استنتاج لا بدَّ منه مثالياً، موجود.
مسألة الوجود من عدمه شغلت عقول الكثير من الفلاسفة، وأبرزهم الفلاسفة المثاليون الذين ذهب بعضهم، وخصوصاً من أتباع المثالية الذاتية ، إلى إنكار وجود العالم المادي خارج الوعي. في نظرهم، التفاحة التي تراها وتأكلها ليست موجودة خارج ذاكرتك أو إحساسك، فهي ليست سوى إحساسات تجول في ذهنك، دون أيّ كينونة مادية. هذا التطرف يصل أحياناً إلى القول بأنَّ الذهن الفردي هو الكون بذاته، وكل شيء آخر مجرد تصوّرات ضمن الوعي الذاتي.
أما ديكارت، فقد اتبع في فلسفته نهجاً مختلفاً؛ إذ كان فيلسوفاً مثالياً، لكنه لم ينكر الواقع المادي. انطلق ديكارت من الشك، الذي رآه مدخلاً نحو الحقيقة، إلى أن وصل إلى ما اعتبره يقيناً بقوله : “ما دُمتُ أُفكر، إذن أنا موجود”. الشك كان وسيلته للوصول إلى هذا اليقين، وكان تفكيره في وجوده الذاتي خطوة نحو إثبات واقعٍ أعمق.
يبقى السؤال “هل أنا موجود لأنِّي أُفَكِّر؟” كلاَّ؛ فأنا أُفَكِّر لأنِّي موجود
هيجل، بدوره، بوصفه إمام الفلسفة المثالية الجدلية الموضوعية، فَسَّر الإنسان على أنه الكائن الذي تعي فيه الفكرة المطلقة، أي الله وفقاً للتصوّر الديني، ذاتها. فقبل ظهور الإنسان، كانت الطبيعة تجسيداً للفكرة المطلقة في طورها المادي؛ لكنها لم تستطع أن تعي نفسها إلا بوجود الإنسان. ولو أن هيجل كان ماديًّا، لأكَّد أن المادة وعت ذاتها في الإنسان وبالإنسان .
لكن، هل الوجود مُرتبط حقاً بالتفكير؟ الإجابة ليست بهذه البساطة. الإنسان قد يتوقف عن التفكير دون أن يتوقف عن الوجود. من جهة أخرى، توقف وجود الإنسان، أي موته، يعني توقف تفكيره؛ ومع ذلك، يستمر جسده المادي موجوداً بطريقة ما. الفلسفة المادية، إذن، ترى أن تفسير المثالي يكون بوساطة المادي، وليس العكس.
لنأخذ مثالاً بسيطاً: شجرة التفاح التي في حديقتك موجودة بشكل مادي مستقل، وعندما تغلق عينيك وتستحضر صورتها، فإنّ ما في ذهنك ليس الشجرة نفسها بل صورة ذهنية لها. هذه الصورة الذهنية ليست سوى تمثيل فكري لشجرة التفاح المادية الموجودة فعلياً في الحديقة؛ ولا يمكن لخيالك أن يغيّر في حقيقة وجودها. حتى إذا تخيّلت شجرة التفاح وكأنها مصنوعة من الذهب، تظل الشجرة المادية ثابتة على حالها.
كل فكرة تدور في ذهنك، إذن، ليست إلا صورة ذهنية؛ وهذه الصورة يجب أن يكون لها أصل واقعي. إذا كانت صورة ذهنية مُركبة، فهي نتيجة خيالك الذي يجمع عناصر مادية في تراكب خيالي، مثل شجرة التفاح المصنوعة من الذهب.