رواتب النواب و الوزراء !
بقلم د . ادم عربي
تاريخ النشر: 16/11/24 | 0:43عندما ينتقد كاتب صحفي ارتفاع الرواتب الكبيرة والمبالغ فيها للوزراء والنواب وغيرهم ممن يُفترض أنهم يعملون في “الخدمة العامة”، التي تترافق مع امتيازات مغرية، قد يُتهم هذا الكاتب بالغيرة أو الحسد أو بما يسمى “الحقد الطبقي”. وربما يُطرح عليه السؤال الشهير: “إذا أُتيح لك أن تصبح وزيرًا أو نائبًا، هل كنت ستتخلى عن هذه الرواتب والامتيازات أو تتوقف عن المطالبة بها؟”
هذا السؤال أعادني إلى مقولة للفيلسوف الألماني نيتشه عن الفساد. فقد رأى نيتشه أن البشر ينقسمون إلى فئتين في علاقتهم بالفساد: فئة قد فَسدت وأفسدت، وفئة لم تحصل بعد على فرصة الفساد. وإذا اعتبرنا الرواتب والامتيازات الضخمة مظهرًا من مظاهر الفساد الإداري، فإن “البيروقراطية” هي التربة الخصبة التي تغذي هذا الفساد.
البيروقراطية، ذلك النظام الذي يخلق انفصالًا بين “خدام الشعب” والشعب نفسه، تتجسد في الرواتب العالية والامتيازات. هذه الجاذبية المفرطة لتلك المناصب والتي بفضل جاذبيتها التي تعدل جاذبية “الثقب الأسود” تجعل السياسيين مضطرين إلى تقديم خطابات انتخابية مملوءة بالوعود الجذابة والتودد للشعب، فقط لجذب أصوات الناخبين. هذه الوعود أشبه بالطُّعم في صنارة الصيد، تستغل حاجات الناس وآمالهم.
لو كانت المناصب العامة فقيرة من حيث الرواتب والامتيازات، لما سعى إليها إلّا من لديه رغبة حقيقية في خدمة الشعب بإخلاص. ولأصبحت الخطابات السياسية أكثر صدقًا وتناغمًا بين الأقوال والأفعال.
لقد قرأت الشيء الكثر عن البيروقراطية ، ومساوئها، وأسبابها، ونتائجها، وطرق مكافحتها والتخلص منها.
أنا لا أدعوكم للنظر إلى البيروقراطية من منظور ماركس، فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. لكنني أدعوكم لتخيل النتائج والعواقب المترتبة على إقرار قانون للخدمة العامة، يمنع بموجبه النائب، أي خادم الشعب وممثله، من تقاضي راتب يزيد عن متوسط الراتب في مجتمعه، ويسمح للناخبين بخلعه في أي وقت إذا أساء التصرف أو استغل سلطته.
إذا تحقق هذا، أو جزء منه، فلن يتمكن أي نائب من التصرف وكأن الصوت الانتخابي يشبه كوبًا من الكرتون أو البلاستيك، يستخدمه مرة واحدة فقط ويلقيه في سلة المهملات.
ولو سُئل هذا الوزير أو النائب عن الحكمة غير الظاهرة والكامنة في رغد العيش هذا ، والذي هو توأم شظف العيش الذي يقاسي منه الشعب في هذا الزمن الاقتصادي العالمي الرديء، لأجابك على البديهة قائلا إنَّ استقلال السلطة التشريعية يظل وهما خالصا ، ولن يغدو حقيقة واقعة، ما لم يحرز النائب شخصيا استقلالا اقتصاديا عبر الراتب والامتيازات..
نظام الرواتب والامتيازات أدى إلى نشوء جيش كبير من النواب والوزراء السابقين والمتقاعدين، جميعهم يتمتعون برواتب ضخمة وامتيازات لا تنتهي. وفي الوقت نفسه، يعاني المواطن العادي من ظروف اقتصادية قاسية. والسؤال هنا: هل يمكن لأحد أن يحصي عدد الوزراء والنواب السابقين الذين يستفيدون من هذه الامتيازات؟
إلى جانب ذلك، هناك علاقة وطيدة بين القطاع الخاص والسلطة. فكثير من الوزراء يأتون من القطاع الخاص ثم يعودون إليه بعد انتهاء فترة “الخدمة العامة”. وخلال وجودهم في المناصب العامة، لا ينسون تبادل المنافع مع هذا القطاع. هذا التداخل يعمق الفجوة بين الشعب والمسؤولين، ويعزز منطق المصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة.
الخدمة العامة، التي يُفترض أن تكون تضحية في سبيل الشعب، أصبحت مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية وامتيازات. النواب والمسؤولون يتحدثون عن “خدمة الشعب” بينما تصرفاتهم تعكس انفصالًا متزايدًا عن معاناة الناس. وفي الوقت ذاته، نجد خطابهم مليئًا بالتبريرات التي تسعى إلى إضفاء شرعية على هذا التفاوت الكبير بين ما يحصلون عليه وما يعانيه الشعب.
إصلاح النظام البيروقراطي يتطلب تغييرًا جذريًا في مفهوم الخدمة العامة. يجب أن تكون المناصب العامة وسيلة لخدمة الشعب بصدق، لا طريقًا لجمع الثروات أو تحقيق الامتيازات. قوانين أكثر عدالة وشفافية يمكن أن تقلص هذه الفجوة، وتجعل السياسة وسيلة لتحقيق الخير العام، بدلاً من أن تكون حلبة لمصالح شخصية.