وقفات مع سوريّا

سعيد نفّاع

تاريخ النشر: 10/12/24 | 11:22

سقوط الأسد كان في أيّار عام ال-21!
وقفات على المفارق
الوقفة الأولى… مع الرأس والبول وخيبة الأمل!
أدرك أنّه من غير المألوف أن تفتتح نصّا، ومهما كان، بكلمات غير تقليديّة خصوصًا حينما تتناول في نصّك موضوعًا كامل الجديّة. موضوعنا سوريا والمرحلة الثالثة من حرب “طوفان الأقصى- الحراب الحديديّة- أولي البأس”؛ غزّة فلبنان فسوريا. فما بالنا و”البول”؟!
الأمر الطبيعي كان أن يركن المرء بعد عشريّة دامية في سوريا إلى المتابعة انتظارًا لنتائج كان يتوّخاها أو على الأقل يأملها في الحياة السوريّة الداخليّة؛ وطنيّا وسياسيّا واجتماعيّا، وخصوصًا منّا من وقف مع الدولة السوريّة، ولو بتحفظّات، أمام الصعب والأصعب من الخيارات وبوصلته قضيّتنا الفلسطينيّة والمواقف منها، وعلى المستوى السوري الداخليّ المؤتمر العاشر لحزب البعث عام 2005 ومخرجاته الإصلاحيّة. مثلما ادّعينا على الأقلّ.
منذ أن انتهت العشريّة الدامية في سوريّا ولو ظاهريّا، إذ بقيت الكثير من الجمرات تحت رماد، لم أتناول الحالة السوريّة كتابة؛ وإن بقيت متابعًا مراقبًا انتظارًا وأملًا. فهل خاب الأمل؟!
الاستنتاج السهل لنتائج التطوّرات الميدانيّة الأخيرة هو الذي نسمعه اليوم يملأ الشاشات من كلّ من اختار حينها الموقف آنف الذكر، وكأنّ كلّ ما حدث ويحدث هو ثمرة؛ المخطّطات الأميركيّة – التركيّة – الصهيونيّة والأصوليّة. هذا صحيح جزئيّا، ولكن هل هذا كلّ شيء؟! وما الجديد في هذا؟! وما الحكمة في اجترار هذه الأطروحات على ضوء ما حدث؟! وإلى متى سنبقى رهائن لنظريّات المؤامرة ونحن من الموبقات براء؟!
الوقفة الثانية… وعشريّة النار في سوريّا.
الموقف الذي تبنّيته خلال “عشريّة النار” في سوريا كان وحتّى “رمّدت” مع الدولة بكلّ مؤسّساتها، وما زلت مقتنعًا أنّي لم أكن على خطأ أمام الخيارات التي كانت؛ دولة مدنيّة على موبقاتها أو إسلامويّة قاعديّة. فكنت كتبت في أواخر آب 2012 في السياق، وأعيده ليس لائحة دفاع وتبرير وإنّما للحقيقة والتاريخ:
“قال الفيلسوف الساخر برنارد تشو: “لم تبلغ بي السخريّة حدّا أن أزور الولايات المتحدة الأميركيّة لأرى تمثال الحريّة”، ولا أعتقد أن السذاجة يمكن أن تبلغ حدّا عند أحد أن يصدّق أن “الملوك والأمراء والشيوخ والخلفاء” وفضائياتهم ومأجوريها من “شيوخ” و”مفكّرين”، قلقون فعلا على حريّة الشعب السوريّ وعلى الدماء السوريّة التي تُسفك، وكذا الناتو وعلى رأسه صاحبة تمثال الحريّة…”
وأضفت: “قضيّتنا الفلسطينيّة هي المحور ومن قضيّتنا تُشتق المواقف كانت وما زالت وستبقى، لا بل قضيّتنا هي البوصلة وهي الأولويّة، شاء من شاء وأبى من أبى وليست “علّاقة” كما يحلو للبعض اختزالها.”
المعارضة السوريّة الوطنيّة وعلى الأقل أولئك الذين ربطتني وظلّت تربطني بهم علاقة طيّبة، في الجولان والجبل والخارج، رغم الاختلاف في وجهات النظر، يعترفون وبالفم المليان أنّ هذا الخليط الغريب العجيب أعلاه، اختطف “الثورة”.
وأراني أعيد ما كتبت في وقفات من كانون الأوّل 2016، فكنت كتبت: “…وحتّى لا يُساء فهمي، أو أُسيء في إيصال رسالتي…، خصوصا أمام المعارضين الوطنيّين الشرفاء، فليس أكثر منّا نحن فلسطينيّو البقاء غيرة على الحقوق الإنسانيّة. فأنا لست من عبدة الأفراد، فهؤلاء العبدة وكما رأينا مؤخّرا يتنقلّون سريعا من عبادة لأخرى خصوصا إذا كان المعبود يقطر أخضر، بل أنا من محترمي الأفراد… أحترم الكثيرين في القيادة السوريّة…، وأحترم الكثيرين من المعارضين السوريين…”
هذا الموقف ترجمته ومارسته فعلاً ليس قولًا فقط على الساحة السوريّة الجولانيّة المحتلّة في علاقاتي ونشاطي مع من سُمّوا مولاة ومع من سُمّوا معارضة، ومقتنع أنا أكثر اليوم أنّ هذا الموقف ساهم ولو بالحدّ الأدنى بالحدّ من التأزّم الذي لاح في الجولان المحتلّ خلال الأزمة وعلى خلفيّتها.
الوقفة الثالثة… مع الشعوب والانتصارات والأدبيّات المصريّة.
عودة بنا لأدبيّات مصريّة نقف مع ما كتبه رجل لم تكن مسيرته مع الناصريّة سهلة لا بل ذاق منها عذابا شديدا هو د. رفعت السعيد في كتابه “تأملات في الناصريّة”. يسأل الرجل أو يتساءل ويكتب عن أمور في الناصرية فريدة في التاريخ في تناقضيتها وتكامليتها في آن ويحاول سبر هذه “الغرابة”، فمثلا يقول عمّا حصل بعد استقالة عبد الناصر إثر هزيمة حزيران ال-67:
“مصر جاءت اليوم لتغفر للمخطئين من أبنائها، ليس عن طيبة نيّة وإنّما عن وعي. وتكلّمت مصر… وأنصت التاريخ باهتمام ودهشة، فقد كانت كلمتها غير متوقّعة. لقد وقفت – مرّة أخرى- مع عبد الناصر… رغم كل شيء ورغم الهزيمة. نادت باسم البطل المهزوم… ورفعت صورته عاليا. ولعلّها كانت أوّل مرّة في التاريخ التي يصعد فيها قائد مهزوم سلّم البطولة ولعلّها المرّة الأولى التي تلتف الجماهير حول قائد خسر المعركة لتحميه من نفسه ومن أخطائه… لتغفر له وتحرسه من أصدقائه، ومن أعدائه معا…”
فلا يذهبنّ أحد في اتّجاه وكأنّي أقارن بين الرجلين، وإنّما أستقدم هذا في باب غفران شعوبنا عن الأخطاء!
وأضفت في وقفات في تموز 2016: “مركّبات انتصار أيّ أمّة وعلى مدى تاريخ البشريّة هي؛ شعب طيّب معطاء وجيش عقائديّ وقيادة تستأهل مثل هكذا شعب وجيش، وهذا أبعد كثيرا عن النظريّة ويكاد يلامس البديهيّة. الشعب أساس كلّ انتصار، وفي عشريّة النار السوريّة تصرّف الشعب السوريّ بغالبيّته بتعال على جراحه وعلى الأخطاء التي ارتكبت في حقّه مسامحا متسامحا وليس عن طيب نيّة وإنّما بوعيّ كما قال د. رفعت السعيد عن الشعب المصريّ، لأنّ الجرح ومهما عمُق لا بدّ أن يندمل، لكنّ ضياع الأوطان جرح لا يمكن أن يندمل، وضياعها يكون أحيانا بيد بعض أبنائها الذين يبيعون أنفسهم للشيطان خطأ أو خطيئة والأمران سيّان. مثل هكذا شعب (السوري) يستأهل التقديس وليس فقط تصحيح ما ارتكب في حقّه من أخطاء وخطايا، والآن في عزّ الأزمات وأكثر بعد جلاء الأزمات.”
الوقفة الرابعة… مع الشعب السوريّ ما بعد العشريّة.
المراقب المتابع وكم بالحري المعني وبالذات ممّن تبنّى موقفًا في هذه العشريّة مع أو ضدّ، رأى أنّ ما جرى بعد العشريّة؛ وطنيّا وسياسيّا واجتماعيّا كان أبعد ما يكون عمّا استأهله الشعب السوريّ بعد التضحيّات غير المحدودة التي قدّمها. فلا الانتخابات الرئاسيّة ولا نتائج انتخابات مجلس الشعب ولا لقمة العيش كانت مؤشّرًا على ما استحقّ هذا الشعب ولا أبناؤه الجنود وما يستأهلون، وبقيت فلسطين وقضيّتها شعارًا فارغًا من أيّ مضمون. هنا يكمن ما وراء النتائج التي نشهدها ونتائجها، وعلاماتها بحكم الواقع العودة على المخطّط الانتدابيّ الفرنسيّ البائد من تقسيم سوريا؛ التخوّف المسنود جيوسياسيّا أنّنا بصدد أربع إن لم يكن خمس دويلات تمامًا كما خطّط المنتدَب الفرنسيّ حينها وفشل؛ سنّية تركيّة الهوى مدينة لتركيا، وعلويّة روسيّة الهوى مدينة لروسيا، ودرزيّة إسرائيليّة- أردنيّة الهوى ومدينة لإسرائيل وربّما للأردن، وكرديّة أميركيّة الهوى مدينة لأميركا، وطلعت إيران من المولد بلا حُمّص!
هذا التقسيم الميدانيّ سيبقى إلى أجل غير مُسمّى، وبغضّ النظر عن النوايا ومهما طابت، إن لم يحدث تطورٌ “فوق العادة”… وإلى أن يفعل الله أمرًا كان مفعولا!
الوقفة الخامسة… وعودة إلى البول!
هنالك قول إنجليزي الأصل يستعمله أبناء عمومتنا بكثافة، ترجمة: “صعد بوله إلى رأسه”، يقال حين يروح المرء يتصرّف ويطرح الأمور من خلال قراءة خاطئة لواقعه وواقع غيره حدّ فقدان البصيرة، وبثقة زائدة في النفس حدّ الغرور والعنجهيّة، وحين يكون المرء قائدًا فالطّامة كبرى وكم بالحري إذا كان كلّ من حوله يقول: “آمين!”، وكقول نلسون مانيلا: “ويل لقائد كلّ من حوله يقول: نعم!”. لدينا في العربيّة الكثير من المقولات المشابهة، لكن حقيقة أنّي لم أجد قولًا بقوّة مثل هذا القول تعبيرًا. فهل صعد البول لرؤوس أكثر من قائد وقيادة في سنوات ما قبل الحرب الآنفة؟!
الأسد وحين قرّر عام 2021 أن يعيد انتخاب نفسه وحصل على “أكثريّة %95″، وليتلو ذلك انتخاب مجلس شعب غالبيّته العظمى من الدُّمى “تيتي تيتي مثل ما رحت جيتي”، وحين صار يدخل إلى اجتماعاته في قصره على الطريقة القيصريّة الروسيّة، وغيرها من السلوكيّات والمواقف، متناسيًا أنّ “بقاءه” ما كان ليكون لولا روسيا وإيران وحزب الله، فصحّ فيه القول الإنجليزي الآنف. حينها بدأ الانهيار وصار السقوط قضيّة وقت، ولعلّ في قرار القيادات الميدانيّة للجيش السوري عدم المواجهة والتصدّي البيّنة الكبرى، فلا إعادة انتشار ولا ما يحزنون هذه كانت أقاويل لم تتعدّى حيطان القصر الجمهوري!
إشارة: أستميح القارئ عذرًا فلا بأس من إشارة شخصيّة كي لا يعتقدنّ أحد أنّ رأيي هذا حكمة ارتجاعيّة إن كان فيه حكمة، ونابع من السقوط المدوّي للنظام، فرأيي “البَولي” هذا وخيبة الأمل هذين عبّرت عنهما أكثر من مرّة خلال السنوات الأخيرة في الكثير من النقاشات مع شركائي في الموقف وغيرهم، ورافضًا توجّهات كثيرة لوسائل إعلام للإدلاء بدلوي، قبلًا وهذه الأيّام!
أقول قولي هذا وأستغفرّ الله لي ولكم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة