الشرق الأوسط يتغير منذ 1977، لكنه سيعود عربيًا
هاني المصري
تاريخ النشر: 17/12/24 | 12:05قال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو “إننا نغيّر الشرق الأوسط بالفعل، فسوريا لم تعد كما كانت، ولبنان لم يعد كما كان، وغزة لم تعد كما كانت، وإيران رأس المحور شعرت بوطأة قوتنا، وتحدثت مع ترامب للحاجة إلى استكمال النصر”.
نتنياهو بالفعل يغير الشرق الأوسط، ويسعى إلى استكمال التغيير، ما يطرح إمكانية مهاجمة إيران لضرب المفاعل النووي، ومواصلة حرب الإبادة الجماعية في غزة، والشروع في ضم الضفة.
ولكن الفضل في بداية هذا التغيير لا تنسب إليه، لأن تغيير الشرق الأوسط بدأ في العام 1977، بعد زيارة الرئيس المصري، آنذاك، محمد أنور السادات، إلى القدس، وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في العام 1981، من دون حل القضية الفلسطينية وعلى حسابها، وهي المفترض أنها القضية المركزية للعرب جميعًا.
وتواصل التغيير بعواقب الغزو العراقي للكويت في العام 1990، وتوقيع اتفاق أوسلو في العام 1993، ومعاهدة وادي عربة في العام 1994، ثم باحتلال العراق في العام 2003، وصولًا إلى “الربيع العربي” في العام 2011، الذي انقلب خريفًا وأطاح بدول عربية عدة، وانتهاء بالاتفاقات الإبراهيمية في العام 2020. ومن المتوقع أن نشهد موجة أخرى من التطبيع تشمل عددًا من الدول العربية والإسلامية.
من الملاحظ أن تغيير الشرق الأوسط لا يتم بخط مستقيم ومتواصل زمنيًا، بل هناك مد وجزر، وهناك مقاومة قوية حينًا وضعيفة حينًا آخر، ولكنها مستمرة وستبقى، لأن هذه المنطقة عربية وستبقى عربية، وهذا يفسر لماذا نشهد السير في الاتجاه المعاكس للتطبيع كما حدث عندما استطاعت المقاومة اللبنانية تحرير الجنوب في العام 2000، وكذلك تعثر مساعي التطبيع العربية الإسرائيلية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000. كما لم تنجح كوندليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في تحقيق ما نادت به من تغيير بالشرق الأوسط بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006 .
من الملاحظ أن الشرق الأوسط الجديد لا يتحقق إلا من خلال تهميش القضية الفلسطينية وعلى حسابها، إذ لم تعد القضية المركزية للأنظمة العربية، وكذلك تطبيقًا لهدف نتنياهو لتحقيق السلام الإقليمي على أساس “السلام مقابل السلام” و”الأمن مقابل السلام” و”السلام مقابل الاقتصاد” بدلًا من “الأرض مقابل السلام”، وعلى أساس القفز عن القضية الفلسطينية، حيث يعقد السلام مع الدول العربية، فرادى أو جماعات، من دون التوصل إلى سلام أو حل للمسار الفلسطيني، ويترافق مع دمج إسرائيل في المنطقة وقيامها بدور متزايد نحو الهيمنة.
وهذا يساعد ويشجع الحكومات الإسرائيلية على مواصلة مساعيها لتصفية القضية الفلسطينية وإقامة “إسرائيل الكبرى”، لذا كانت مبادرة السلام العربية التي جاءت بلا أنياب ولا خطة للتطبيق وأقرت في قمة بيروت العام 2002، ونصت على سلام كامل مقابل انسحاب كامل، تكفيرًا عن أحداث الحادي عشر من أيلول، ومثلت تراجعًا عن مقررات قمة الخرطوم في العام 1967 التي رفعت شعارات “لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات” مع إسرائيل.
وجاءت الاتفاقات الإبراهيمية في تراجع جديد عن مبادرة السلام العربية، لأنها شرعت في التطبيع من دون أن يرافقه انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، وهي لم تشجع إسرائيل على السير في طريق السلام، بل أمعنت في طريق الحرب والتوسع والعنصرية.
إن خلق شرق أوسط جديد لا يتحقق من دون القفز عن حقيقة المنطقة بوصفها منطقة عربية واحدة، تجمع شعوبها روابط تاريخية وثقافية وسياسية واقتصادية وقومية، ما يقتضي تفتيتها وتقسيمها إلى طوائف ومذاهب وأقليات، لأن وحدتها إن تحققت فهذا يعني ميلاد دولة كبرى تملك كل مقومات القدرة على منافسة الدول الكبرى التي تتقاسم المصالح والنفوذ في المنطقة العربية، وتتنافس على قيادة العالم.
وفي سياق المساعي الغربية لمنع وحدة الشعوب العربية في دولة واحدة، أو حتى في إحداث نوع من التكامل والتضامن، وُقعت اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916 التي رسمت وقسّمت الدول العربية، ومن ثم إنشاء دولة إسرائيل 1948، لتفصل العرب في آسيا عن أشقائهم في أفريقيا، ولكي تقوم بدور وظيفي يهدف إلى إبقاء المنطقة العربية أسيرة الهيمنة الاستعمارية من خلال بقاء التبعية والتخلف والتجزئة والفقر.
وعلى الرغم من النجاحات الإسرائيلية التي تحققت في غزة ولبنان، لا سيما بعد انهيار نظام بشار الأسد، لا تزال دولة الاحتلال كما صرح وزير حربها يسرائيل كاتس تشعر بالتهديدات القائمة والمحتملة. فإسرائيل قلقة رغم التصريحات المعتدلة لحكام دمشق الجدد، ورغم تقاسم سوريا بين عدد من الفرقاء المحليين والإقليميين والدوليين، من ضمنهم إسرائيل التي لم تكتف بضم الجولان، بل احتلت قمة جبل الشيخ ومساحات أخرى بحجة ملء الفراغ، وسط إعلان بأنها ستبقى لفترة من الوقت، وأنها لن تنسحب قبل تلبية عدد من الشروط التي تضمن بقاء سوريا ضعيفة ومقسمة وتقبل بالتطبيع، فضلًا عن دمج إسرائيل في المنطقة.
لن تستطيع إسرائيل أن تحقق حلمها بأن تكون الدولة المركزية المهيمنة على المنطقة، لأن هناك دولًا إقليمية تنافسها مثل إيران وتركيا اللتين ستجدان نفسيهما في مواجهة معها عاجلًا أو آجلًا، وإذا تحققت الهيمنة الإسرائيلية فإنها لن تطول، فالعصر الإسرائيلي لن يعمر طويلًا، خصوصًا أنه يقوم على حساب الحقوق والمصالح والتطلعات للشعوب العربية وغير العربية بالحرية والاستقلال والتنمية والعدالة والديمقراطية، فسينهض العرب بعد تبني مشروع عربي سيأتي حتمًا استجابة للحاجات العربية المتزايدة.
وما يفاقم الأمر ويقرب في نهوض المارد العربي غطرسة القوة وعمى التطرف القومي والديني المسيطر على حكومة اليمين الإسرائيلية التي تحكم في تل أبيب، والتي تؤمن بأن ما لا تحققه القوة يحققه مزيد من القوة وأن أطماعها التوسعية لا حدود لها.
هل سينسى الشعب السوري المهانة التي تعرضت لها بلاده حين استغلت إسرائيل لحظة الضعف التي تمر بها لتدمير مقدرات الجيش السوري بالكامل رغم انهيار نظام بشار الأسد؟ فما تقوم به دولة الاحتلال هذه الأيام سيكون ذريعة للحرب الإسرائيلية السورية القادمة ولو بعد حين.
وهل ينسى الشعب السوري ماذا فعلت إسرائيل باحتلال نحو 300 كيلومتر مربع من الأراضي السورية، على الرغم من حديث قائد سوريا الجديد أن ما حصل في صالح كل دول المنطقة، وأن النظام الجديد ليس بوارد الصراع مع إسرائيل، ورغم أنه لم يدن إسرائيل على ما فعلته، واكتفى بإرسال مذكرة إلى الأمم المتحدة بعد مرور أيام عدة على الشروع في تدمير الجيش السوري واحتلال أجزاء جديدة من الأرض السورية؟ ما يدل على أن الهدف الإسرائيلي كان ولا يزال هو سوريا وإبقاءها ضعيفة ومنقسمة وليس النظام المنهار.
هل ستتمكن الحكومة الإسرائيلية من الهيمنة على المنطقة لفترة طويلة؟ هناك شك كبير في ذلك. وهل تستطيع حسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية، من خلال الضم والتهجير والتهويد، أم سيواصل الشعب الفلسطيني – كما فعل منذ أكثر من مائة عام – الصمود والبقاء على أرضه، وإبقاء قضيته حية من خلال الكفاح بكل الأشكال إلى حين تغير الظروف ونضجها ليستطيع تحقيق الانتصار؟ وحتى يتمكن من ذلك عليه إجراء التغيير الشامل في نظامه السياسي العاجز والمنقسم.
بالتأكيد، الضم الذي تخطط الحكومة الإسرائيلية لتنفيذه خلال سنوات حكم دونالد ترامب ليس حلًا قابلًا للنجاح. وإذا نجح ليس قابلًا للاستمرار. وهو ليس الهدف ولا الخيار الوطني في هذه المرحلة، كما يتصور البعض الفلسطيني والعربي، بل مثل هذه الأفكار تمثل نوعًا من الاستسلام من صنف آخر “ثوري أو قومي أو أكاديمي”.
فالضم لا يجعل تحقيق الأهداف الفلسطينية أسهل، لأن استقراره يتطلب احتلالًا مباشرًا، وتوسيع مصادرة الأرض واستعمارها، وتهجير الفلسطينيين من كل تجمعات الشعب الفلسطيني (القطاع والضفة وأراضي 48)، وإبقاء من يبقى منهم في معازل آهلة بالسكان، معزولة عن بعضها البعض، ومتنافسة فيما بينها، وتحت السيادة الإسرائيلية.
الرد على المخطط الاستعماري الصهيوني وهزيمته ممكنة، ويمكن أن يتضمن تبني خطاب الحقوق بدلًا من خطاب حل الدولتين في مواجهة التغييب الكامل والرفض الإسرائيلي للحقوق الفلسطينية حتى في حدها الأدنى، ولكل التسويات، إضافة إلى التركيز على وقف الإبادة والتهجير والضم، وتوفير الإغاثة ومتطلبات إعادة الإعمار، وصفقة تبادل أسرى معقولة، وكذلك إنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال بوصفه هدفًا مركزيًا على طريق تحقيق بقية الأهداف الفلسطينية.
كل ما سبق لا بد أن يستند وينطلق من التمسك بوحدة القضية والأرض والشعب، وبالرواية التاريخية والحل الجذري الشامل بوصفه هدفًا نهائيًّا، من دون وضع تعارض بينه وبين أي مكسب يمكن تحقيقه الآن أو في أي مرحلة، ولو أخذ شكل الحل المرحلي، شرط ألا يكون ثمنه التنازل عن الحقوق التاريخية والقانونية والسياسية وعن الحق بمواصلة المقاومة حتى تحقيق كل أهداف الشعب الفلسطيني.
نعم لتغيير المقاربات الفلسطينية المعتمدة التي ساهمت في وصولنا إلى الحائط المسدود، بما في ذلك إلى الاقتتال مثلما يحصل هذه الأيام في جنين، رغم التباين والاختلاف في درجة خطأ وخطورة هذه المقاربة أو تلك، واعتماد مقاربة جديدة شاملة تستند إلى رؤية جديدة تجمع بين مختلف أشكال المقاومة، ولا تقيم تعارضًا بين ما يمكن تحقيقه على المدى المباشر، وما يمكن تحقيقه على المدى البعيد، وتفتح طريق التغيير والوحدة التي لم تحققها القيادة والفصائل الفلسطينية على الرغم من الإبادة الجماعية والخطر الوجودي الذي يهدد القضية والشعب والأرض.