وحدة وطنية سورية ستفشل خطط التفتيت الإسرائيلية

د. جمال زحالقة

تاريخ النشر: 20/12/24 | 17:30

طفت على السطح في الأيام والأسابيع الأخيرة توجهات وخطط ومشاريع إسرائيلية للنيل من وحدة سوريا، لإضعاف وتفتيت الدولة السورية. ويجب أخذ الكلام الإسرائيلي عن هذا الموضوع بجدية، لعدة أسباب لعل أهمها تأثير الدولة الصهيونية على الإدارة الأمريكية، خاصة إدارة ترامب الجديدة، التي قد تتساوق مع مشاريع تقسيم سوريا. وقد بدأت إسرائيل بالترويج إلى ضرورة أن يقوم الغرب بحماية «الأقليات» في سوريا، وصولا إلى دعم وحتى خلق نزعات انفصالية تؤدي إلى تقسيمها إلى دويلات وكانتونات. وكان من غايات القصف الكثيف والموسع على مواقع ومرافق ومقدرات الجيش العربي السوري، إضعاف الحكم المركزي ودفع سوريا نحو هاوية التقسيم والتشرذم والحرب الأهلية. إسرائيل تحاول استغلال مصاعب الفترة الانتقالية، وتسعى للدفع نحو التقسيم، ولكن يمكن ويجب إفشالها وإحباط مؤامراتها كافة، وبمقدور شعب سوريا وعلى العرب أن يدعموه عموما، وفي مواجهة إسرائيل أيضا.
«حلف الأقليات»

الشعب السوري قادر على إفشال المشاريع والمؤامرات الإسرائيلية الهادفة للنيل من وحدته وتماسكه، عبر استغلال صراعات داخلية قديمة وجديدة، يجب حلّها بالتوافق والتفاهم

لقد تبنت القيادة الصهيونية، وفي مقدمتها دافيد بن غوريون، استراتيجية «حلف الأقليات»، القائمة على بناء تحالفات مع جماعات غير عربية، أو غير مسلمة في الشرق الأوسط، لمواجهة المحيط العربي المعادي لها. وحاولت على الدوام استغلال مخاوف، وفي بعض الأحيان معاناة، هذه المجموعات لدعمها في مواجهة «الأكثرية العربية المسلمة» وفق مبدأ «عدو عدوي صديقي». وهدفت إسرائيل إلى تفكيك التضامن العربي، الذي اعتبرته تهديدا لوجودها ولأمنها، وسعت من خلال هذه الاستراتيجية إلى إضعاف الدول العربية من الداخل وحلمت حتى بتفكيكها.
وعلى سبيل المثال، اقترح دافيد بن غوريون على فرنسا، في خضم التنسيق والتحضير للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إقامة دولة مسيحية في لبنان تقيم علاقات سلمية مع إسرائيل. ومن المعروف أيضا أن الدولة الصهيونية أقامت شبكة من الاتصالات مع أطراف لبنانية، عبر استغلال التوترات الطائفية والسياسية الداخلية في لبنان، وصلت إلى حد إقامة ميليشيا مسلحة داعمة لإسرائيل ومدعومة منها هي «جيش لبنان الجنوبي». ولم يعد سرّا عمق تدخل إسرائيل في كردستان العراق، ومساهمتها في تسليح وتدريب وتمويل ميليشيات كردية انفصالية. وعلى الرغم من بعد كردستان عنها، اعتبرت إسرائيل ما يحدث فيها مرتبطا بشكل مباشر بأمنها القومي، وكان من غايات التدخل الإسرائيلي تقوية التيار الانفصالي اليميني في كردستان، على حساب التيار اليساري الذي ناضل من أجل تلبية الحقوق الفردية والجماعية في إطار الدولة العراقية. وفي ظل اتفاقيات السلام مع عدد من الدول العربية والعلاقات السرية المتشعّبة مع دول عربية أخرى، قل وزن «استراتيجية حلف الأقليات»، وصار الخطاب الإسرائيلي الطاغي هو «التحالف مع المحور السنّي المعتدل»، ووصل الأمر إلى اعتبار بعض «الأقليات» في المنطقة خطرا على «أمن إسرائيل» وليس ذخرا استراتيجيا لها. ولكن، وبعد سقوط نظام الأسد، وما سببه من ريبة بشأن الذي يحدث، والذي سيحدث في سوريا، طفا مفهوم «حلف الأقليات» على السطح مجددا وتعالت المطالبة بالسعي لأجله ولقيادته.
يستند الخطاب الإسرائيلي بشأن سوريا عموما، وسوريا ما بعد الأسد خصوصا، إلى تغييب تام لمفهوم وكيانية الشعب السوري، وعدم الإقرار بأنّه شعب واحد، يوجد فيه تنوّع وتعددية إثنية ودينية وجهوية، مثل قسم كبير من شعوب الأرض، وينطلق هذا الخطاب من التعامل مع السوريين بوصفهم مجموعات مفككة ومتنافرة من الطوائف والأقليات. وإسرائيل تسعى إلى استغلال الوضع القائم في سوريا ـ كما تفهمه وتشخّصه هي – لمصلحتها ولتحقيق مآربها، وهي تقول ذلك جهارا، وتقوم بممارسات فعلية سعيا للوصول إلى مبتغاها.
مآرب ومؤامرات
توالت التصريحات الإسرائيلية الداعية إلى دعم ما تعتبره إسرائيل أقليات في سوريا، وقال الجنرال المتقاعد يئير غولان، زعيم حزب «الديمقراطيون»، الذي يمثل ما تبقى من اليسار الصهيوني إنّ «إسرائيل ملزمة بالقيام بالمبادرة، واستغلال القنوات العلنية والسرية لدعم الأكراد، لأن منطقة كردية قوية هي أمن لإسرائيل». وتعتبر إسرائيل الإقليم الكردي منطقة عازلة تمنع إدخال أسلحة ومعدات وقوات معادية لها، وتعتبرها أيضا سدّا أمام زحف تركي محتمل، وقال غولان حول ذلك: «على إسرائيل أن تكون قلقة من أمر أساسي واحد: هجوم تركي ضد الأكراد في سوريا، وإذا أخضع الاتراكُ الأكرادَ فمعنى ذلك أنه سيصبح عندنا بدل الإسلام الشيعي المتطرف، تركيا وإسلام سنّي متطرّف». تعكس تصريحات يئير غولان الاتجاه السائد لدى النخب الأمنية والسياسية في إسرائيل، وقد تحوّل هذا إلى سياسة رسمية، أكثر من يعبّر عنها ويحث عليها هو وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعار، الذي دعا سابقا، في عام 2015، إلى تفكيك سوريا إلى أربع دول: سنية وعلوية ودرزية وكردية. وخلال إحاطة صحافية مع المراسلين الأجانب، الأسبوع الماضي، قال ساعار: «من المهم الدفاع عن الأقليات في سوريا: أكراد ودروز ومسيحيون وعلويون. وفي هذا الشأن سنتابع ونراقب الأفعال وليس الأقوال». وأضاف: «يجب وقف الهجوم على الأكراد، يجب أن يكون هناك التزام دولي وخطوات فعلية لحماية الأكراد، الذين حاربوا ببسالة ضد تنظيم الدولة الإسلامية». وأكّد ساعار أن الإدارة الأمريكية ملتزمة بأمن الأكراد في سوريا، في إشارة إلى انسجام بين واشنطن وتل أبيب على هذا الصعيد. ونشرت صحيفة «يسرائيل هيوم» أن القيادة الأمنية الإسرائيلية تبحث موضوع تقسيم سوريا، ونشرت كذلك أن عضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي عميت هليفي، توجه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرتين وطالبه بالعمل بجدية لتقسيم سوريا إلى كانتونات، مضيفا «نحن أمام خطر واضح بأن تتحول سوريا إلى بؤرة مركزية للإسلام المتطرف.. هناك ضرورة ملحة بأن تبادر حكومة إسرائيل إلى مؤتمر دولي لإعادة ترسيم الحدود في سوريا ومع جيرانها». وشدّدت الصحيفة على أن التطورات الدراماتيكية في سوريا قد تؤثّر على الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، وعلى إسرائيل التحرك واستغلال النافذة الزمنية القصيرة، قبل أن يترسّخ نظام «خطير» في دمشق، يمكن أن يشكل نموذجا يتكرر في أماكن أخرى في الشرق الأوسط.
ممارسات عدوانية
تكررت الدعوات الإسرائيلية لتقسيم سوريا، ومنها مباشرة، ومنها غير مباشرة متلحفة بحماية الأقليات، على غرار نظام الامتيازات في نهايات الدولة العثمانية. ولكن إسرائيل لم تكتف بالأقوال، بل قامت بأفعال فظيعة على الأرض لتسهيل «تقسيم وتفتيت سوريا»، وفي مقدمة ذلك الاستهداف الواسع لمقدرات الجيش العربي السوري، بهدف إضعافه ومنعه من التفكير في استرداد الجولان، أو حتى في الدفاع عن سوريا أمام هجمات إسرائيلية مستقبلية. ولكن الهدف الآخر غير المعلن من قبل إسرائيل هو التخريب على مشروع بناء دولة سورية مركزية قوية، ومتماسكة تستطيع بسط سيادتها وسلطتها على أراضيها. وتعتقد إسرائيل أن سلطة مركزية ضعيفة في دمشق تفتح الباب أمام نزعات انفصالية تشجّعها وتستفيد منها إسرائيل.
لقد تعلمت إسرائيل (وغيرها) درسا مهما من تفكيك الجيش العراقي بعد إسقاط نظام صدام حسين، ومن تفكّك الجيش الليبي تبعا للإطاحة بحكم معمر القذافي. في كلتا الحالتين دخلت البلاد في فوضى أمنية وحرب أهلية. وحين تيقنت القيادة الإسرائيلية من أنّ السلطة الجديدة في دمشق لا تنوي حل الجيش العربي السوري، سارعت إلى تنفيذ خطّتها، التي يجري إعدادها منذ حرب أكتوبر 1973، وقامت بتدمير معظم الآليات والقواعد العسكرية البحرية والجوية، وقسم كبير من المقدرات البرية والصناعات الحربية في أنحاء سوريا. في المقابل احتل الجيش الإسرائيلي أراضي سورية جديدة وتوغّل في منطقة جنوب سوريا، معلنا أنه لن يسمح لأحد بالاقتراب من حدوده الجديدة والقديمة. ويبدو أن إسرائيل تسعى إلى ترتيبات في جنوب سوريا مشابهة لتلك التي جرى التوصل إليها في جنوب لبنان. ويبدو أيضا أنها تريد فرض حالة خمسين عاما من الهدوء في الجولان المحتل، مثلما كان الوضع عليه خلال خمسين عاما مضت.
إفشال
من المؤكد أن الشعب السوري قادر على إفشال المشاريع والمؤامرات الإسرائيلية الهادفة للنيل من وحدته وتماسكه، عبر استغلال صراعات داخلية قديمة وجديدة، التي يجب حلّها بالتوافق والتفاهم، وتغليب المصلحة المشتركة العامة لجميع فئات الشعب السوري بلا استثناء. وحين يبني السوريون مؤسسات دولتهم من جديد على أسس ديمقراطية سليمة، وعلى قاعدة الوحدة الوطنية الشاملة والمواطنة المتساوية، فإنهم لن يتركوا لإسرائيل ثغرة تنفذ منها ولا عيبا تتسلل خلاله. وعلينا أن نتذكر ما قاله الشاعر الدمشقي الكبير، نزار قبّاني:
لم يدخل اليهود من حدودنا وإنما تسللوا كالنمل من عيوبنا
وحين تُسد الثغرات وتُصلح العيوب يكون لسوريا جدار حديدي تتحطّم عليه أحلام ومؤامرات إسرائيل، وترتطم به أطماعها التوسعية ومشاريع التخريب والهيمنة الإقليمية التي تسعى إليها. إسرائيل تعمل على تفتيت الدولة السورية، ويجب التصدي لها وتفويت الفرصة عليها وعلى من يشاطرها التآمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة