“نحن أحياء وباقون…وللحلم بقيّة”
حسن عبادي/ حيفا
تاريخ النشر: 23/12/24 | 8:25التقيت يوم 30 نيسان 2023 في سجن النقب الصحراويّ– كتسيعوت-(أنصار 3)، بالأسير المقدسيّ سائد محمد خليل سلامة مبتسماً ابتسامة البراءة والزمن الجميل التي استقبلني بها ساعة لقائنا الأوّل في سجن الجلبوع. تناولنا مشروعه الأدبي القادم؛ مجموعة قصصيّة جديدة بعنوان “للحلم بقيّة” واستوحى عنوانها من كرت العرس لصديقنا الأسير المحرّر صالح أبو مخ، وتحدّثنا عن الهويّة المقدسيّة وكم يعتزّ ويفخر حين يُطلق عليه “الأسير المقدسيّ”. وحين شاركت في معرض الكتاب الدولي بعمان شرّفني سائد بتوقيع مجموعته القصصيّة “للحلم بقيّة” نيابة عنه (مجموعة قصصية، اثنتا عشرة قصة قصيرة، 138 صفحة، لوحة الغلاف: مروان عبد العال، الصادرة عن “دار الفارابي”، بيروت-لبنان، وصدر له من قبل مجموعته القصصية “عطر الإرادة” التي واكبت إصدارها وروايته “العاصي” التي شرّفني سائد بتوقيعها بدلاً عنه في حفل الإشهار في معرض الكتاب برام الله).
كتب صديقي مروان عبد العال في المقدمة: “للحلم بقية هي خارطة التنقل داخل أحلام تعيش بيننا، نعرفها وكأنها جزء منا، إنها أحلام الحرية التي يتعطش لها وهي تطل على بلاد تنوء بثقل الغزاة، يسأل الكاتب أسئلتها الحقيقية لنعثر على الإجابات ونحن نراقب تلك الحوارات الجميلة والسرد الشيق. فلا يتحول الوجود إلى ذكريات بل تشكّل الذكريات وجوداً لا خلاص منه”.
يتناول سائد عالم الأسر وخارجه، وتخيّم على المجموعة براءة الزمن الجميل، وهذا ما لمسته أيضاً في مئات لقاءاتي بأسرى ما قبل ال 2004؛
وليس صدفة أن تكون القصّة الأولى “إجا الديب”؛ وجدتها لمسة وفاء لمعلّمته في الروضة فدوى اللبدي، كلّها حنين لأيام خلت، عبر أغاني أميمة خليل والزمن الجميل، أغنية “من سجن عكا/ فرقة العاشقين”، أغاني سيد درويش وأناشيد البراة، وصوت جورج قرمز يصدح عبر مسجل الكاسيت والأشرطة وكشك باب العمود وأعادني لأيام الجامعة وأزقّة القدس العتيقة. تغيّرت الدنيا يا سائد.
تناول في قصّة “حبل الغسل” محاولة تجنيد العملاء المستمرّة وما يتبعها من إغراءات وتصريح لبناء المستعمرات بات بطاقة عبور يحذّر منها سائد ويدعو لصحوة الضمير منبّهاً “وقف في عرض الطريق مُتسمراً فبدا كما لو أنه منغرس في الأرض مثل وَتَد. وكان كل شيء من حوله يدور. الدوران يتسارع وهو في نقطة المركز محور لعذاب يتعاظم فيه ويكبر، شعر بدماغه يتفتَّت، ثم يتحول إلى دخانٍ من فرط الحرارة التي يغلي في أتونها”. (ص.31)
لفتت انتباهي قصة “الهيبة”؛ ومتابعة الأسير لكلّ كبيرة وصغيرة خارج قضبان السجن، بما فيه المسلسلات التلفزيونيّة وتطوّرات وسائل التواصل وتحديثاتها، ولو عن بُعد، وعلاقة الأسير مع الأهل، وخاصة أولاده الذين يكبرون بعيدين عنه، ويحاولون كلّ جهدهم متابعة اهتماماتهم، وتحديثات الموضة الشبابيّة، فمع انطلاقة مسلسل “الهيبة” صار بطله الممثل تيم حسن مثل الشباب الأعلى وصارت إطلالته اللافتة والجذابة وتسريحة شعره وقصَّته صيحة الموسم والترِند الذي يحاول الكل تقليده وكأنّي بابن الأسير يبثّ رسالة مبطّنة لوالده: “بدّي إيّاك زي تيم، وإذا باجي وما بشوفك زيّه ببطّل أزورك” (أخذني لقصّتي مع حفيدي ماهر، حين كان في السابعة من عمره” فاجأني قائلاً: سيدو، إذا بتجبوش تلفزيون ببطّل آجي لعندكم”)” مما أجبره أن يطلب من حلّاق السجن نفس القصَّة، ولهذا نجد الأسير يقتني آخر الموديلات والماركات، بأسعار خياليّة من كانتينا السجن، وأحياناً يتشارك باقتنائها عدّة أسرى، ليتزيّن بها ساعة الزيارة… أو ساعة الترويحة.
حكايتي مع قصّة “للحلم بقية” شرحها يطول، يتناول قيمة الرسائل في ذاك الزمن الجميل، (تناولها أيضاً قصة “بين قلبين” وأكّد أهميّة الرسالة عند الأسير (ص. 100) وارتباط أصحاب المحكوميات العالية بعلاقات عاطفيّة، (تناولت الظاهرة في ندوة مناقشة رواية “حكاية جدار” لصديقي الأسير ناصر أبو سرور ضمن نشاطات “أسرى يكتبون” في رابطة الكتاب الأردنيين)، وكيّ الوعي، ودور الحاجز في حياة الفلسطيني والقهر الذي يلازمه “إنك ترى كيف لجندي لاهٍ أن يجعل من حياة المئات لعبةَ جحيم. فالجندي هو إله زمنك المقبوض… هو ربُ الحرائق التي تشتعل فيكِ والتي تلتهم تفاصيل حياتك، تلك التي تُنسّقها وتنضدها وفق التوقيت المفتوح لزمن الحاجز. لا ليس بك حاجةٌ لضبط الوقت فأنت هنا أسير الانتظار، وأسير لإله الحاجز. لست ملكاً لذاتك، وإرادتك رهن لانصياع مُضمرٍ تمليه الحاجة” (ص.52) ونقمة الطرق الالتفافية، ورغم ذلك يبقى الأمل سيّد الموقف، وينهيها “ها هما يسيران على أرض الحقيقة، وسوف يصدقان بأن الأيام تخبئ لهما ما هو أجمل… ليس مهما من أين يبدأ أو متى… المهم أنه بات لديهما حلم مشترك. هكذا فهمنا كلنا، حين قرأنا على بطاقة الدعوة للزفاف: “نحن باقون وللحلم بقية ” (ص. 56)
حين قرأت قصّة “وظلّ مقيداً” ثانية أعادتني لقائي بالأسير الراحل وليد دقة يوم 10 يوليو 2019 في سجن هداريم حين حدّثني عن ألمه وحسرته لاحتجاز السلطات حوالي ثلاثمائة جثّة فلسطينيّة ومنها جثمان الشهيد فارس بارود الذي توفّيَ خلال فترة سجنه وما زالت جثّته محتجَزة وتساءل فارس محدّقًا بوجه سجّانه باستهجان: “هل ستحتفظ سلطة السجون بجثّتي حتّى تنتهي فترة محكوميّتي لتحريرها؟؟” ونحن صامتون صمت القبور… وعكاكيز السلطة تفاوض، وتناول دور السلطة واتفاق أوسلو وما تبعه وترتب عليه من مفاوضات عبثية، واجترار واستشهاد وجاءت نهايتها صادمة ومدويّة “عندما أنزلوه عن الأكتاف ليواروه في الثرى، وقعت عيناي على يديه، فلم أعد أرى إلا سواد الأغلال، لقد كانتا مقيدتين، تماماً مثل زماننا الذي ما زال مقيداً” (ص.68)
سلّط سائد الضوء على الأفراح المنقوصة لعائلة الأسير (قصّة “المصائر المتقاطعة”) وتجديد اعتقال والد العريس إدارياً ممّا يعرقل كل البرامج والمناسبات العائلية، والابنة العروس التي تهالكت بالدمع في أحضان أمها ولم تقبل أن تضع القلادة في جيدها– نقوط أبيها الأسير لها– وأصرّت أن لا تتقلّدها إلا بيدي أبيها بعد أن يخرج من السجن. والله صعبة يا سائد!
تناول سائد بحرقة خصوصيّة الأسرى المقدسيّين في قصة “إنها العتمة الآثمة” واللعنة التي تلازمهم؛ “مكثت في السجن سبعة عشر عاماً إضافيا لا لشيء إلا لأنني أنتمي إلى مدينة: إلى الجغرافيا، هذه التي يعاد تقسيمها في كلّ مرةٍ من جديد” (ص. 118) ليستثنوا من عمليات التبادل، فهو صاحب عامود فقري ولا يؤمن بالحياد تيمُناً بما قاله أبو جعفر المنصور:
“إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا”
سائد مقدسيّ حتّى النخاع، ولا يهادن على مقدسيّته، ويوجعه ما يجري من محاولات بائسة للاستيلاء على القدس بأحيائها، مركّزا على سلوان، ومحاولات تهويدها في قصّة “رثاء المنكوبين”، وليس صدفة ذِكرِه لمقهى المهباش العريق وباب العامود وعبق التاريخ، وصراع الهوية، وكان له موقف واضح حين فصل ليلى عن سامي، حين كان مشروع زواج، ونقد من يفكر بالتماهي مع تهويد القدس، وذلك بالسعي للحصول على الجنسية الإسرائيلية بحجّة البقاء في المدينة وعدم التعرّض للطرد منها، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا، وينادي باللحمة بين جميع أهالي القدس، ليشد على يد ليلاه عبرَ كنيسة الجثمانيّة، وما أجمل أن يستعين بأحمد قعبور ليتمسّك بقدسه، وأغنيته:
“لكم أعود داميَ اليدين
وفي زوايا غرفتي
رائحةٌ تبكي بألف عين
…………
متى سألتم عن دمي
ترونه يلعب بالتراب
لكم إذا اكتفيت بالأمان
أحبكم… أي أتركُ المكان” (ص. (132)
سائد ظلّ ماسكاُ على الجمر رغم سنيّ الأسر الطويلة ولم تثبط عزيمته، بل زادته صلابة وجرأة وعنفواناً، ونلمس الأمر جلياً في خاتمة المجموعة، قصّة “ما حَدَا بيجي وما حَدَا بِيطُل”، حيث ينتقد بشدّة ظاهرة السمسرة على الأرض الفلسطينية لمصلحة مؤسسات استيطانية صهيونية، وتكفير ابنة من مارس هذه الرزيلة عن العار الذي ألحقه بسمعته وسمعة العائلة بالانخراط في نشاطات يوم الأرض، دفاعًا عن الأرض وحماية لها من خطر المصادرة والاستيطان، وهذه البوصلة.
وجدتها قصصاً ملتزمة تحث على تعزيز الهوية الوطنية، وحماية الأرض والبلد وعدم التفريط بها مهما كان الثمن، فالأحلام الجميلة حقاً ستتحقّق يوماً ما.
كلمة لا بدّ منها؛ لفت انتباهي لغة سائد في هذه المجموعة القصصيّة، لغة الزمن الجميل، لغة عربيّة كلاسيكيّة قلّ مثيلها في أيامنا، كلمات أخذتني للبدايات وإلى معاجم اللغة العربيّة، وعلى سبيل المثال، لا الحصر: تنبجس، انبجاس، ولجت، نسغ، يتقصّد، بلوغها البيت، الانعتاق، تدلف، تنفغر، تنذرف، تنجبل، المنبثقة، انسدال، استنشاق، المثالب، الممهورة (عدّة مرات)، القلب الواجف، الانطمار، الاندثار، موئلاً، تستجلي، كلمات يجهلها كتّاب الفيس بوك وروّاده ومتابعيه.
حاول السجّان احتجاز الحلم ووأده فجاء سائد ليحطّم تلك الحواجز مناديا بعبور درب الآلام محوّلا الألم إلى أمل ويصرخها بصريح العبارة “للحلم بقيّة”… وبقيّته حريّة حتميّة.
شمس الحريّة تتوق لعناقك يا سائد.
حسن عبادي