الضم .. و “دولة المستوطنين” في الضفة الغربية

فتحي كليب

تاريخ النشر: 24/12/24 | 9:10

النفاق السياسي لبعض الدول الغربية، برز بشكل واضح ودون مساحيق في ردود الافعال على دعوات مسؤولين اسرائيليين لفرض السيادة الاسرائيلية على الضفة الغربية وضمها الى اسرائيل، وتأكد هذا النفاق في التعليق على دعوة نتن ياهو الى وضع قضية ضم الضفة على جدول أعمال حكومته عند تسلم الرئيس الأميركي الجديد مهامه، ليبدو وكأن تلك الدول متفاجأة بما يصرح به ويعمل عليه المسؤولون الاسرائيليون، رغم ان مخطط الضم بات برنامجا رسميا للحكومة الاسرائيلية التي تحدثت عنه في اكثر من مناسبة، وسنت له القوانين واتخذت الاجراءات والقرارات، كخطوات تمهيدية لفرضه واقعا على الارض..

فالولايات المتحدة الامريكية تعلن ليل نهار، وان كان بشكل مضلل، انها تعمل على “حل الدولتين، والدول الغربية التي تدعم الكيان بشكل علني وتوفر له مقومات البقاء، تعلن بدورها دعمها لما يسمى “حل الدولتين”، لكن بالمقابل دولة كفرنسا تتجاهل الانتقادات الدولية والداخلية الواسعة لاسرائيل وتستضيف حفلا لتمويل جيش الاحتلال يشارك به احد مجرمي حرب الابادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. والولايات المتحدة ايضا تستقبل الفاشيين العنصريين الذين يرفضون حتى ما تدّعي انه مشروعها السياسي وتكيل امامهم مدائح الدعم للكيان والدفاع عنه.. لذلك ليس مبالغة او تجنيا وصف سياسات هذه الدول بالنفاق السياسي.

المؤكد ان الدول الغربية تدرك جدية مخطط الضم وتعلم ان خطره يطال القضية الفلسطينية برمتها، وهي تعلم ايضا ان الاحتلال انتقل باستراتيجيته من احتلال استيطاني للضفة الغربية الى استعمار استيطاني يقوم على ضم مساحات واسعة من اراضي الضفة وفرض السيادة الاسرائيلية عليها. ولسنا بحاجة لنكرر ان الضم لا يساوي الاحتلال، بل هو ابعد واخطر نقطة يمكن ان يصل اليها الاحتلال، وهو حتما يأخذ اشكال ومسارات مختلفة، بما يخدم مصلحة وتكتيكات الاحتلال بأن يمر هذا المخطط بشكل تدريجي بلا اية عوائق، ودون مواجهات حادة مع الفلسطينيين او حتى مع المجتمع الدولي.

خطورة الضم في المرحلة الراهنة ليس في ما اعلنه رئيس وزراء دولة الاحتلال او احد وزراء حكومته، بل تكمن في ان الضم اصبح ومنذ الآن الاستراتيجية الرسمية التي تتحرك اسرائيل وكافة مؤسساتها واجهزتها في اطارها، وان كل ما ستقوم به في الضفة من اجراءات ومن قرارات عسكرية ومدنية سيكون منسجما مع هذا المخطط، او بعبارة ادق: ان تعاطي اسرائيل في المرحلة القادمة مع الضفة الغربية سيكون بتهيئة البنى التحتية لاستقبال استحقاق الضم، في وقت ما زال بعض الفلسطينيين يتحدث عن امكانية استئناف مفاوضات، ويقارب مخطط الضم من زاوية كونه امتداد لسياسات وممارسات الاحتلال التقليدية، او هذا المخطط لا يغير شيئا في جوهر الصراع، لذلك يكتفون بمواقف رافضة وادانات شكلية، ورهانات على تحركات وضغوط امريكية واوروبية اكدت التجارب السابقة انها رهانات فاشلة، خاصة مع الادارة الجديدة للرئيس الامريكي، حيث تؤكد المؤشرات الاولى ان القضية الفلسطينية ستكون امام سنوات صعبة..

مثل هذه المواقف تغذيها تحليلات خاطئة بأن الضم سيتحرك في مناطق صغيرة فقط، في محاولة للتخفيف من خطره او لتهدئة الحركة الشعبية، لكن وقائع الميدان تؤكد ان مخطط الضم سيطال الضفة الغربية من جهاتها الست. فحين يقال على سبيل المثال ضم المستوطنات، علينا ان نعلم خارطة الاستيطان في الضفة والتي تم بناؤها بشكل ممنهج ليخدم الاستراتيجية الصهيونية العامة في نظرتها الاسترتيجية لأراضي الضفة، والمدن الفلسطينية اليوم كلها مطوقة بحزام من المستوطنات ومحاصرة من كل الاتجاهات، وبالتالي فان كافة المدن الفلسطينية ستكون رهينة الاستيطان في كل تفصيل يومي. لذلك حين تقوم اسرائيل بضم المستوطنات فقط فهي من الناحية العملية تكون قد فرضت سيطرتها على كافة المدن المحيطة بها والمتداخلة معها، خاصة ان المعابر والطرق الالتفافية المحيطة بالمستوطنات او ما يسمى المناطق العسكرية ستبقى كلها تحت السيطرة الاسرائيلية، ما يعني في الواقع العملي ان اسرائيل قادمة على ضم كافة اراضي الضفة الغربية، مع مراعاة وجود ثقل سكاني فلسطيني في الوقت الحالي يتجاوز عدد سكان المستوطنين (نحو 145 مستوطنه يسكنها حوالي 800 الف مستوطنين مقابل نحو 3.5 ملايين فلسطين).

لا يمكن النظر الى مخططات الضم الا كونها تطبيقا حرفيا لما يطرحه المشروع الصهيوني الذي لا يؤمن سوى بـ “دولة اليهود” على مساحات جغرافية تتجاوز حدود فلسطين التاريخية، ما يجعل من المطامع الاسرائيلية بأراضي الدول المحاذية لفلسطين حالة دائمة لن تنتهي، كما تشكل استجابة لحاجة سياسية لأحزاب الفاشية والعنصرية في اسرائيل، التي تلعب على وتر المصالح الحزبية، خاصة في ظل التطرف الاسرائيلي الآخذ بالتزايد، حيث يشكل الاستيطان ركيزة هذا التطرف ونقطة مركزية في البرامج السياسية لكافة الاحزاب الاسرائيلية..

كثيرة هي المعطيات التي تشير الى ان اعلان مخطط الضم قد اقترب، وتتعدد السيناريوهات حول طريقة وتوقيت الاعلان الرسمي عنه، لكن ومن خلال مراجعة ما ينشره الاعلام الاسرائيلي، يتبين انه سيتضمن مجموعة من العناوين والمراحل:

اولا) نقل صلاحيات من الجيش الاسرائيلي الى سلطات مدنية مسيطر عليها من قادة المستوطنين وبدعم مباشر من وزراء ومسؤولين كبار في الجيش والحكومة، بما يعني نقل المسؤوليات من سلطة احتلال الى سلطة مدنية تطبق القانون الاسرائيلي، وهذا ما حصل خلال الاشهر الماضية.

ثانيا) تحويل بعض المساحات في الضفة من منطقة (ب) الى منطقة (ج)، وفرض السيطرة الاسرائيلية الكاملة عليها، بما يتعاكس حتى مع اتفاقية اوسلو، مع امكانية ابقاء سلطة وظيفية لاطر فلسطينية لا صلاحيات امنية او عسكرية او سيادية لها على تلك الاراضي، وتتضمن تلك المناطق: الاغوار، المستوطنات وما حولها والمناطق المحاذية لجدار الفصل.. وبشكل تدريجي يعمل على تهجير الفلسطينيين المقيمين في المناطق ج، سواء عبر محفزات مالية او من خلال ضغوط امنية وعسكرية وادارية..

ثالثا) افراد ميزانيات ضخمة للبناء الاستيطاني في الضفة الغربية. وينقل الاعلام الاسرائيلي ان الحكومة الفاشية في اسرائيل تتواصل مع متمولين يهود في امريكا واوروبا لتمويل مشاريع استيطانية ضخمة سيعلن عنها لاحقا..

رابعا) دعم مجموعات المستوطنين عسكريا بحجة توفير الحماية لهم، بعد ان باتت الوظيفية الاساسية لبعض الوزراء في الحكومة الاسرائيلية هي كيفية توزيع السلاح على المستوطنين في الضفة، وقد اصبح بيدهم، حسب المعطيات المتوافرة، نحو 700 الف قطعة سلاح، وهي نسبة تعتبر كبيرة جدا مقارنة بعدد المستوطنين.

خامسا) سن قوانين وقرارات عسكرية ومن وزارات مختلفة تقوم بالتضييق على الفلسطينيين في المستويات الامنية والعسكرية وعلى مستوى هدم المنازل ومنع البناء، وبالمقابل السماح للمستوطين اليهود بالبناء وتقديم محفزات من اجل انتقال بعضهم للاقامة في الضفة الغربية.

سادسا: كي يصبح من الاستحالة قيام دولة فلسطينية سيدة على ارضها واقليمها، فان اسرائيل لن تكتفي بضم ما تريده من اراض فلسطينية، بل وفي اطار تطبيقات مخطط الضم، ستعمل اسرائيل على تقسيم الضفة الغربية الى اكثر من 170 منطقة متباعدة عن بعضها البعض. ومثل هذا التقسيم جرى الحديث عنه عشية التوقيع على اتفاق اوسلو حين اقترح احدهم بتحويل الضفة الغربية الى معازل اشبه ببنتوستانات..

بغض النظر عن المواقف الدولية، الغربية تحديدا والمتواطئة مع المخططات الاسرائيلية، عبر صمتها وشراكتها، فان مخطط الضم يجري كما هو مخطط له اسرائيليا، حتى وان تأخر احيانا او تباطأ تنفيذه لاسباب تكتيكية، الا ان مسار التطبيق يجري بالخلفية الاستراتيجية التي اعتمدتها اسرائيل منذ النكبة عبر فرض الامر الواقع على الشعب الفلسطيني والعالم، ليس بمرحلة واحدة بل بخطوات متدرجة ومرحلية تشكل مجتمعة البناء الاستراتيجي الكامل لمخطط الضم، اي ما يطلق عليه بـ “الضم المتدرج”.

لكل هذه الاسباب نكرر القول ان الدول الغربية تنافق سياسيا حين تزعم دعمها لما يسمى “حل الدولتين” وتنتقد المخططات الاسرائيلية في الضفة الغربية كونها تتناقض مع الشرعية والقانون الدولي، بينما تمد اسرائيل بكل مقومات الحرب والقتل والعدوان، وفي الواقع العملي لا تملك من اسلحة العقاب الا فرض عقوبات بسيطة على نفر قليل من الافراد، فيما قادة التطرف والفاشية يواصلون مخططهم غير آبهين لا بمواقف دول غربية ولا بانتقادات مؤسسات دولية ولا ارادة عالمية دعت اسرائيل الى انهاء احتلالها للاراضي الفلسطينية المحتلة في غضون عام.

يؤشر مخطط الضم الى اننا امام مرحلة جديدة تختلف تفاصيلها عن كل ما سبق. وحين نعتبر بأن من يحكم اسرائيل اليوم عقلية فاشية استئصالية دينية لا تؤمن بشعب فلسطيني ولا بحقوق وطنية له، فان تطبيقات الضم لن تكون خطوة سياسية وميدانية، وفقا لما اعتدنا عليه سابقا، بل هي تأتي معطوفة على ما ستحققه اسرائيل من حربها على قطاع غزه بشكل عام وعلى الضفة بشكل خاص. لذلك، ففي تعريفنا لمخطط لضم، لا يجب الاكتفاء بالاعتبارات السياسية فقط، بل يجب تناول هذا المخطط من زاوية كونه مشروع بمسارين اقليمي وفلسطيني تحكمه نظرة سياسية مسيجة بخلفية دينية وبمصالح سياسية واقتصادية للدول الغربية والاطلسية في المنطقة.

ان مخطط الضم، ورغم الدعم الكبير الذي يحظى به من قبل الدول الغربية، لكنه ليس قدرا، وبالامكان افشال حلقاته. ونعيد التأكيد مرة اخرى بأن اية استراتيجة مواجهة فلسطينية لن يكتب لها النجاح ما لم تأخذ بعين الاعتبار حقيقة اننا ما زلنا كفلسطينيين في مرحلة التحرر الوطني، ما يعني ان المهمة الراهنة للشعب الفلسطيني وقواه السياسية والشعبية هي التوافق على تعريف طبيعة هذه المرحلة، بكل ما يترتب على ذلك من اولويات ومهام وطنية ونضالية وفي مقدمة ذلك اولوية اعطاء الميدان حقه في حركة شعبية نشطة وفاعلة، ومقاومة المحتل وبناه التحتية بمختلف الاشكال النضالية المتاحة. اما الرهان على الضغوط الخارجية لاقناع اسرائيل بالعدول عن مخططها، فهذا امر جرب عشرات المرات وكانت نتائجه فشلا ذريعا، لأن ما يحكم سياسات اسرائيل ليس المنطق السياسي بل غطرسة القوة التي لا يمكن مواجهتها الا عبر قوة تقابلها، وليس بالضرورة قوة بحجمها، وقوة الفلسطيني المجربة هي الوحدة والصمود والمقاومة بكافة اشكالها، خاصة في ظل حالة التطرف الآخذة بالاتساع داخل المجتمع الصهيوني..

ليس كافيا اليوم انتقاد مخطط الضم وتداعياته على ما يسمى “حل الدولتين” وعلى استقرار المنطقة. وطالما ان هذا المخطط هو اعلى نقطة يصلها المحتل الاسرائيلي، فان على الفلسطيني ان يواجهه بأكثر قوة ممكن ان يصل اليها، بغض النظر عن موازين القوى، التي بامكاننا ان نجعلها مختلة لصالح الشعب الفلسطيني، اذا ما احسنا استخدام اوراق القوة التي تمتلكها الحالة الفلسطينية مجتمعة.. وهذه المعادلة لا يمكن ان تستقر مع نقيضين: حكومة اسرائيلية فاشية لا ترى الا القتل والارهاب والتدمير سبيلا لتحقيق مشاريعها العدوانية، وتمسك بصيغ مفاوضات وبعملية سياسية سقطت اوراقها وانهارت كل اسسها، بل علينا المراكمة والبناء على ما بيدنا للتأسيس لمرحلة جديدة من النضال ثابتيها وحدة الشعب بكافة مكوناته ومقاومة تستثمر كل ما يمكن ان تقوم به من اسلحة عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية واعلامية.. وهذا يتطلب وجود مرجعية واطار يقود المواجهة. وكي لا نذهب بعيدا، بيدنا الآن مخرجات اعلان بكين وقرارات المجلسين الوطنيين المركزي والوطني اللذين سبق وان اشارا الى تشكيل قيادة وطنية موحدة لقيادة المقاومة الشعبية في الضفة، وما احوجنا اليوم الى مثل هذه القيادة، التي اكثر ما تحتاج اليه هو الارادة الحرة على التفكير وفي تحمل تبعات الخيارات المستقبلية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة