بعض من فلسفة التاريخ !
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 31/12/24 | 19:12التاريخ في عالمنا العربي يتشكل ويُصنع الآن بفضل الحراكات المنتشرة في مختلف المناطق هنا وهناك. فهل هناك ما يستحق أن نقوله بشأن فلسفة التاريخ؟.
في عبارة قصيرة وعميقة المعنى، وضع هيجل الأساس لعلم التاريخ، قاطعاً الطريق أمام الأساطير والأوهام التي سادت لفترة طويلة وأفسدتْ فهم وتفسير مجريات التاريخ.
في عبارته الشهيرة، قال هيجل: الأحداث والشخصيات العظيمة في التاريخ تميل إلى الظهور مرتين، إن صح التعبير.
رأى هيجل أنَّ الأحداث العظيمة والشخصيات العظيمة في التاريخ تتماشى مع “ثلاثيته الشهيرة”، مؤكداً ضرورة ظهورهما مرتين. ومع ذلك، لم يغفل حقيقة أنَّ “المرة الثانية” تشبه “المرة الأولى” من حيث “الشكل” أو بما يقترب من الشكل أكثر من “المضمون الواقعي الحقيقي”.
أما ماركس فقد انشغل بالإجابة عن سؤال مختلف: كيف يُصنع التاريخ؟.
رأى ماركس أنَّ التاريخ ليس مجرد ظاهرة عفوية، بل هو عملية تُبنى وتُخلق؛ ومع ذلك، فهي لا تنطلق من فراغ تاريخي. فالبشر هم صناع تاريخهم، وبـأيديهم ينجزونه. نعم، بـأيديهم ، لكن دون أن يكون ذلك وفق أهوائهم أو رغباتهم الشخصية.
يرى ماركس أنَّ التاريخ هو عملية مستمرة قيد التشكيل، وليس منتجا ًمكتملاً مسبقاً بفعل قوى غريبة عن البشر ومسرح الأحداث. فهو يرفض فكرة أنَّ البشر مجبرون على العمل والتفاعل ضمن مسار يؤدي إلى أحداث تاريخية محددة سلفاً، ومنذ الأزل، بفعل قوى خارجية لا ترتبط بوجودهم أو إرادتهم أو وعيهم.
حتى الإرادة الحرة للإنسان، كما وصفها نيتشه، لا يمكن إلا أنْ تُفسَّر كجزء من نظام قدري محتوم لا مفر منه. فالإنسان يختار، لكن خياره في النهاية يؤكد أنَّه كان محدداً له مسبقاً ضمن هذا النظام.
في عبارته “إنَّ البشر يصنعون بأيديهم تاريخهم؛ ولكن ليس على هواهم”، تجاوز ماركس التضاد الوهمي بين “الموضوع” و”الذات” في عملية صناعة التاريخ . فالبشر لا يصنعون تاريخهم ضمن ظروف من اختيارهم، بل يرثون هذه الظروف من الماضي مباشرة. وهكذا، تبقى عقول الأحياء دائماً تحت تأثير إرث الأجيال الماضية.
ينهمك البشر باستمرار في تغيير أنفسهم وتغيير ما يحيط بهم من أشياء؛ ومن هذا الانشغال الفردي والجماعي تنطلق عملية صناعة التاريخ.
لنقل على سبيل التشبيه “كيمياء التاريخ “تكشف أنَّ عملية صنع التاريخ غالباً ما تُنتج نتائج لم يكن يرغب فيها صانعوها، سواء كانوا أفراداً أو جماعات، ولم تكن تمثل أهدافاً واضحة في خططهم أو مساعيهم. وغالباً ما تأتي هذه “النتائج” متناقضة مع ما سعى إليه البشر أثناء محاولتهم تغيير أنفسهم أو محيطهم. ومع ذلك، بغض النظر عن طبيعة “النتائج” ومدى توافقها أو تعارضها مع توقعات البشر ورغباتهم، تظل خاضعة لما يمكن تسميته بالضرورة . فصنع التاريخ لا يمكن أنْ يُثمر عن نتائج لا يجيزها الواقع الاجتماعي والتاريخي الذي يعمل ضمنه البشر.
في التاريخ، وفي العديد من أحداثه وتحولاته الكبرى والمهمة، نلاحظ عادةً أنَّ الماضي يظل حاضراً في الحاضر. حتى الأموات وما اندثر من أشياء، التي انتهت حياتها، يُستحضرون وكأن تأثيرهم على الأحياء، الذين يصنعون الأحداث التاريخية، لم ينتهِ بعد.
إنَّه تناقض يصاحب عادة كل حدث تاريخي عظيم، فالبشر الذين يسعون لخلق شيء جديد بالكامل، لم يكن له وجود من قبل، يظهرون ميلاً قوياً لاستحضار أرواح الماضي. وكأن الحدث التاريخي الجديد، في جوهره الواقعي، يحتاج إلى “شكل” يستلهم جماله من “الماضي”، أي من ما اندثر وأصبح مجرد ذكرى. لكن “ظلاله” من أفكار، ولغة، وأزياء، وشعارات، لا تزال تحتفظ بتأثيرها في عقول وأرواح الأحياء، صُنَّاع الحدث التاريخي، الذي يتسم بجديده، وهو “المحتوى”، لكنه يتزين بجمال وجلال وهيبة وقدسية القديم والقِدم .
وعندما يُفهم السبب ، أي عندما يُفسر هذا التناقض، يزول العجب . فالبشر لا يستحضرون الماضي أو أرواح الماضي إلَّا لتحقيق أهداف الحاضر، أي لخدمة مقاصدهم الحالية.
ومن أجل هذا، نراهم يستعيرون من الماضي الأسماء والشعارات القتالية واللغة والأزياء، ليبدأوا عملهم التاريخي وكأنهم يمارسون دوراً في مسرحية على مسرح التاريخ. فهذا القائد الجديد يرتدي زي القائد القديم، وهذا الحدث الجديد يتنكر في شكل الحدث القديم. هكذا، يتداخل في العمل التاريخي الكبير “الخلق” و”التمثيل”.
إلباس “محتوى” الحدث التاريخي الجديد، أو الذي هو قيد التشكيل، بجمال وجلال وهيبة وقدسية “القديم” هو عمل لا يخلو، رغم أهميته وضرورته الواقعية، من الوهم والخداع. فالباحث، بكل جدية وموضوعية وعلمية، في تاريخ الأحداث الكبرى وشخصياته الشهيرة، سيكتشف أنماطاً من التفسير والفهم التي تبدو غريبة تماماً عن منطق التاريخ وواقعه. وهذا ما يثبت أنَّ لكل عصر حقائقه وأوهامه.
بينما نحن مشدودون لمتابعة فصول هذه “المسرحية التاريخية”، التي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، نغفل أو نتناسى حقيقة بسيطة، وهي أنَّ “القيادة” ليست سوى “اختراع” تولده “الحاجة”، تمامًا كما تولد سائر الاختراعات. فالبشر، في جميع جوانب حياتهم، لم يخترعوا شيئاً قط، ولن يخترعوا أبداً، شيئًا لم تكن الحاجة الملحة إليه هي التي دفعته للظهور. فالحاجة تظل تضغط على عقول الناس وقلوبهم، حتى تفرز “الاختراع” الذي يتيح لهم تلبيتها وإشباعها.
قد يكون “مصادفة” أن يحمل هذا القائد العظيم اسم علي أو حسين، أو أنْ يولد في نفس المكان، لكن “الضرورة” تقتضي أنْ يكون، من حيث عمله ومهمته، مشابهاً لعلي أوحسين في المحتوى والخصائص الاجتماعية والتاريخية.