في المنظمات غير الحكومية!

بقلم : د . ادم عربي

تاريخ النشر: 02/01/25 | 17:54

المنظمات غير الحكومية تمثل إحدى السمات الأساسية للعصر الذي نعيش فيه، عصر العولمة. وهي في جوهرها، وفيما يتعلق بالموقف منها، تُعَدُّ مسألة جدلية كبرى على المستوى العالمي. أما أولئك الذين يتطرفون في دعمها والترويج لها سواء كفكرة، أو ككيان قائم، أو من حيث أعمالها ونشاطاتها وأهدافها ومهامها فيعتبرونها بمثابة القوة العظمى الأخرى في العالم.
لا يمكن لأي شخص يسعى بجدية إلى تعزيز ” الجماعية” كروح وفكر وإرادة ونشاط وعمل، خصوصاً في عصرنا الحالي، إلّا أنْ يدعم كلَّ مجموعة من الأفراد الذين ينظمون أنفسهم ذاتياً، مهما كان حجمهم، في إطار “مؤسسة” يتشاركون فيها اهتماماً معيناً. هؤلاء الأفراد يمارسون معاً نشاطاً تطوعياً، يقوم أساساً على تقديم منفعة للمجتمع دون السعي إلى اقتسام الأرباح، حتى إنْ تحققت.

من خلال نشاطهم التطوعي وغير الربحي، يسعون لتلبية احتياجات عامة لم تتمكن الحكومة أو منظماتها من تلبيتها، أو لم تُعرها اهتماماً كافياً. وفي هذا المسعى، يعتمدون على تمويل ذاتي بجهودهم الخاصة، مع حرصهم على ألّا يؤثر أي دعم مالي أو عيني قد يتلقونه من مصادر خارجية، محلية أو دولية، على استقلالية منظمتهم.
هذا “النشاط الجماعي التطوعي المنظم، غير الربحي وغير الحكومي، ذو الطابع الخيري والإنساني أو الموجه لخدمة قضايا عامة مثل حقوق الإنسان”، ينبع من حاجة إنسانية عالمية متجذرة في الواقع الموضوعي لعصر العولمة الذي نعيشه. وإذا تمكنا من تحرير “المنظمات غير الحكومية” من قبضة المصالح الضيقة أو الهيمنة التي تفرضها القوى الممولة دولياً، فسوف تظهر هذه المنظمات كجنين لمجتمع عالمي جديد.

في جوهرها، “المنظمة غير الحكومية” تمثل قطاعاً ثالثاً يقع بين القطاع العام الحكومي والقطاع الخاص. فهي تحمل سمات القطاع العام من حيث خدمتها للقضايا والمصالح العامة، وسعيها لتلبية احتياجات مجتمعية دون هدف الربح. وإذا تحققت أرباح، فإنها لا تُوزع على الأعضاء. كذلك، تجسد مبدأ “الفرد من أجل الكل، والكل من أجل الفرد”.

وفي الوقت ذاته، تشبه القطاع الخاص بكونها مجموعة خاصة من المتطوعين، مع استقلالية تامة عن الحكومة في وجودها، عملها، نشاطها، أهدافها، وإدارتها، حتى إنْ كانت تتلقى تمويلاً خارجياً أو تمنح بعض أفرادها أجوراً لقاء جهودهم.
في البداية، تبرز “المهمة” بوصفها حاجة ملحة لعمل ما يجب إنجازه، إما لأن “الحكومة” لم تقم به لسبب ما، أو لأن الفئة المستهدفة غير قادرة على القيام به بمفردها. هذا العمل يهدف إلى تلبية حاجة معينة أو خدمة مصلحة فئة محددة من المواطنين.

حينها، يجتمع أفراد يشاركون الاهتمام نفسه وينظمون أنفسهم بشكل مستقل لتأسيس “منظمة غير حكومية”. هؤلاء الأفراد المتطوعون غالباً ما يكونون من ذوي الخبرة والكفاءة والمهارة اللازمة لإنجاز هذه المهمة، ويعملون على استقطاب مزيد من المتطوعين ذوي القدرات المشابهة.

يعتمدون بشكل أساسي على التمويل الذاتي لدعم نشاطهم، مع الحرص على أن يكون هذا التمويل متوافقاً مع إمكانية تلقي مساعدات ومعونات مالية أو غير مالية من مصادر خارجية غير حكومية، دون الإضرار باستقلاليتهم.

السؤال الذي يشغل بال “النواة المؤسِّسة” هو: “ما الخدمة الجديدة والنافعة التي يمكننا تقديمها للمجتمع، أو لفئة محددة منه، من خلال عمل تطوعي غير ربحي، نحافظ فيه على استقلالنا الإداري والمالي عن الحكومة؟”.

لكن وجود “المنظمة غير الحكومية” ونشاطها يتطلب إطاراً قانونياً وتشريعياً، إذْ إنَّ “الشفافية” وليس “السرية” هي شرط أساسي لقيامها. في هذا السياق، لعبت القوة العظمى في العالم، الولايات المتحدة، دوراً محورياً في استغلال هذه الحاجة العالمية إلى المنظمات غير الحكومية لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية.

وقد سعت الولايات المتحدة إلى الضغط على حلفائها وأصدقائها من الدول لإجراء إصلاحات قانونية وتشريعية، ولو كانت محدودة، تُمهِّد لظهور هذه المنظمات بمختلف أشكالها وألوانها. هذه الإصلاحات تهدف إلى تمكين المنظمات من العمل بحرية، مع جعل تلقيها للمساعدات من مصادر خارجية، تُسيطر عليها الولايات المتحدة، أمراً مشروعاً وقانونياً.

يمكن تشبيه هذا الوضع بزواج بين الولايات المتحدة، التي تمثل الطرف المهيمن، وبين الدول الأخرى، التي تلعب دور الشريك المُنتِج لـ”المنظمات غير الحكومية”. هذه المنظمات، من خلال وجودها وانتشارها ونشاطاتها، قد تساهم في تشكيل واقع جديد يتماشى مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية، أو تُمهِّد لظهور “حالة” شبيهة بـ”الفوضى” التي شهدتها بعض الدول العربية.
“وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية” (USAID)، التي تأسست عام 1961 بمبادرة من الرئيس جون كينيدي، تُعد من أبرز مصادر التمويل الأجنبي “للمُنظمات غير الحكومية” في العديد من دول العالم. هذه الوكالة، التي تتبع حكومة الولايات المتحدة، تسعى في نهاية المطاف إلى دعم السياسة الخارجية الأمريكية، سواء من خلال أهدافها المُعلنة أو ما تحمله من مصالح استراتيجية غير مُعلنة.

تعمل الوكالة من خلال بعثة في كل دولة تستهدفها، تُدار من قبل مسؤول مقيم في سفارة الولايات المتحدة، ويكون عمله تحت الإشراف المباشر للسفير الأمريكي في تلك الدولة.
تربط “وكالة التنمية الدولية” علاقات عمل وثيقة مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، حيث كثيراً ما عمل موظفو الأخيرة في الخارج تحت غطاء الوكالة.

من خلال دعمها وتمويلها لـ”المنظمات غير الحكومية” (أو ما يُعرف بالمنظمات غير الربحية، التطوعية، الخيرية، الأهلية، أو منظمات المجتمع المدني)، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في المجتمعات التي تنشط فيها هذه المنظمات.

تقوم هذه المنظمات بجمع ونشر معلومات متعددة الجوانب عن سلطات الدولة الثلاث والمجتمع وأوجه حياته المختلفة. يُعتبر هذا النشاط المعلوماتي ضرورياً ليس فقط لتأدية مهامها وأعمالها، بل أيضاً كجزء من الأهداف غير المباشرة لتمويلها من مصادر أمريكية، سواء كانت حكومية أو غير حكومية، أو من جهات غربية أخرى.
إنجازات هذه المنظمات تكشف، ولو جزئياً، عن “توازن نسبي” بين تضارب مصالح الولايات المتحدة ومصالح الدولة التي تنشط فيها “المنظمات غير الحكومية”. فالقوة العظمى في العالم لا يمكنها تحقيق مصالحها في تلك الدولة، أو عبرها، دون أن تُقدِّم في الوقت نفسه بعض الفوائد العامة لمواطني تلك الدولة.

هذا التداخل بين تحقيق المصالح الأمريكية وتلبية بعض الاحتياجات المحلية يُفسِّر التباين في مواقف الناس تجاه “المنظمات غير الحكومية”، حيث يُنظر إليها من زوايا مختلفة بين الدعم والشكوك.
في العديد من الدول العربية، يظهر الفساد بشكل واضح في عمل بعض “المنظمات غير الحكومية”. فالتسهيلات المقدمة عبر “الاحتيال القانوني” والتدفق الكبير للتمويل الأجنبي يُغريان الكثير من المواطنين بخوض تجربة إنشاء مثل هذه المنظمات.

غالباً ما يتبنى المؤسسون شعارات وقيم إنسانية وديمقراطية وحضارية تجذب “الممولين الأجانب”، بهدف الحصول على التمويل لتحقيق مكاسب شخصية. في الوقت نفسه، يقومون بأنشطة ظاهرية تتماشى مع الأهداف المعلنة لهذه المنظمات، لتغطية استغلالهم للتمويل.

في بعض الحالات، يتم التغاضي عن هذا الفساد، خاصة إذا كانت المنظمة تخدم أجندات غير معلنة للممولين. وهكذا، يظهر أن ولاء العديد من هذه المنظمات مرتبط بمن يدفع، أو بمن يقدم تمويلاً أكبر. بلْ إنَّ بعض المؤسسين لا يترددون في التصريح بأن أحد أهداف منظمتهم الرئيسية هو تلقي التمويل الأجنبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة