” تندوف ” وثيقة شاهدة على السيادة وعبثية الاستعمار:

عبده حقي

تاريخ النشر: 04/01/25 | 18:35

كانت مدينة تندوف، الواقعة في قلب المناظر الطبيعية القاحلة للصحراء الشرقية للمملكة المغربية، منذ فترة طويلة نقطة محورية للصراع الجيوسياسي والتاريخي. وقد قدمت وثيقة أصدرتها وزارة الخارجية المغربية في 17 أكتوبر 1960، موجهة إلى السفارة الفرنسية في الرباط، حجة دامغة وكاشفة للتلاعبات الاستعمارية التي سعت إلى إعادة تعريف الهويات الإقليمية في شمال أفريقيا. ولا تؤكد هذه المراسلات الرسمية على الطابع المغربي لتندوف فحسب، بل تكشف أيضًا عن الاستراتيجيات القسرية التي تستخدمها فرنسا الاستعمارية لتفتيت السيادة الإقليمية المغربية لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بها. وتمتد آثار هذه الوثيقة إلى ما هو أبعد من الماضي، حيث تتردد أصداؤها في المناقشات الراهنة حول الحدود المغربية والعدالة التاريخية.

في 28 أغسطس 1960، أمرت السلطات العسكرية الفرنسية بطرد المواطنين المغاربة المقيمين في منطقة تندوف. وطالب المرسوم هؤلاء المواطنين بإخلاء منازلهم في غضون 24 ساعة، دون تقديم أي مبرر لهذا الإجراء المفاجئ والجذري. وتم نقل المرحلين قسراً إلى وادي درعة، وهي خطوة نفذت بدقة عسكرية خالية من الاعتبارات الإنسانية. ومثل هذا الإجراء، الذي ينتهك القانون الإنساني الدولي بشكل صارخ، يجسد الأجندة الاستعمارية الأوسع نطاقاً: فصل تندوف عن ارتباطها التاريخي والثقافي بالمملكة المغربية ودمجها في الأراضي الجزائرية الدولة التي صنعها الاستعمار الفرنسي على حساب الأراضي المغربية.

وفي ردها الرسمي، أدانت وزارة الخارجية المغربية وقتئذ هذه الإجراءات بعبارات لا لبس فيها. وطالبت بالعودة الفورية لمواطنيها إلى ديارهم وأصرت على ضمانات ضد الانتهاكات المستقبلية. وكشف هذا الموقف الحازم عن موقف ثابت وعميق للمقاومة. فحتى في مواجهة الضغوط الاستعمارية، تمسك المغرب بثبات بمطالبته بتندوف كجزء لا يتجزأ من هويته الإقليمية والتاريخية. ولم يكن هذا مجرد احتجاج دبلوماسي بل إعلانًا عن السيادة الدائمة التي تردد صداها عبر النسيج الجيوسياسي في ذلك الوقت.

تكمن أهمية وثيقة عام 1960 في توقيتها وسياقها. فخلال هذه الفترة، مارست فرنسا نفوذاً كبيراً على شمال أفريقيا، وخاصة في الجزائر، حيث كانت قبضتها الاستعمارية تشتد وسط توترات متصاعدة. ويمكن النظر إلى طرد المغاربة من تندوف كجزء من استراتيجية أوسع نطاقاً لتقويض المطالب المغربية وتعزيز السيطرة الفرنسية على الجزائر. ومن خلال تغيير الروابط الديموغرافية والإدارية بالقوة في مناطق مثل تندوف، سعت فرنسا إلى إعادة رسم الحدود بطريقة تخدم طموحاتها الاستعمارية.

كما لاحظ المؤرخ فرانز فانون في كتابه “المعذبون في الأرض”، فإن الاستعمار ليس مجرد عمل من أعمال الهيمنة المادية بل هو محاولة لإعادة كتابة النسيج الاجتماعي والثقافي لمنطقة ما. وتتوافق الإجراءات الموثقة في الاحتجاج الرسمي المغربي مع هذا المنظور. فهي تكشف عن محاولة متعمدة لمحو الانتماءات التاريخية وفرض روايات جديدة للهوية والسيادة. لقد أصبحت منطقة تندوف، التي ترتبط تاريخيا بالمملكة المغربية من خلال الروابط الاجتماعية والثقافية والإدارية، ساحة معركة لهذه الرؤى المتنافسة حول الانتماء.

إن الترحيل القسري للمغاربة من تندوف يرمز إلى نمط أوسع من التلاعب الاستعماري الفرنسي بالحدود والذي ترك ندوبًا دائمة على أفريقيا. وكما لاحظ علماء مثل باسيل ديفيدسون، فإن الحدود التعسفية التي رسمتها القوى الاستعمارية غالبًا ما تجاهلت الاستمرارية التاريخية والثقافية للمناطق التي قسمتها. لقد أدت هذه الحدود، التي فرضت دون مراعاة الحقائق المحلية، إلى تأجيج الصراعات وتكريس النزاعات لفترة طويلة بعد نهاية الحكم الاستعماري الرسمي بين مختلف الدول في إفريقيا.

إن قضية اقتطاع منطقة تندوف من خارطة المملكة المغربية وضمها إلى ما يسمى بالجزائر تؤكد هذا الإرث. إن اعتراف الوثيقة بالسكان المغاربة للمدينة وروابطها الإدارية المتينة بالمغرب يتحدى الرواية الاستعمارية التي سعت إلى قطع مثل هذه الروابط. إنه بمثابة تذكير مؤثر بأن الخرائط الجيوسياسية الموروثة من الاستعمار ليست حقائق ثابتة ولكنها قطع متنازع عليها تشكلت بفعل ديناميكيات القوة.

في سياق السياسة الحديثة، تقدم وثيقة عام 1960 أكثر من مجرد رؤية تاريخية؛ إن الوثيقة تقدم الأساس للمطالب الراهنة. إن الجهود الجارية التي يبذلها المغرب لاستعادة تندوف وغيرها من الأراضي المرتبطة بسيادته التاريخية متجذرة بعمق في الأدلة والبراهين المقدمة من خلال هذه السجلات الأرشيفية. هذه الجهود ليست مجرد طموحات إقليمية بل هي جزء من سعي أوسع لتحقيق العدالة التاريخية .

وعلاوة على ذلك، تدعو الوثيقة إلى إعادة تقييم الإرث الاستعماري في شمال أفريقيا. وهي تتحدى المجتمع الدولي لمواجهة التأثير الدائم لهذا الإرث على الصراعات الحالية ودعم الحلول التي تحترم الحقائق التاريخية. وبينما يواصل المغرب الدعوة لحقوقه التاريخية الإقليمية على الصحراء الشرقية ، تسلط قضية تندوف الضوء على ضرورة إعادة النظر في القضايا التي لم يتم حلها والحسم فيها من العصر الاستعماري.

لقد كان ترحيل المغاربة قسرا من تندوف في عام 1960 محاولة لاقتلاع مجتمع من جذوره وقطع أرض عن جزء من هويتها. ومع ذلك، فإن القدرة على الصمود في مواجهة مثل هذه المحنة تكشف عن حقيقة أعمق: فالسيادة ليست مجرد مسألة حدود وخرائط، بل هي مسألة روابط إثنوغرافية وسوسيوثقافية دائمة تربط الناس بأرضهم وتاريخهم.

إن قصة منطقة تندوف السليبة ، كما توضحها وثيقة وزارة الخارجية المغربية، هي دعوة إلى العمل. وتحث الجمعية العامة المجتمع الدولي على معالجة مخلفات الاستعمار ودعم مستقبل يقوم على احترام الحقائق التاريخية وحقوق السيادة. وفي هذا السياق، لا تشكل تندوف مجرد فصل من تاريخ المغرب، بل رمزا للنضال المستمر من أجل العدالة والكرامة في عالم ما بعد الكولونيالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة