*التّطرّف يقود إلى تطرّف مثله أو أشدّ! كان وما زال خير الأمور أوسطها*
*الشّيخ صفوت فريج* *رئيس الحركة الإسلاميّة*
تاريخ النشر: 10/01/25 | 8:50في حياة الإنسان، قد يكون التطرّف سِمَة مدمّرة تهدّد الاستقرار والتوازن، سواء كان بالفكر أم بالسلوك أم حتّى بالمشاعر. غالبًا ما نلاحظ أنّ الشخص الّذي يتطرّف بأمرٍ ما، عندما يغيّر موقفه، يميل إلى الانتقال إلى تطرّفٍ آخر في الاتّجاه المعاكس، وكأنّ الاعتدال والوسطيّة خيارٌ لا محلّ له عنده.
في دراسة شهيرة، أجرى عالم النفس الأمريكي “فيليب زيمباردو” تجربة تحمل اسم “سجن جامعة ستانفورد”. قسّم زيمباردو مجموعة من الطلبة إلى مجموعتين: الأولى لعبت دور المساجين، والثانية السجّانين. جرى تنفيذ التجربة في سرداب بجامعة ستانفورد صُمِّمَ ليبدو كسجنٍ حقيقي. ولتعزيز الحبكة، اعتُقِلَ الطلّاب الّذين مثّلوا دور المساجين من منازلهم مقيّدين بالأصفاد، ونُقلوا إلى “السجن” على أيدي زملائهم الّذين لعبوا دور السجّانين، مرتدين زيّ ضبّاط الشرطة. كانت القاعدة الوحيدة للتجربة هي: “لا قواعد”، حيث مُنِحَ السجّانون سلطة مطلقة للتصرّف كما يحلو لهم، دون أيّ مساءَلة أو قيود.
كانت النتائج صادمة. تحوّل الطلّاب الّذين عُرِفوا سابقًا بأعلى مراتب التّهذيب والتفوّق الدراسيّ إلى أشخاص عنيفين، يمارسون أقسى أصناف التّعذيب الجسديّ والنّفسيّ على زملائهم. راقب زيمباردو بدهشة كيف دفع غياب المساءَلة والحساب هؤلاء الشّباب إلى استغلال سلطتهم بلا حدود. التّجربة توقّفت على الفور بسبب الآثار النّفسيّة الخطيرة الّتي ترتّبت عليها، ليستنتج زيمباردو منها ما أصبح قاعدة أساسيّة في علم النّفس الاجتماعيّ: “السّلطة المُطلَقة تُخرِج أسوأ ما في النّفس البشريّة”.
هذا المبدأ ينسجم مع ما نراه في حياتنا اليوميّة، حيث أنّ التحرُّر المطلَق، تمامًا كأيّ سلطة مُطلقة، يؤدّي إلى الفوضى بدلًا عن الحرّيّة المنشودة. التحرُّر بلا ضوابط يتحوّل إلى استعباد للرّغبات والشّهوات، بينما السّلطة المُطلَقة تنقلب إلى قمعٍ وفساد. وكما هو الحال في تجربة زيمباردو، فإنّ غياب القيود يُظهر الجانب الأسوأ من النّفس البشريّة. الأمر ذاته ينطبق على من ينحرفون في سلوكهم تحت غطاء التحرُّر، ثمّ ينقلبون لاحقًا إلى التّشدُّد والتّطرُّف. هذا التّحوّل العكسيّ، سواءً في التّحرّر أم التّديّن، يُرهق الفرد ويُنفّر من حوله. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ الدّين يسر، ولن يشادَّ الدّينَ أحدٌ إلّا غلبه، فسدِّدوا وقارِبوا”، وقال أيضًا صلوات الله عليه: “إنّ هذا الدّين متين، فأوغلوا فيه برفق”، بعيدًا عن الإفراط أو التّفريط.
التّطرّف لا يقتصر على الدّين فحسب، بل يمتدّ إلى السّياسة وغيرها، حيث نجد أشخاصًا يتبنّون أيديولوجيّات بإفراط، وعندما يصطدمون بأخطائها، ينقلبون إلى الطّرف الآخر بنفس القدر من التّطرّف. هذا النّمط يعكس انعدام الوسطيّة وتقبّل تعدُّدية الآراء. في السّياسة، كما في الحياة، التّطرّف المزدوَج يساهم في تفكيك الحوار البنّاء ويؤدّي إلى مزيدٍ من الاستقطاب.
ليس التّطرّف حكرًا على القضايا الكبرى فقط، بل يظهر حتّى في الأمور الحياتيّة البسيطة. كثيرًا ما يكون التّطرّف ردّ فعل نفسيًّا على تجربة مؤلمة أو خيبة أمل. الإنسان، عندما يشعر بالنّدم أو الحيرة، يميل إلى “الإفراط في التّصحيح”، معتقدًا أنّ الحلّ يكمن في اختيار النّقيض. لكنَّ الانتقال بين الأطراف المتضادّة لا يقدّم حلًا حقيقيًّا.
الاعتدال والوسطيّة هما المفتاح لتحقيق التّوازن النّفسيّ والاجتماعيّ. قال تعالى: “وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا”، والمسلم الحقيقيّ هو الّذي يتميّز بالوسطيّة الّتي تحقّق التّوازن بين الفكر والسّلوك. وتكاد تكون الفضائل كلّها وسطًا بين رذيلتين، فالشّجاعة بين التهوّر والجبن، والكرم بين الإسراف والبخل، والتّواضع بين الذلّ والكِبر، والعدل بين الظّلم والمحاباة. الاعتدال يُجنِّب الإنسان المبالغات في ردود أفعاله، ويحفظ استقراره، ويجعله أقرب إلى الحكمة والرّشاد. في حين أنّ التطرّف، مهما كانت دوافعه، يترك آثارًا سلبيّة على الفرد والمجتمع.
بدلًا من القفز بين الأطراف المتناقضة، ينبغي أن نتعلّم التفكير المتوازن، ونقدّر قيمة الاعتدال كمنهج حياة. علينا أن نعمل جميعًا على تذويت قيم التّوازن والاعتدال في أنفسنا وأجيالنا، لأنّ الاعتدال ليس فقط فضيلة، بل هو وسيلة لتحقيق الحوار والمحبّة والسّلام، وهو الطّريق نحو التّمكين المجتمعيّ والتّقدّم والازدهار.