حرب البترودولار!
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 16/01/25 | 19:39بعد انهيار النظام النقدي العالمي الذي قامت عليه اتفاقية “بريتون وودز”، واجهت الولايات المتحدة مخاوف كبيرة من تداعيات التخلي عن “ربط الدولار بالذهب”. في ظل هذه الأزمة، قام وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر بزيارة إلى السعودية، حيث أبرم اتفاقاً تُعزِّز بموجبه الولايات المتحدة حماية حقول النفط السعودية، مقابل التزام المملكة بتسعير نفطها بالدولار حصراً.
وهكذا ظهر نظام “البترودولار” إلى الساحة، ليصبح “الذهب الأسود” بديلاً عن “المعدن الأصفر”، مما أنقذ الدولار من مصير الهلاك الذي كان ينتظره، وأبقى عليه كـعملة عالمية . وبحلول عام 1975، أقرَّت جميع دول منظمة “أوبك” تسعير صادراتها النفطية بالدولار فقط، وكأن كيسنجر أراد أن يبعث برسالة واضحة إلى العالم: النفط هو شريان الحياة، والدولار هو مفتاح هذا الشريان أو لا حياة بلا دولار.
“البترودولار” يُعرَّف ببساطة على أنه “الدولار الناتج عن بيع النفط”. قد تكسب الدولار من بيع أي سلعة أخرى، لكنه في هذه الحالة لا يُصنَّف ضمن فئة “البترودولار”. ويُنسب ابتكار مصطلح “البترودولار” إلى إبراهيم عويس، أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج تاون، والذي صاغه لأول مرة في عام 1973.
في عالم يعتمد اقتصاده على الطاقة النفطية، تحتاج كل دولة إلى تأمين إمدادات النفط للبقاء، ولكن الوصول إلى النفط مشروط بالحصول على الدولار ، السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن تأمين هذا الدولار الذي نجحت الولايات المتحدة في جعله ضرورة عالمية، بل وأداة استراتيجية تمتلك الدول مصلحة في حيازتها وتخزينها؟ بالنسبة للعديد من الدول التي لا تمتلك ما يمكنها بيعه للولايات المتحدة أو للقوى الغربية الأخرى للحصول على الدولار، كان الثمن المدفوع لتحقيق ذلك باهظاً للغاية.
كلما ازداد الطلب العالمي على النفط، ازداد معه السعي وراء الدولار، ليصبح امتلاكه هدفاً رئيسياً للاقتصادات العالمية، وخاصة في مجال الصادرات. فالصادرات التي تجلب الدولار تحظى بأهمية قصوى، وتتصدر قائمة الأولويات بلا منازع.
في السابق، كانت الولايات المتحدة ملزمة، ولو من الناحية النظرية، بعدم طباعة أي دولار دون غطاء ذهبي. أما اليوم، فلا وجود لأي ضابط ذهبي يكبح جماحها في إصدار المزيد من الدولارات ، تكلفة طباعة دولار واحد لا تتجاوز 5 سنتات فقط، مما يجعل دولار “نظام البترودولار” أرخص مما يمكن تصوره! إنها حقاً دولة فريدة من نوعها، تتمتع بامتياز أن تشتري بورق لا يتجاوز ثمن إنتاجه بضعة سنتات كل ما ترغب فيه، سواء كان نفطاً أو بضائع أو حتى نفوذاً عالمياً.
عانت الدول الصناعية في أوروبا وآسيا من دمار اقتصادي هائل وخسائر مالية كبيرة عقب الحرب العالمية الثانية، مما جعلها في حاجة ماسة إلى دعم يعينها على استعادة عافيتها الاقتصادية. في المقابل، كانت الولايات المتحدة بمنأى عن ويلات الدمار النازي، بفضل الحاجز الطبيعي الضخم الذي يمثله المحيط الأطلسي. خرجت أمريكا من الحرب باقتصاد قوي وقاعدة صناعية متقدمة، إضافة إلى استحواذها على نحو ثلاثة أرباع ذهب العالم، جراء تصديرها الأسلحة والذخائر والمؤن لدول الحلفاء أثناء الحرب.
في عام 1971، قامت الولايات المتحدة بفك ارتباط الدولار بالذهب، حيث أعلن الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون أنَّ بلاده لن تلتزم بعد الآن بتسديد قيمة الدولار بالذهب. وقال في تصريح شهير: كان بإمكان أي شخص أنْ يأتينا بـ 35 دولاراً ويستبدلها بأوقية من الذهب، كنا ملتزمين بهذا، أما الآن فلا!، وقد أصاب الرئيس الفرنسي شارل ديغول حين وصف قيام الولايات المتحدة بطباعة الدولار دون غطاء ذهبي، خاصة خلال حرب فيتنام، بأنها عملية سرقة واضحة وضخمة.
الاهتمام الاستراتيجي للقوة العظمى في العالم لم يعد ينصب على النفط نفسه بقدر ما يتركز على “البترودولار”. وأي دولة تُقرِّر الخروج عن هذا النظام عبر بيع نفطها بعملة أخرى، سواء كان ذلك بالذهب، أو اليورو الأوروبي، أو الين الياباني، أو اليوان الصيني، أو حتى عبر المقايضة، تواجه عقوبات صارمة. هذا المفهوم أطلق عليه وليم كلارك اسم “حرب البترودولار”.
قد تنجح دول البريكس جزئياً في تقليل اعتمادها على الدولار من خلال توسيع استخدام العملات المحلية وإنشاء مؤسسات مالية بديلة. ومع ذلك، التخلص الكامل من هيمنة الدولار يواجه عقبات كبيرة، ويتطلب إعادة هيكلة النظام المالي العالمي بأكمله، وهو أمر قد يستغرق عقوداً لتحقيقه.