“مزامير لرفيق” أسامة حلبي: رسالة لِتَقَبُّل الآخر الشكل الفنيّ في خدمة المضمون

د. نبيل طنّوس

تاريخ النشر: 19/01/25 | 9:03

“أنا مَن أرسلتُ قلبي عاشقًا // يرحمُ القُبحَ ويهوى الحُسُنا
سأناديكَ ولو ضاعَ الصّدى// وأدقُّ البــابَ حتـى تــأذنــا”
(خليل هنداوي)
مدخل
يقول الشاعر في مقدّمة الكتاب: “لم تتح لي المشاركة في تشييع جثمان والدي……إذ امتنع عن استقبالي والردّ على مكالمات تلفونيّة للاطمئنان على صحته…. فارتباطي برفيقة درب لا تنتمي إلى طائفتي المعروفيّة، أدّى إلى قطيعة تامّة بيننا دامت قرابة عقد من الزمن… هكذا أصبحت شخصًا غير مرغوب في محيط والدي. دُفِن في “المقبرة الشرقيًة” في دالية الكرمل…. وكلّ ما أعرفه أنّ والدي دُفن تحت زيتونة لا يميّزها سوى أنّه مدفون تحتها.
وَضْعٌ مُرَكَّبٌ وعلاقة مُرَكَّبة بين أب، كان معلّمًا ومديرًا لمدرسة …، ومن ثَمّ أصبح متديّنًا فانضَمّ إلى “العقّال” وصار شيخًا، وابن كان وما زال “جاهلًا” متمرّدًا وعنيدًا يشكِّلان الخلفيّة التي حضنت ولادة ونشأت النصوص الثمانية الأولى من المجموعة. وهي تشكّل رسائلي إلى الوالد الراحل أُخاطب بها نفسي وأخاطبه بغضب وعتب بداية وبميل للتقرّب وبرغبة في المصالحة لاحقًا. أما بقية النصوص فهي ذاتيّة وجدانيّة تتناول زوايا وجوانب إنسانيّة من علاقتي مع نفسي، مع والدتي، مع جدّي لأبي، تليها نصوص رثاء أو شبه رثاء لأصدقاء أو زملاء”.
اسم الكتاب “مزامير لرفيق”/ رسائل ابن لأبيه:
المزامير هي تهاليل، وأناشيد مدح وحمد وتسابيح وسجود وتمجيد لله، وقد وردت في سياق خاصّ في العهد القديم تحت اسم “مزامير داود” (תהלים من الجذر ה.ל.ל هلّل يهلّل تهاليل) جاءت المزامير في الكتاب المقدّس في عدّة مواضع، منها ما جاء في سفر “الخروج 15” وهو ما يعرف بمزمور الخلاص، وفيه رنّم بنو إسرائيل هذه الترنيمة: “رنّم موسى وبنو إِسرائيل هذه التسبيحة للربِّ: “أُرَنِّمُ لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ. الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْرِ. الرَّبُّ قُوَّتِي وَنَشِيدِي، وَقَدْ صَارَ خَلاَصِي. هذَا إِلهِي فَأُمَجِّدُهُ، إِلهُ أَبِي فَأُرَفِّعُهُ”، ثم نقرأ مزمور (أي ترنيمة أو تهليلة) دبورة النبية في سفر “القضاة 5″، ثم مزمور “رثاء داود للملك شاول” في سفر “صموئيل الثاني، الإصحاح الأوّل”، على أنّ القسم الأعظم من المزامير هو ما جاء في سفر خاص في العهد القديم من الكتاب المقدّس، هو ما يُطلق عليه سفر المزامير، وفي العبريّة يُسمى تهليم (תהלים) أي تسابيح.
يطلق هذا الاسم “سفر المزامير للنبيّ داود” لأنّه كتب ثلاثة وسبعين مزمورًا، فسُمّي السفر باسمه من باب التغليب، ويتّضح من العهد القديم أنّ داود كتب مزموري 96، 105، ويعزو إليه العهد الجديد أيضًا مزامير 2، 95، وكتب آساف إثني عشر12 مزمورًا، وأولاد قورح عشرة مزامير، وسليمان مزموري 72، 127، وهيمان كتب مزمور 88، وإيثان كتب مزمور 89، وموسى النبيّ كتب مزمور 90، وهناك تسعة وأربعون مزمورًا لا نعرف من كاتبها، وقد جمع النبيّ عزرا هذه المزامير بإرشاد الروح القدس في كتاب واحد.
اسم الكتاب “مزامير لرفيق”/ رسائل ابن لأبيه وصورة أبيه، رفيق، تزيّن الغلاف، فهي عنوانه وعتبته ومفتاحه الّذي يقودنا إلى متن الكتاب، فالمكتوب يُقرأ من عنوانه.
رفيق:
اسم علم، وهو اسم والد الشاعر وتعني أيضًا صديق. يجوز لنا القول إنّ لاسم الكتاب ثنائية المعنى، تعتمد على التصريح والتلميح:
1. مزامير موجّهة إلى والد الشاعر رفيق، وربّما أراد الشاعر التلميح إلى نظرته الحميميّة إلى والده ليصبح المعنى: مزامير إلى والدي وصديقي رفيق.
2. مزامير موجّهة إلى رفاقه وأصدقائه.
من حقّ المتلقّي تبنّي التصوّر الّذي يرتئيه، لكن الشاعر صرّح في المقدّمة (صفحة 6) أنّ القصائد الثمانية الأولى من المجموعة تُشَكِّل رسائله إلى والده، أمّا بقيّة القصائد فهي ذاتيّة يخاطب نفسه فيها، ويخاطب والدته وجدّه لأبيه، ورسائل شبه رثائيّة إلى أصدقائه (انظر الأسماء تحت عنوان حسن التخلّص)
رسائل:
رسالة: مَغْزى جمع مغازٍ. هدف، غاية، وسيلة لإيصال فكرة.
تبليغ، إعلام بشَيء. توجّهات
رسالة المُصْلِح: ممّا يتوخَّاه من وجوه الإِصَلاح.
رِسَالَةُ الرَّسُولِ: دَعْوَتُهُ لِلنَّاسِ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَأُوحِيَ إلَيْهِ.
المضامين
يكتب الشاعر قصائده الّتي يطرح فيها أفكاره ومغازيه وأحاسيسه والّتي يريد إيصالها إلى أبيه في أوّل ثمانية قصائد من المجموعة، كما يخاطب أصدقاءه الراحلين في بقيّة القصائد.
الفقدان: فَقَدَ الشيءَ: عَدِمَه، والتفقُّدُ: تَطَلُّبُ ما غاب من الشيء، والراحل هو المَفْقُودُ والفَقِيدُ وصاحبه هو الفاقد، من يضيع منه شيء ما، أو يخسره. ورد هذان التعبيران في قصيدة ابن الروميّ إذ قال في قصيدة “تعجَّل مولودٌ ليُمْهَل والدُ” الّتي يعزّي فيها والدًا عن مولود له ويعلّل تعزيته بأنّ مولوده دافع عنه ليبقى هو:
لقــد دافــع المفقـودُ عنـك بنفسـه // عُرامـــًا فلا يُحْزنْـــكَ أنـّـك فاقــدُ.
الفاقد هو المتكلّم الشاعر، المَفْقُود والفَقِيد هو والده رفيق ورفيقه (صديقه).
فقد الشاعر والده قبل موته في 31 آذار 2012 بثلاثين سنة، منذ ارتبط برفيقة دربه الّتي لا تنتمي إلى طائفته المعروفيّة في أواخر عام 1983. جمّد الوالد علاقته معه حيث أدى ذلك إلى قطيعة تامّة لدرجة رفض استقباله، وعدم الردّ على اتّصالاته الهاتفيّة، ومنعه من المشاركة في تشييع جثمانه، فهذه كانت رغبة الوالد كما أبلغه بعض اقاربه. فكتب له رسائل جاءت في ثماني قصائد.
في الرسالة الأولى يبحث عن أبيه الساكن فيه روحًا والبعيد عنه جسدًا. يبحث عنه:
“منفعلًا مثل صبيّ، يلسعني جمر الُّسؤال، من حرقة أمل، لدي قلب لم ينم” (ص 17-18).
يبحث عن أبيه متسائلا: هل نلتقي؟ فهو يريد أن يلتقي بأبيه لأنّه يرغب بإتمام حديث لم يَتِمّ.
الوالد والأب
وردت كلمة والد في المقدّمة (ص 5-11) ثلاثًا وعشرين مرّة وكلمة أب خمس مرات. أمّا في القصائد الثماني ذات الرسائل لوالده فوردت كلمة أب سبع عشرة مرة، وكلمة والد ست مرات. الوالد هو الأب المُباشر، الّذي هو سبب وجود الابن. فالوالد خاصّ، والأب عامّ، فقد يُطلق على الجدّ أيضًا، والأبوين: الأب والعمّ، أو الأب والخال.
والدي: الحالات الّتي وردت فيها كلمة والدي هي في أغلبها فكريّة وحقائق، مثل: توفي والدي، تجاهل الوالد للمرض، العلاقة مع والدي (ص 5). محيط والدي، رسائلي إلى الوالد (ص 6). وفاة والدي، ما بناه والدي (ص 8). كنت مع والدي، الاستاذ رفيق والدي (ص 9). أمّا في القصائد الثماني فكلمة الوالد وردت في قصيدة واحدة “رسالة جديدة إلى والدي” زمنها بعد دفن الوالد وفيها يطرح جانبًا فكريًّا عقائديًّا يقول:
“يا والدي لا تُتعب البال أبَدْ
لا تُجهد النَّفْسَ وقَد ذابَ الجسدْ
في جنَّة الأرواح يرتاحُ الخَلَدْ
أليس هذا وَعْد من كان وِعَدْ” (عقيدة خلود الروح وتقمّصها من جديد ص21 و22).
أب: الحالات الّتي وردت فيها كلمة أبي هي في أغلبها حسيّة، مثل: واجبي كابن تجاه أبيه (ص 5). علاقتي مع أبي مركّبة (ص 6). مع جدّي لأبي (ص 7). ابن يبكي أباه (ص 8). أمّا في القصائد الثماني فوردت كلمة أبي سبع عشرة مرّة، وفي أغلبها وردت في حالات حسيّة، مثل: منفعلًا، يلسعني جمر السؤال، عتاب، غضبي، بكاء، شوق وغيرها.
اسم ابيه “رفيق” ورد في قصيدة “مصالحة” (ص 24) وترافقه التعابير الآتيّة: سلام خمس مرات، اشتياق، ربيع، غرام، عناق، دفء، وئام، رفق، سموح.
حسن التخلّص
قصيدة “شبّاك في سور المستقبل” هي القصيدة التاسعة (ص 50-53) تُشَكِّل في نظرنا جسرًا بين رسائله إلى والده وبين القصائد الّتي يخاطب فيها أصدقاءه الراحلين وهي تمثّل حسن التخلّص من الموضوع الأوّل لينتقل إلى الموضوع الثاني. فيها يتذكّر والده، وكيف كان يسير في ساحة البلد ويصعد إلى “الحارة الشرقيّة”، ثم يذكر القريّة الفلسطينيّة المهجّرة “أم الزينات” عروس النكبة، وبعدها إلى “خيمة النسيان”، وقمّة “جبل الزيتون”، ينظر إلى السماء ويقول: “نرجو سريعًا مولانا حفْرَ شباك واسع كي نذكر ما كان (علاقته مع والده) ونرى ما يكون (علاقته مع أصدقائه الراحلين في القصائد (ص54-110).
القسم الثاني يحتوي على ستّ عشرة قصيدة يخاطب فيها أصدقاء وزملاءه.
نصوص رثاء أو شبه رثاء لأصدقاء أو زملاء، وهم: محمود درويش، ناجي العلي، سميح القاسم، سلمان ناطور، أحمد دحبور، جمال ادريس، ماري توتري، محمد علي ماضي، ياسر أبو النجا، معين حاطوم، مفيد قويقس، قيس فرو، تميم منصور، حنّا أبو حنّا وعثمان زعبي وقصيدة “جدّي وبيته ضيوف حلمي”.
في قصيدة “نبض قلبي يرقص وينقصُ”-تلميح لمحمود درويش، فعنوان القصيدة يلمّح لمرض القلب الّذي كان سببًا في وفاة محمود، وأيضًا التعابير: “لا بحرَ لي، لا برَّ لي، لا بيت لي” وهي تناصّ مع مطوّلة محمود درويش “الجداريّة” الّتي كتبها بعد عمليّة جراحيّة صعبة جدًّا حين اقترب فيها من الموت، فتأثّر بهذه التجربة فكانت الجداريّة. بعدها لم يعد للخوف مكانٌ، فصار الموت رمزيًّا، فتعَمَّق لدى الشاعر معنى البقاء بالشعر (يقين، 2016):
“هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ”
بقيّة القصائد فيها تصريح للمُخاطب؛ إما بعنوان القصيدة، وإمّا بملاحظة بعد القصيدة.
السؤال الّذي أطرحه: هل يوجد فروق فكريّة وحسيّة بين الرسائل إلى والده وبين مخاطبته لأصدقائه؟ أترك الإجابة للمتلقّي!
الشكل الفنيّ في خدمة المضمون:
التكرار:
تمتاز قصائد الكتاب “مزامير لرفيق” بالتكرار كأسلوب تعبيريٍّ لإبراز المصيبة الآخذة بالحدوث والتضخُّم وتأكيدها وتكثيفها… ولزيادة الترغيب في التعامل معها، لاستمالة المخاطب، لتناسق الكلام، وجعله أكثر إيقاعًا، للحثّ، لإثارة الحزن في نفس المخاطب، للتهويل، وغيرها… ويحدث ذلك بذكر الجملة مرّتين أو ثلاث مرّات فصاعدًا، أو بتكرار الكلمة الواحدة.
التكرار لا يقوم فقط على مجرّد تكرار اللّفظة في السياق، وإنّما ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعاليٍّ في نفس المتلقّي، وبذلك يعكس جانبًا منَ الموقف النفسيّ والانفعاليّ، ومثل هذا الجانب لا يمكن فهمه إلّا من خلال دراسة التكرار الّذي يمثّل إحدى الأدوات الجماليّة الّتي تساعد على فهم مشهد، صورة، أو موقف ما… إنّه يعكس الأهميّة الّتي يوليها المتكلّم لمضمون الجمل والتعابير واللّفظات المكرّرة؛ باعتبارها مفتاحًا لفهم المضمون العامّ الّذي يتوخّاه المتكلّم. إضافة إلى ما تحقّقه من توازن هندسيٍّ وعاطفيٍّ بين الكلام ومعناه (طنوس، 2022). ونطرح بعض الأمثلة:
تكرار الصدارة: Epiphora). أوخماني، 1979، ص 56 أ) في البلاغة أداة بلاغيّة تتكون من تكرار سلسلة من الكلمات في بدايات أشطر القصيدة المجاورة والمتتاليّة للتركيز عليها (وهبة والمهندس، 1984، ص117). أمثلة:
“أبَحثُ عَنكَ يا أبي
مُنفعلًا مِثلَ صَبي
أبَحثُ فيهم.. إخوتي
أبَحثُ فيها.. بَلدَتي
أبَحثُ عَنكَ.. داخلي
أبَحثُ عَنكَ يا أبي” (ص 12).
كلمات ليست متتالية في نفس السطر، إنما متتاليات في صدر الاسطر:
صَعبٌ صَعبٌ صَعبٌ (ص 19)
فافخَر بنا! وافخَر بنا! وافخَر بنا! (ص 22)
لا لا لا (ص54).
في ……… إحدى عشرة مرّة (ص62-63).
معذرةً معذرةً معذرةً (ص103) وغيرها.
تكرار النهاية: Epiphora). أوخماني، 1979، ص 79 أ) هو تكرار نفس الكلمة أو الكلمات في نهاية العبارات أو الجمل المتعاقبة. إنّه صورة بلاغيّة وتناظر تكرار الصدارة. إنّها أداة مؤكّدة للغاية بسبب التركيز على الكلمة الأخيرة في العبارة، أو الجملة (وهبة والمهندس، 1984، ص118). أمثلة:
“في آنْ
في آنْ
في آنْ
في آنْ”(ص 29).
كلمات ليست متتالية في نفس السطر، إنّما متتاليات في صدر الاسطر:
لي لي لي (ص 55).
يرقُصُ يرقُصُ يرقُصُ (ص 56).
يَنقُصُ يَنقُصُ يَنقُصُ (ص56)
أعلامها أعلامها (ص92).
إلا حَيّا إلا حَيّا (ص104).
تكرار توكيدي: Epizeuxis)، الويكيبيديا. הכפלה أوخماني، 1979، ص 155أ) التكرار التوكيديّ في البلاغة هو تكرار كلمة أو عبارة في تتابع فوري، عادة داخل نفس الجملة للتقوية والتوكيد (وهبة والمهندس، 1984، ص117).
صَعبٌ صَعبٌ (ص 19).
نبَضَةً فنبَضَةً فنبَضَةً فنبَضَةً فنبَضَةً
فنبَضَةً فنبَضَةً فنبَضَةً فنبَضَةً فنبَضَةً (ص 44)
أكتبُ وأكتبُ (ص49).
رمَقًا فرمَقًا فرمَقًا فرمَقًا (ص 51).
يمرُّ في نَفَقٍ فنَفَقٍ فنَفَقٍ (ص51).
مجهول مكان صنعها
مجهول مكان صنعها (ص 94).
لماذا لم تتّصِل؟
لماذا لا تتصِل؟ (ص 104).
السؤال البلاغي / الإنكاري
هو أن يخرج الاستفهام عن معناه ليصبح هدفه إنكار الشيء المستفهم عنه، ولا يقتصر خروج الاستفهام عن معناه الحقيقي على معنى الإنكار فقط، بل أيضَا توجد معانٍ أخرى، مثل: التهويل والتعظيم، التشويق، التمنّي والتقرير والاستبطاء والفخر والتحسّر والتوجّع، وما إلى ذلك من أغراضٍ أخرى.
أبحث عنك يا أبي، هل نلتقي؟ (ص 12).
فكيفَ أخترقُ الآن حائط الضباب؟ (ص 18)
أليسَ هذا وَعْد من كانَ وَعَد؟
وكيف جدّي صالح ذاك الأسد؟
جدّي سليم “كَيفَهُ”، جسرُ الجَلَدْ؟
وكُلُّ من غادر مِن أهل البلد؟ (ص 21).
هل أصبح موتك أمرًا عاديًّا؟ وغيابك أضحى ظرفًا وُدّيًّا؟ (ص 29).
لِمَ لَمْ تهيّئني لموعدِ موتِكَ المفاجِئ؟ (ص 101).
الجناس
الجِنَاس لغويًّا هو: تشابه لفظين مع اختلافهما في المعنى، ويكثر استخدامه في الأدب وعلى وجه الخصوص في النصوص الشعريّة، وهو يعتبر من المحسنات اللفظيّة فهو محسن بديعي لفظيّ يكون عند اتّفاق الكلمتين أو تشابههما في اللّفظ واختلافهما في المعنى. ووظيفته إضفاء لمسة جماليّة على اللّفظ وإحداث نغم موسيقيّ وتوضيح المعنى وتقويته وتأكيده في ذهن المتلقّي.
لمْ يتِمْ- لم يِنِمْ (ص 13)، كسير- أسير (ص 16)، الجَلَدْ – البلد (ص21)، جِدّي –جَدّي (ص 34)، ألمَسُ – أملَسُ (ص 57-58)، يَفوحُ – يَلوحُ (ص 69).
الثنائيّات الضديّة
“الإنتاج الأدبيّ هو معطًى فكريّ يحتوي على رؤية عمل المبدع والّتي يعمل على صياغتها باستعماله مجموعة من العوامل الموجودة في بيئته وفي ذهنه، وهذه العوامل ربّما تكون اجتماعيّة أو نفسيّة أو سياسيّة وغيرها، وهي خاصّة بالمبدع ذاته، وتكون في زمان ومكان معيّنين، والثنائيّة موجودة بكثرة في الإبداع الأدبيّ، خاصّة الشعر منه، والّذي يحتوي في جوهره على عوامل التضادّ ممّا يؤدّي إلى المفاجأة والتوتّر والعودة إلى التأمّل بحثًا عن ماهية الأمور، والسؤال الّذي يتبادر إلى أذهاننا، أحيانًا: كيف علينا التعامل معه؟
الخطاب الأدبيّ، أيًّا كان، يرتكز على مجموعة من الثنائيّات، وتختلف هذه بدورها بين أديب وآخر، حسب التغاير بين الأُدباء. هذه الثنائيّات تُعتبر ركيزة لدراسة الإنتاج الأدبيّ. ثنائيّات أيّ أديب هي أمر خاصّ به، وجاءت من عالمه، وهو يقدّم بها رؤيته للإبداع والحياة والوجود بطريقته هو، وربّما، أحيانًا، تتماثل مع ثنائيّات أديب آخر” (طنوس، 2022، ص 132).
في حالة الثنائيّة يستطيع الفرد فحص واختبار أفكار متناقضة، كأنْ يتزوّج من غير جماعة انتمائه. أو أن يترك القرية ويسكن المدينة، أو بأيّة لغة يكتب.
يقول الشاعر في مقدمة كتابه: ” لم تتح لي المشاركة في تشييع جثمان والدي… فارتباطي برفيقة درب لا تنتمي إلى طائفتي المعروفيّة، أدّى إلى قطيعة تامّة بيننا”. هذه حالة ثنائيّة واضحة برزت في لغته الشعريّة، مثل: مخاطبًا والده “كنت عاديًّا وغريبًا، وقريبًا وبعيدًا، وقويًّا وضعيفًا، وشديدًا ولطيفًا، ندًّا ورفيقًا” (ص 29)، “غيابك – حضورك”، “غابوا – عادوا” (ص 33)، “وقال: “قم اقفز” – جمدت لمْ اقفز” (ص 34-35)، “شوقًا لوالدٍ، إذ غاب حضر” (ص 43) وغيرها.
ملخّص
قمنا في هذا المقال بدراسة المجموعة الشعريّة للشاعر أسامة حلبي محاولين كشف العلاقة بين المضمون والشكل الفنيّ للشعر. وجدنا علاقة متينة، فالتكرار بأنواعه والجناس والثنائيّة الضديّة والسؤال البلاغيّ / الإنكاريّ وغيرها تقوم بدور مهمّ في طرح القضايا المُتداولة في الشعر فتبرزها وتوضّحها وتقرّبها من المتلقي وتثيره وتمتِعَه.
وأنهي بتعزية الشاعر:
أعزيك بفقدان والدك وأصدقائك:
“أَيُّ إِنْسَانٍ يَحْيَا وَلاَ يَرَى الْمَوْتَ؟ أَيٌّ يُنَجِّي نَفْسَهُ مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ؟ (مزامير 89 الآية 48)
“والعيشُ حلوٌ ولكِن لا بقاءَ له/ جميعُ ما الناسُ فيه زائلٌ فانِ” (أبُو الفَتْح البُسْتي-أفغانستاني)
بدر شاكر السياب في قصيدته “نداء الموت”
“ولا شيء إلّا إلى الموت يدعو ويصرخ، فيما يزولْ،
خريف، شتاء، أصيل، أفولْ،
وباقٍ هو الليلُ بعد انطفاء البروقِ،
وباقٍ هو الموت، أبقى وأخلد مِن كلّ ما في الحياهْ
فيا قبرَها افتح ذراعيك …
إنّي لآتٍ بلا ضجَّةٍ، دون آه!”
(السياب، 2016، ص 289)
المصادر
الحلبي، أسامة. (2022). مزامير لرفيق. رسائل ابن لأبيه وأخرى. إصدار خاص. القدس.
السيّاب، بدر شاكر. (2016). المجموعة الكاملة، المجلد الثاني، مجموعة “منزل الأقنان، 1963″، دار العودة. بيروت.
طنوس، نبيل. (2022). اختراق النصّ الأدبي. سهيل عيساوي للطباعة والنشر. كفر مندا.
عزرائيل، أوخماني. (1979). معجم المصطلحات الأدبية. إصدار سفريات بوعاليم. تل ابيب.
مجدي وهبة وكامل المهندس. (1984). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان ناشرون. بيروت.
يقين، تحسين. (2016). “أنا لست لي”: نبوءة درويش إنسانيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا. موقع معًا: https://www.maannews.net/articles/862128.html 16.8.2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة