لغات القبور الحزينة

يوسف جمّال - عرعرة

تاريخ النشر: 26/01/25 | 19:37

أيام وهو يرافق أمه الى المقابر
ينتظرون وصول أخيه الى مثواه
ليودِّعوه الوداع الأخير
وصلا ..
لم يكن هناك عويل أو نحيب
تلا الصمت تراتيله المعتادة
على إيقاعات الغياب
وساد المقبرة :
سكون حادٌّ كالسكين
وصمت نازف لعين
ورجات موت وأنين
وسهام ترمي طنين
*******
الشيخ عبدالله
يتنقَّل من دفنٍ الى دفين
منذ أيام وهو يرتدي
زيّ دفن يقيه من الزمهرير
ربما لا يملك لباس غيره
ربما لا وقت لديه للتغيير
كانت عيونهم متجمّدة متصخِّرة
وأنفاسنهم متيبِّسة في صمت مرير
لا شهيق .. لا زفير
لا جمود لا نفير
رتابة متصلِّبة
تتوه في ريح صلف قرير
***************
أبو محمد ..
يحفر بفأسه ويحفر
تركاه ساعات ورجعا
وما زال يحفر
تركاه أياماً ورجعا
وما زال يحفر
تركاه ليالي ورجعا
وما زال يحفر
لا يرفع عينيه عن الفاس
ليحصي أكياس الموت
التي تنتظره
فهو يعرف أن هناك
من ينتظرون دورهم
وآخرون في الطريق آتون
وأحياء سيأتون بعد حين
بعد أن يُقتلون
بعد أن يقصفون
فتنظيم الدفن من وظيفة الملائكة
ونيران قاذفات القنابل
والباحثين عنهم تحت أكوام الدمار
وتحت طاقية الخفاء
والمتبخِّرين مع الدخان
الى عنان السماء
**********
أشوفه ..! أشوفه !
ابني .. وليدي ..
زعقت الأمٌّ من بعيد عندما رأتهم
يرفعون أحد أكياس الرفاة
كيف عرفتِ يا أمي كيس أخي من بين
مئات الأكياس !؟
سألها بهمس يقطِّع الأنفاس ..
سمعتُ روح أخيك تناديني من
بين الأشلاء ..
ردّت بلا نحيب أو بكاء ..
أنه أشلاء .. ماذا سترين فيه !؟
سألها من بين نزيف دقات قلبه ..
إني أسمعه ينادي من بين الأشلاء :
أمي .! أمي .!
أجابت .. .
كيف سيعرفك !؟
سألها تائهاً بين الدموع ..
إيقاع دقات قلبي .
تقرأ إيقاع دقّات قلبه
كان ينام ويصحو على نغماتها
كان يقرأ ..
لغات عيوني
وهمسات جفوني
ولمسات خدودي
وأنا أقرأ سطور :
صفحات وجنتيه
و أوشام راحتيه
وأنفاس رئتيه
ردّت ..
********
ما هذه القطرات التي تسبح
في السماء !؟
سألها ..
إنها أرواح عصافير الجنات
إنها غيمات .. غيمات – يا ولدي !
ستسقي العطشى وتروي الزهرات
ستبل التراب بلّات
وتلطِّف حرارة تُّربات
الأموات
فتنبت عليها الرياحين والزهرات
فتخرج منها الحياة
**********
كيف تطير العصافير يا أمي
وهي مكسورة الجناحات !؟
سأل ..
ستطير ..
على أمواج الريح
وقطرات الغيمات
على ضوء النجمات
على أحلام الأقمار
أجابت ..
فوجّه ناظريه الى السماء
وأرسل حلمه لترافقها الى الجنّات
وبكى ..

*******
ما هذه الومضات التي تزيِّن السما
سألها ..
إنها صدى الجراحات
وقنوات النزفات
وأصوات الزعقات
وجداول الدمعات
وقنابل القاذفات
وسكاكين الجرّافات
ونيران الدبّابات
أجابت ..

********
أمي ..
من الذي أطفأ النور
وحوّل وجودنا الى غياب
من الذي طعن حياتنا
بأنصال الحراب
و دفن قناديلنا تحت الخراب
وقلع جذورنا من تحت التراب
وحوّلها الى يباب
من الذي قتل الفرح فينا
وأخرس الرباب
و حوّل نور عيوننا الى سراب
و مطرنا الى ضباب
و أسئلتنا بلا جواب
سأل ..
إنها جيوش الشيطان
وعابدي النيران .. يا ولدي
أجابت ..
وهجمت الى ابنها
وعصرته في أحضانها
إنها تخاف
أن يلحق بأخيه
انهم يعيشون تحت وابل النيران
والموت أقرب إليهم من الحياة
**********
هل سيعودون يا أمي !؟
سألها..
سيعودون يا ولدي
سيطلّون من خضرة أوراق الزعتر
من فوق الجليل
مع نفحات أريج برتقال يافا
مع قناديل دوالي الخليل
مع زبد بحر عكا
سيطلّون من خضرة أوراق الزعتر
من سمرة التراب
من عيون النبعات
سيعودون ..
*************

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة