يجب الارتقاء بصناعة الإنسان في مجتمعاتنا!
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 28/01/25 | 17:56العظيم يرى المصاعب الصغيرة تافهة، بينما الصغير يراها جبالاً شاهقة ، هذا المعنى، الذي صاغه المتنبي في إحدى روائعه الشعرية حيث قال :” وتصغر في عين العظيم العظائم، وتعظم في عين الصغير الصغائر”، يحمل في طياته حكمة تصلح أن تكون أساساً تربوياً راسخاً.
فالإنسان، سواء كان عظيماً أو صغيراً، يتشكل وفقاً لما تلقاه من تربية عميقة وشاملة. فالتربية هي التي تصقل شخصيته وتحدد مدى قدرته على التعامل مع التحديات والصعوبات التي تواجهه في حياته اليومية.
التربية ليست محصورة بمصدر واحد، بلْ يتلقاها الإنسان من مختلف البيئات الاجتماعية التي يتفاعل معها، إضافةً إلى التجارب التي يمر بها خلال مسيرة حياته. ولا تتوقف هذه العملية عند مرحلة عمرية معينة، بلْ تستمر معه حتى آخر يوم في حياته ، فالتربية، في أحد وجوهها، هي التجربة التي يخرج منها الإنسان مزوداً بالدروس والعبر ، أما التجارب التي تمر دون أنْ تُثمر فهماً أوْ تعلماً، فإنها تفقد قيمتها التربوية؛ فالإنسان ضعيف الإدراك هو من يكرر التجربة نفسها مراراً دون أن يستفيد منها، وكأنه لم يمر بها من قبل.
نستطيع قياس القيمة التربوية للإنسان من خلال الطريقة التي يتعامل بها مع تحديات الحياة ومشاكلها، وكيفية نظرته للأمور وتقييمه لها ، فقد تكون هناك مشكلة بسيطة تنهي صبر شخص، بينما تزيد مشكلة كبيرة من قوة شخص آخر وثباته.
وفي مجتمعنا، للأسف، يحصل الإنسان على تربية لا تؤهله بشكل كافٍ للتكيف مع التحولات التي تطرأ على بيئته الاجتماعية. نتيجة لذلك، يتصرف بطريقة تعكس غياب الفهم العميق لواقع الحياة، فيبدو ضعيف الإرادة، مستسلماً دون مقاومة، وسلبياً في تفكيره وتصرفاته، حتى أمام أبسط المشكلات. وكأن الحلول تأتي بالإهمال أو النسيان، أو عبر قدرية تقلل من قيمة دوره وإمكاناته في مواجهة الحياة.
يمر الإنسان خلال مسيرته التربوية بمرحلتين أساسيتين. في المرحلة الأولى، عندما يكون طفلاً، يعتمد على والديه والمدرسة كمصادر رئيسية لتلقي التربية ، أما المرحلة الثانية، التي تستمر طوال معظم حياته، فيبدأ فيها بتحمل مسؤولية إعادة تشكيل نفسه تربوياً، استناداً إلى تجاربه وخبراته في مختلف جوانب الحياة. يمكن تسمية هذه المرحلة بالعصامية التربوية ، حيث يتولى الفرد بجهوده الذاتية تصحيح مساره وصقل شخصيته ، لكن إعادة التربية ليست بالأمر السهل؛ فالبدء من صفحة بيضاء أيسر بكثير من محاولة تعديل صفحة مليئة بالخطوط والألوان التي قد يتطلب الأمر محو بعضها وإعادة رسمها.
يدرك الإنسان جوانب القوة والضعف في تكوينه التربوي حينما يجد نفسه فجأة في مجتمع جديد غير مألوف، يخلو من تلك الدعامات الاجتماعية التي كانت تسنده وتمنحه شعوراً بالراحة والاستقرار، مما يجعله يواجه واقعاً مختلفاً بعيداً عن الحياة الهانئة الخالية من العقبات.
في مثل هذه الظروف فقط يتمكن الإنسان من اكتشاف ذاته الحقيقية، متأملاً قيمته الواقعية، ومراجعاً تصوره السابق عن نفسه بما يحمله من أوهام وحقائق. فقد يعتقد أحدهم، مثلاً، أنَّه بحجم نابليون بونابرت، وينتظر من الآخرين أنْ يعاملوه على هذا الأساس ، لكن هذا الوهم لا ينقشع عن عقله ومشاعره إلّا عندما يواجه التجربة التي تكشف زيف الأوهام ، وفي الوقت ذاته، يصبح الإنسان قادراً على استخلاص العبر والدروس الضرورية من تلك التجارب إذا أراد أنْ يتعامل مع الواقع بعقلانية ووعي يعكسهما تفكيره وشعوره وسلوكه.
البيئة الاجتماعية الجديدة التي يواجهها الإنسان فجأة، دون أنْ يكون قد تهيأ لها مسبقاً، تصبح كمرآة تعكس بوضوح نقاط الضعف والقوة في تكوينه التربوي. من خلال هذه البيئة، تظهر قدراته الكامنة ويتكشف تأثير الضغوط التي تواجهه، مما يعزز قواه ويسهم في تطور شخصيته وسلوكياته. بفضل هذه العوامل، يبدأ الإنسان في التكيف مع هذه البيئة الغريبة بكلِّ تفاصيلها وواقعها المختلف الذي يختلف تماماً عن ما ألفه.
من الواضح أنَّ أحد أبرز معالم القوة والتميز في تشكيل شخصية الإنسان هو قدرته على التكيف بسرعة مع أي تحول كبير يحدث في محيطه الاجتماعي. هذه القدرة على “المرونة” لا يمكن أنْ يتحلى بها إلّا الفرد الذي حصل على التربية الفكرية والسلوكية التي تمكِّنه من التكيف بسرعة مع التغيرات المحيطة به.
الحياة، بما تحويه من تحديات ومواقف نمر بها، هي في جوهرها رؤية فلسفية تتشكل من خلالها طريقة تعاملنا مع الأحداث. كل ما يقوم به الإنسان، من أفعال وتصرفات، هو في الواقع تعبير عن فهمه الخاص للأمور، سواء كانت بسيطة أو معقدة. فمثلاً، عندما يحدث حريق في سيارتي ، قد أسرع لإطفائه باستخدام وسيلة معينة، أو قد أكتفي بالصلاة والدعاء، أو حتى أدمج بينهما مع استخدام أداة لإطفاء الحريق. هذا التصرف، مهما كان، يعكس معتقداً فلسفياً يوجهه، فحتى وإنْ لم يدرك الإنسان ذلك، فإنه في جوهره يتبنى فلسفة ما في كل تصرف يقدمه.
كان المقاتل المسلم في ساحة المعركة يظهر شجاعة نادرة، وجرأة كبيرة، وعزيمة لا تتزعزع، مدفوعاً برؤيته الدينية الفلسفية للموت التي كانت تمنحه قوة معنوية استثنائية. بالنسبة له، كان الموت ليس إلّا جزءاً من الإرادة الإلهية التي لا يمكن للإنسان أنْ يغيرها. وفقاً لمعتقده الديني الثابت في عقله ووجدانه وسلوكه، الموت يحدث وفقاً لمشيئة الله وحده. فحتى إذا أحاطت به عوامل الموت من جميع الجهات، يظل الإنسان قادراً على النجاة والعيش ما دام الله لم يكتب له الموت في تلك اللحظة والمكان. هذا الإيمان العميق يجعل المحارب يواجه المعركة وكأنها تحد رياضي، حيث لا يشعر بالخوف من الموت. أما من يعتقد عكس ذلك، فإنه يذهب إلى المعركة وهو يحمل شعوراً أكبر بالمخاطرة، كما لو كان على وشك مواجهة الموت أو النجاة منه، مما يجعله يقاتل بحذر وشكوك أقل في الشجاعة والإقدام.
كان كرمويل يعتقد أنَّ نتائج الحروب التي يخوضها هي بيد الله، لذا اندفع في جميع معاركه دون أنْ يلتفت إلى العواقب أو النتائج المحتملة. جمع من القوى الروحية ما يفوق بكثير ما يملكه من قدرات مادية وعسكرية، ساعياً إلى تحقيق النصر بالقوة المعنوية.
في حياتنا اليومية، نلتزم ببعض الأفعال لأنها تعتبر حلالاً ونتجنب أخرى لأنها حرام ،أفعالنا التي نراها حلالاً قد تتعارض مع رغباتنا أو مصالحنا الشخصية، لأنَّ النفس البشرية تميل إلى الشرور. بينما الأفعال التي نبتعد عنها لأنَّها حرام قد تتوافق مع ما نحتاجه أو نرغب فيه. هذه التربية الأخلاقية المرتكزة على مفهوم الحلال والحرام تؤثر بشكل كبير على سلوكنا. لكننا لن نفهم تماماً تأثيرها إلّا إذا تخيلنا شخصاً نشأ بعيداً عن هذا النظام الأخلاقي ولم يتأثر بمفاهيم الحلال والحرام . هذا الشخص سيعتبر أنَّ الحلال هو كل فعل يحقق له مصلحة أو يتماشى مع رغباته، بينما سيعتبر الحرام كل فعل يتناقض مع تلك الرغبات والمصالح. وبالتالي، يختلف سلوك الإنسان وتوجهاته حسب الفلسفة التي يعتمدها في تقييم الأمور وتحليلها.
لقد لاحظت بعض الأشخاص الذين يبالغون في تقدير المشكلات التي يواجهونها، فيظنون أنَّ الحبة من الهموم هي قبة ضخمة، بينما هناك آخرون يستهينون حتى بأكبر المصائب والأزمات في حياتهم. وقد أظهر علماء النفس أنَْ القلق الوجودي المتعلق بتأملات الإنسان في الكون وحياة العالم، يمكن أنْ يقلل من تأثير القلق الشخصي اليومي. فالأفراد الذين يركزون على تأملات حول نشوء الأرض والسماء، وتطور الكون ومصيره، يكتسبون شعوراً عميقاً بتفاهة المشكلات اليومية، مما يساعدهم على التوازن النفسي ويمنحهم حصانة ضد الاضطرابات النفسية والأمراض التي قد تنشأ نتيجة لضغوط الحياة.
لو أنَّ الإنسان تربى على أنْ يوجه تفكيره نحو ما يساهم في تطويره الشخصي ويبتعد عن إضاعة وقته في التطفل على تفاصيل حياة الآخرين، لكان أكثر ارتباطاً بالحياة نفسها. فكلما تمسك الإنسان بمبادئها، كان ارتقاؤه أعلى فكرياً وعاطفياَ وسلوكياً. فالأفكار التي تشغل ذهن الإنسان تعكس شخصيته بوضوح، حيث يمكن تصنيف الناس من حيث نوع الحديث الذي يشغلهم إلى ثلاث مستويات: الأول هو المستوى الأدنى، الذي يهتم فيه الأشخاص بالأحاديث المتعلقة بحياة الآخرين وأسرارهم الشخصية؛ الثاني هو المستوى المتوسط، الذي يتداول فيه الأفراد حديثاً عن الأشياء ؛ أما الثالث فهو المستوى الأسمى، حيث يكون حديث الناس عن المبادئ هو الأبرز.
في مجتمعنا، نجد العديد من الأشخاص الذين نشأوا في بيئات تفتقر إلى التربية السليمة، مما يدفعهم للانغماس في تتبع شؤون الآخرين الشخصية والتحدث عنها كما لو كانت ضرورة لا تقل أهمية عن التنفس أو شرب الماء. في هذا العالم المحدود والتافه، يجدون مصدر سعادتهما وحزنهم، ويقيسون بهما مفاهيم الفرح والتعاسة.
التربية التي نشأنا عليها قد غرسَت فينا مفاهيم راسخة، ومع مرور الوقت أصبح من الضروري إعادة النظر في هذه المفاهيم، سواء من حيث الشكل أو المحتوى، لتواكب التطور الحضاري والإنساني. فقد أصابنا الضعف على مختلف الأصعدة: الفكرية، الأخلاقية، والحضارية. نتيجة لذلك، أصبحنا نعيش في حالة من التناقض بين واقعنا وأفكارنا، وكأننا مجرد كائنات غير حقيقية ألقي بها في مسار الحياة لتواجه مصيرها بسرعة وبسهولة، كما لو كانت دون قيمة.