أعداء السلام هم أعداء “افشاء السلام”

جواد بولس

تاريخ النشر: 31/01/25 | 8:30

داهمت قوات كبيرة من عناصر الشرطة الاسرائيلية وقوات خاصة و”حرس الحدود” ومختلف الأجهزة الأمنية في وقت مبكر من صباح الثلاثاء الماضي، عدة مواقع في مدينة أم الفحم وبلدات عربية أخرى وبضمنها مكاتب “لجنة إفشاء السلام” وأجرت فيها وفي عدد من بيوت نشطاء اللجنة تفتيشات واسعة واعتقلت عددا من أعضاء اللجان برز من بينها اعتقال رئيسها الشيخ رائد صلاح لعدة ساعات ثم الافراج عنه.

جاءت حملة المداهمات غير المسبوقة بعد أن وقّع وزير الجيش الاسرائيلي، يسرائيل كاتس، أمرًا تحظر بموجبه أنشطة “لجان افشاء السلام”، وذلك بذريعة أن اللجنة تابعة “للحركة الاسلامية الشمالية” المحظورة بمقتضى أمر حكومي اسرائيلي كان قد صدر بحقها في العام 2015 .

أصدرت عدة جهات حزبية ومؤسسات شعبية عربية بيانات شجب واستنكار ضد حملة المداهمة والاعتقالات؛ وعقدت “لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية” مؤتمرًا صحفيا في مقرها الرئيسي في مدينة الناصرة يوم الاربعاء الفائت، أكد فيه رئيسها، محمد بركة، على “أن هدف حظر أنشطة لجان افشاء السلام القطرية هو تضييق الخناق على العمل الأهلي والسياسي في المجتمع العربي” ووصف قرار السلطات الاسرائيلية “بالملاحقة السياسية” وبأن الادعاءات الموجهة ضد اللجنة “فارغة ولا تستند إلى أي أساس قانوني حقيقي”.

لن يختلف اثنان على أن تحرك الشرطة والمؤسسة الأمنية الاسرائيلية ضد لجان افشاء السلام يأتي ضمن تنفيذ سياسة الحكومة الحالية التي لا تخفي نواياها الحقيقية، بل تؤكد يوميا أنها عازمة على “تضييق الخناق” وعلى ملاحقة جميع المؤسسات والجمعيات الناشطة بين المواطنين العرب. وقامت الحكومات في السنوات الأخيرة بوضع الرؤى والمخططات العملية لتنفيذ سياستها المعلنة، حتى جاءت حكومة نتنياهو الحالية فباشرت بسن مجموعة من القوانين والأنظمة الادارية الكفيلة بتحجيم عمل معظم الاحزاب والمؤسسات السياسية والاجتماعية، وترهيب الناشطين فيها ووضعهم تحت طائلة القوانين الجديدة والمخالفات السياسية ” والجنائية” التي ابتكرتها نصوص تلك القوانين .

لن يكون من الصعب على السلطات الاسرائيلية استلال حججها لتسويغ مخططاتها القمعية، خاصة في الحالة الاسرائيلية الراهنة، وبعد تفشي نزعات الفاشية على المستويين الشعبي والرسمي، واستعداء المواطن العربي الفلسطيني لمجرد كونه عربيا، والمسلم لربطه عقائديا بالتنظيمات الاسلامية المعادية للدولة اليهودية، وفي طليعتها حركة المقاومة الاسلامية، حماس.

في هذا السياق وعلى الرغم من كون لجنة افشاء السلام هي احدى اللجان المنبثقة عن “لجنة المتابعة العليا” ياتي القرار الاسرائيلي؛ وفي هذا تكمن خطورته واحتمالات تداعياته في المستقبل تماما كما حذّر منه بحق، محمد بركه حين قال: “نحن أمام حملة متدحرجة من قبل المؤسسة، لذلك نطالب أن نتوحد كي نتصدى لهذه الحملة”.

لقد سبقت قرار الحظر الأخير مؤشرات منذرة لافتة لها علاقة بلجان افشاء السلام وبرئيسها الشيخ رائد صلاح وبنشاطات الجمعيات والمؤسسات العربية داخل اسرائيل ؛ لكنها، رغم خطورتها، لم تحظ باهتمام جدير من قبل المعنيين بالأمر ولا برد القيادات المناسب عليها ؛ ففي دراسة مطوّلة أعدّها باحثان في”معهد مسجاف للأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية” حول مسألة تفشي الجريمة داخل المجتمع العربي، نشرت بتاريخ 12/11/2024، وردت فقرة خطيرة نوّه فيها الكاتبان، كوبي ميخائيل وجابي سيبوني، الى نشوء ظاهرة جديدة تتمثل “بتسلل الحركة الاسلامية الشمالية التابعة للشيخ رائد صلاح لصفوف منظمات الجريمة. فبعد اخراج الحركة عن القانون نجحت بانشاء “جمعيات وهمية” ومن خلالها بدأت تنشط داخل المجتمع العربي. رائد صلاح، على سبيل المثال، تحوّل الى “الحكم الاعلى” داخل المجتمع العربي وأخذ يزيد من قوته على الرغم من ادانته السابقة”. هكذا جاء في الوثيقة الصادرة عن أحد معاهد الابحاث الأمنية المهمة التي تُعرض دراساتها على الهيئات الرسمية وأمام صنّاع السياسات والقرار، خاصة فيما يخص المسائل الاستراتيجية البارزة. لقد كان واضحًا أن زج اسم الشيخ رائد صلاح والتعرض لنشاطه الشعبي والأهلي، يستهدف التحريض عليه والمس بشرعية مكانته القيادية وشرعية المؤسسات التي ينشط فيها، وبضمنها لجنة افشاء السلام، ويستهدف كذلك ردع النشطاء في هذه اللجان وعموم المواطنين العرب، كما يتضح من الطريقة الترهيبية التي نفذت فيها الشرطة مداهمتها للبيوت، والتي استعرض صلاح بعض حيثياتها وكيف تم “تفتيش بيته بمشاركة كلاب بوليسية ومصادرة أموال قليلة لمصروف البيت من محفظته وسيارتين متواضعتين لابنائه”.

إننا نواجه مرحلة جديدة من سياسة القمع السلطوية؛ وقد تكون حملة مداهمات يوم الثلاثاء علامة على بدايتها لا ذروتها. فبعد هجمة حماس في السابع من اكتوبر تعززت داخل المؤسسة الاسرائيلية فرضية مفادها أن داخل “الشارع العربي” تنامت مشاعر التضامن مع مخططات حركة حماس وبرنامجها في القضاء على اسرائيل، وهذا ما قد يدفع فئات واسعة من المواطنين العرب، خاصة بين الشباب، إلى الشروع بتنفيذ أعمال ” ارهابية”. لقد تطرقت ورقة “معهد ميسجاف” الى هذه الاحتمالية حين جزم معدّاها بأن “انتشار الجريمة المنظمة داخل المجتمع العربي يعد خطرا على الأمن القومي الاسرائيلي وذلك لبعدين أساسيين. الأول، لأنه يعزز حالة فقدان المجتمع العربي لثقته في مؤسسات الدولة ، وهذا بدوره قد يفضي الى ازدياد دوافع فك العلاقة مع الدولة وتنامي مشاعر الاغتراب نحوها؛ والثاني يتعلق بترابط العلاقات وتناميها بين المنظمات الاجرامية وبين عناصر متدينة وقومية متطرفة وقد تترجم هذه العلاقات، عن طريق تحوّل القتل على خلفيات جنائية، الى عمليات ارهابية” . كما وجاء في الورقة على أن هذه الاحتمالات قد تضاعفت بعد أحداث ومواجهات شهر مايو عام 2021 ، وبصورة أكبر بعد السابع من اكتوبر 2023.

كلام خطير فلماذا لم يرد عليه؟

ما قاله المتحدثون في المؤتمر الصحفي الذي دعت اليه لجنة المتابعة العليا هو صحيح ودقيق “فلو جاءت هذه القوات إلى محاربة الجريمة لانتهت الجريمة ولكنهم لا يريدون” ، هكذا صرح محمد بركه، وأضاف: “نحن نتهم المؤسسة بتفشي الجريمة في المجتمع العربي وكل ما ادّعته الشرطة والمخابرات بحق لجنة افشاء السلام مردود عليهم، فهذا قرار عدواني ضد الجماهير العربية وضد محاولات احباطها لانتشار ظاهرة الجريمة بينها.” هذه الاقوال صحيحة، لكنها لن تخرجنا من أزمتنا ولن تفكك عقد معضلتنا؛ فكيف يمكن مواجهة هذا العدوان في ظل المعطيات الرائجة داخل المجتمع اليهودي ومؤسسات الدولة؟

لقد أعلنت سكرتارية لجنة المتابعة موقفها “بضرورة الاعتراض قانونيا وقضائيا على هذا القرار وتنظيم نشاط شعبي في مدينة أم الفحم سيعلن عنه قريبا، وكذلك توجيه مذكرة دولية حول مجمل قضايا كم الأفواه والملاحقات السياسية” . أتمنى وكثيرون معي أن تؤدي جميع تلك الخطوات الى صد عدوان الدولة على الجماهير العربية؛ لكنني، وحدسي يقيني، أخشى من أن الجماهير التي يخاطبها البيان تغط في حالة سبات عميق بعد أن عزفت عن عالم السياسة وعافت “أهازيج” السياسيين. ويقيني أيضا بأن الوحدة التي يأمل رئيس المتابعه محمد بركه تحقيقها ويؤمن بضرورتها، هي مجرد تميمة لن تجد صدورا تحميها ولا أعناق تحملها. ويبقى التوجه للقضاء الاسرائيلي خيارا ومخرجا؛ بيد أننا نعرف انها ستكون قفزة أخرى لنا في الهواء، فالمحكمة العليا الاسرائيلية فقدت شرعيتها وسقطت أمام من أطلقوا قوات الشرطة لتهجم على مدينة ام الفحم واخواتها. اما بخصوص المذكرة الدولية فلا ضير من إعدادها وتطييرها نحو ذاك العدم ! فهي على الأغلب لن تجد من يلتقطها في عالم لم تحركه دماء عشرات آلاف الضحايا في غزة والضفة ولا تدمير مدن كاملة على رؤوس أهلها وأشلاء من سقطوا تحتها.

فما العمل ؟ لا أملك الاجابة في هذه العجالة، لكني أقول: قد لا نهتدي إلى شواطئ النجاة في حالتي تيهنا وعجزنا الحاضرتين؛ ولكن لا يضيرنا لو تتبعنا ما يقوله عنا أعداؤنا ويعدّونه لنا في السر والعلن، لنعرف كيف نرد عليهم وكيف نبني قلاعنا ومن أين نبدأ وكيف نسير قبل أن يجهزوا علينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة