كتاب “والي المدينة” للكاتب سهيل عيساوي

بقلم: الدكتور فؤاد عزام

تاريخ النشر: 02/02/25 | 8:29

يأخذنا الكاتب في قصصه القصيرة جدًّا إلى عوالم زكريّا تامر والتي يصفها الناقد المصري صبري حافظ : إنّها “تمحو الحدود بين العقلانيّ واللاعقلانيّ، المنطقيّ وغير المنطقيّ، الحدسيّ والاصطناعيّ[…] ويحاول رسم خريطة جديدة للواقع بحيث أنّ الخيال والمتاهة ليسا عكس الواقع؛ وإنّما هما مظهران دقيقان له”.
1. تتميّز القصّة القصيرة جدًّا بخصائص أساسيّة ثلاث: 1- القِصَر، 2- تشابهها مع الشّعر، 3- موقع القارئ عنصرًا فاعلًا فيها، بالإضافة إلى احتوائها على عناصر فرعيّة عديدة وتقنيّات مختلفة، جعلها توظّف تقنيّات تنسجم مع هذا القصر. من هنا فإنّ القصًة القصيرة جدًّا تتميّز بكثافة فائقة، وإذا كانت الرّواية امتدادًا للحياة، فإنّ القصّة القصيرة شريحة من الحياة؛ أمّا القصّة القصيرة جدًّا فهي لحظة من الحياة.
تجيء دراستنا في إطار الشعريّة لأنها تعطينا منظورًا علميًّا في التعامل مع النص الأدبيّ، فقد جعلها بعض الباحثين رافعة من أجل الوصول إلى علمنة الدراسة الأدبيّة ومنهجتها. والشعرية هي مجموعة من التقنيّات التي يوظّفها الباحث لفهم طبيعة العمل الأدبيّ، وآليّات بنائه من الداخل، وهذا بدوره يمكّننا من فهم الفكر الذي يستند إليه النصّ الأدبيّ. ونحن نؤمن بأنّ الشعريّة ليست قضيّة شكليّة وحسب، بل هي وسيلة لفهم النص الأدبي وبالتالي فهم فكر الكاتب نفسه. وإذا كان الأدب بدوره ليس علمًا، ولا يمكن أن يكون علمًا، فإنّنا نستطيع استنطاقه واستجلاء خفاياه بوسائل علميّة وأدوات منهجيّة، ومن هنا تأتي أهميّة الشعريّة حين تقدّم لنا هذه الأدوات العلميّة. ومفهومنا للشعريّة يستفيد من الشكلانيّة الروسيّة، والنقد الجديد، والبنيويّة، والسيميائيّة لأننا ننطلق من المسلّمة بأنّ كلّ ما في النصّ يخدم دلالاته.
العنوان
العنوان مفتاح أساسيّ من مفاتيح قراءة النصّ: “فالعنوان شأنه شأن مختلف مكوّنات النصّ، ليس مجرّد تكملة أو حلية، بل من منظور بعض محلّلي الخطاب نقطة انطلاق كلّ تأويل النصّ. في الوقت الذي يشغل فيه القارئ استراتيجيّة تأويليّة تنطلق من القمّة إلى القاعدة، ويخلق توقّعات حول ما يحتمل أن يكون اللاحق في النصّ”.
العنوان “والي المدينة” عتبة هامّة من عتبات النّص، وفيه فجوات قرائيّة، أي أنها لا تُملأ من خلال النص فهي فجوة دائمة؛ والفجوة تعني نقصًا في المعلومات تثير التشوّق في نفس القارئ ، وتثير أسئلة عديدة: لماذا والي المدينة
وليس حاكمها؟ العنوان مراوغ، فيه للوهلة الأولى إيحاءات تاريخيّة، فالوالي كان في عصور الحكم الإسلاميّ، والحكم العثماني، والظلم في الحاضر امتداد للظلم في الماضي، وأن الحاضر امتداد للماضي، ثمَّ من هو والي المدينة؟ وأيّ مدينة؟ وماذا حدث له؟ وما شأنه؟ كلّها فجوات قرائيّة (يسميها البعض فجوات دائمة أي نقص في المعلومات لا يجيب النصّ عنها، على عكس الفجوات النصية أ و المؤقتة التي يملؤها النصّ)، وهذه الفجوات تزيد التشويق، وتجعل القارئ مشاركًا فعّالاً في بناء النصّ.
الإهداء
يعتبر الإهداء جزءًا من النصّ الموازي، أو عتبة من عتبات النصّ، وجاء في الإهداء: “إلى عشّاق الشمس..
الذين يحملون هموم الناس البسطاء.
إلى أصحاب القلوب الكبيرة.”
نلاحظ- من خلال الإهداء- أنّ الكاتب يموقع نفسه أيديولوجيّا ضمن عشاق الشّمس، عشّاق الحرّية، ويحمل هموم البسطاء، وهو نصير قترب
قصّة “صفعة”
العنوان فيه فجوة نصّية تمتلئ- جزئيًّا- خلال النًص: شقّ الجماهير الغفيرة …اقترب من الحاكم وصفعه على خدّه الأيسر. نلاحظ كثافة الحذف في القصة: لماذا صفعه؟ ولماذا على خدّه الأيسر وليس الأيمن؟ أمّا فيما يتعلّق بالشخصيات فهناك ثلاث شخصيّات: الرجل
الرّجل هو الشخصية المركزيّة اعتمادًا على عدّة معايير أهمها: المعيار الكمي، وهي الشخصية التي تتلقى تمثيلا حادا وحاضرة بكثافة على امتداد القصة. والمعيار البنيويّ، أي حضور الشخصيّة في بداية القصّة ونهايتها. ومع ذلك نلاحظ أنّ الرّاوي قام بحذف مكثّف للمعلومات فنحن لا نعرف شيئًا عن هذه الشخصيّة سوى أنها رجل، فلا اسم، ولا عمر، ولا هويّة، وهنا القارئ هو الذي يعيد انتاج النصّ. الحذف يقودنا إلى التّعميم، لكن نحن- كقرّاء- نعطي النصّ هوية عربيّة سياسيّة. دلالة النصّ واضحة في نهايته: الملاحقات السياسيّة: “وقال:” من الطارق؟” جاء الصوت من خلف الباب، المخابرات العسكرية.”
تظهر هذه الدلالة أيضًا من خلال الثنائيّات الضدّية في القصّة: الرجل-المواطن المسيَّس المظلوم والمضطهَد مقابل الجماهير الغفيرة التي تصفق للحاكم وترقص له. ومن جهة أخرى نلاحظ ثنائيّة ضدّية في القصّة بين الحُلم والواقع، والحلم كما عرّفه فرويد هو رغبة لا يستطيع الإنسان أن يحقّقها فعليًّا فيحقّقها في الخيال. المواطن يريد أن يصفع الحاكم لكنه لا يستطيع فيصفعه في الحلم.
الأحداث: تنبني الأحداث في قصّ “صفعة” على ثنائيّة ضدّية بين أحداث داخليّة وأحداث خارجيّة، فالجماهير والحاكم (المخابرات العسكريّة)أفعالهم خارجيّة؛أما المواطن المسيّس فأفعاله داخلية فهو يلجأ إلى الحلم (حدث داخليّ) لتحقيق هدفه، والحلم يشير إلى جمود الشخصيّة وفشلها. وهنا يوجه الكاتب إصبع الاتّهام للجماهير التي تصفّق وترقص للحاكم.
ونشير هنا إلى أنّ الشخصية المركزية بفشلها في تحقيق هدفها الذي يتمثّل في معاقبة الحاكم تموقع نفسها في حقل اللبطولة. من هنا تُوَظّف شخصيّة اللابطل لاستصراخ ضمير القارئ ضدّ ظلم السلطةن وفضح الأنظمة القمعيّة وبالتالي تثوير الجماهير.
الإغراب: كان الشّكلانيّون الرّوس أول من تحدّث عن الإغراب كعنصر أساسيّ في أدبيّة الأدب. ويشرح شكلوفسكي مفهوم الإغراب بأنّه كسْرُ مألوفيّتنا للأشياء، لأنّ إدراك الإنسان يصبح مؤتمتًا، أي بحدّ أدنى؛ وهدف الفنّ، هو إجبارنا على الملاحظة، والتقنيّة الرئيسيّة لإثارة إدراكنا هي الإغراب.” يقول إبراهيم طه إنّ الإغراب يجعل الواقع النصّيّ غريبًا، ويخلق بعدًا رمزيًّا، ويحدّد عدد الكلمات في النصّ.
استعمل الكاتب سهيل عيساوي تقنيّة الإغراب في أربع عشرة قصًة من ثمانٍ وخمسين قصّة، إضافة إلى تقنيّة كسر التوقّع، ونأخذ مثالًا على ذلك قصّة “شكوى”:
هذه القصّة ذات دلالات سياسيّة، والعنوان شكوى يشير إلى أنّ ظلمًا قد وقع على شخصٍ ما أو مجموعة من النّاس. ولكن الكاتب يستعمل تقنيّة الإغراب فيجعل شخصيّات القصّة من الحيوانات: الأرانب البيضاء، الثّعالب، الأسد.
وكما ذكرنا سابقًا فإنّ الإغراب يحوّل النصّ إلى نصّ رمزيّ: الأرانب بيضاء فهي رمز للناس الأنقياء يزرعون حقولهم بالجزر، إلّا أنَ الثعالب وهي رمز للأشرار تقوم بسرقة الجزر وتخريب المزروعات. في الصباح تتوجّه الأرانب إلى الأسد لتشكو ما آلت إليه مزروعاتهم، والأسد رمز للحاكم؛ إلّا أنّه يتبين أنّ الحاكم شريك في الجريمة، وربما هو مدبّرها. والقصة- على غرار معظم القصص القصيرة جدًّا ذات نهاية مفتوحة دلالة على استمرارية هذا الظلم ولأنّ العالم الذي تصفه عالم مُشوّش لا يقين فيه، ولا ثبات. ويسمّي تشاتمان الحبكة التي تنتهي بنهاية مفتوحة حبكة الكشف، وهي حبكة القصص الحديثة حيث لا تكون القصّة مبنيّة على حلّ وإجابة عن سؤال، وإنما تتجلّى الأحداث على أمور تنكشف.
ويشير إبراهيم طٰه إلى أنّ النهاية المفتوحة تؤدّي إلى زيادة نشاط القارئ ودوره في إنتاج النصّ، ففيها “تخلٍّ” عن جزء من الدّور الكلاسيكيّ، والطبيعيّ للكاتب، وهو كتابة النصّ بأكمله… فالنهاية المفتوحة تنقل جزءًا من عمليّة الكتابة إلى القارئ، وذلك من أجل إكمال الأجزاء الناقصة وتقديم أجوبة لأسئلة النصّ” .
القصص الاجتماعية
معظم قصص المجموعة (46 قصّة من 58 قصّة) تدور حول مشكلات اجتماعيّة، وخصوصًا قضايا العنف المستشري في مجتمعنا العربيّ.بالعصء ويوظّف التقنيّات التي ذكرناها سابقًا. مثال على ذلك قصّة “طوشة”، إذ تقوم الجموع الغاضبة تهوي على جسده الغضّ بالعصي،.. عندما سُئل الشابّ الذي أرسل الرسالة عن سبب المشكلة، قال: “داس على خيالي ولم يعتذر”.
في قصّة “شجرة زيتون معمّرة” نقد للأجيال الشابّة (الأحفاد) الذين أهملوا الأرض التي زرعها الأجداد بالعرق والدّم . “زرعها الجدّ بالعرق والّدم، أهملها ابنه من بعده تقلّص ظلّها وقلّ زيتها. الحفيد باعها بثمن بخس. انتظر المشتري موسم الزيت والزيتون، في المعصرة هاله ما رأى! لم يجد قطرة زيت واحدة، وجد الدّموع المالحة.
استعمل الكاتب في هذه القصّة تقنيّة الإغراب التي تحوّل النصّ إلى نصّ رمزي من جهة، وتقنيّة الحذف من جهة أخرى. والحذف هو عدم وجود مقطع سرديّ
يوافق مدّة معيّنة في الحكاية. ويجيء الحذف لتسريع عملية السرد وحذف أزمنة ميّتة لا قيمة لها.
نخلص إلى القول إنّ الكاتب سهيل عيساوي نجح في ربط تقنيّات القصة القصيرة جدًا بالدلالات السياسية والاجتماعية من منطلق أنّ كلّ شيء في النصّ له دلالة. وجاءت قصصه لتوجه نقدًا لاذعًا للسلطة القمعية السياسية والاجتماعية، وتستصرخ ضمير القارئ ليثور ضدّ الظلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة