التحولّات الدراماتيكيّة في حياة أسير

حسن عبادي/ حيفا

تاريخ النشر: 04/02/25 | 7:49

بعثت الطفلة تالا رسالة لوالدها الأسير عبد الله البرغوثي بمناسبة الذكرى العاشرة لدخوله المعتقل وتساءلت: “من أنت، من أنت يا أبي؟ هل أنت ذلك الطيّب الحنون، هل أنت ذلك القاسي منزوع القلب؟ هل أنت ذلك المحبّ العاشق؟ أم أنت ذلك الذي جاء من المجهول وغادر أيضاً إلى المجهول؟ لا أدري من أنت، من أنت؟ أنت تلك الصورة التي كُتب عليها تلك الجملة التي لا أفهم لها معنى: ألأسير البطل”. لماذا تركتني طفلة صغيرة. لا يتجاوز عمري الثلاثة أعوام ملقاة بسيارة تُحاصرها الكلاب من كلّ صوب؟ لماذا تركتني في البرد القارس بعد أن غِبت ولم أراك؟” فكان جوابه كتاباً يحمل عنوان “أمير الظل… مهندس على الطريق”، (148 صفحة، دون ذكر الناشر، ومن مؤلّفاته: “الشهيد الحي” و”فلسطين العاشقة والمعشوق” و”المقصلة وجواسيس الشاباك”)، وأخذني ذلك مجدّداً إلى كتاب “رسائل إلى قمر” لصديقي الأسير المقدسيّ حسام زهدي شاهين.

يشكّل الكتاب سيرة ذاتيّة لصاحبه؛ طفولته في الكويت واكتشافه لفلسطينيّته وتدرّبه على الفنون القتالية والرياضية، انتقاله للأردن إثر الاجتياح العراقي للكويت، سفره إلى كوريا الجنوبية وزواجه بامرأة كورية، بطاقة عبور وأمان كغيره من غالبيّة المغتربين للدراسة أو العمل، دراسته بمعهد لدراسة الهندسة، ونجاحه بصنع الأدوات الكهربائية والعبوات الناسفة، واختراق شبكات الاتصال والإنترنت.

وفجأة سمع بخبر إصابة بلال، ابن عمه، الذي غيّر مجرى حياته فعاد إلى الأردن، لتُحجز أمواله وينفصل عن زوجته الكوريّة “انفصلنا كأصدقاء، حتى أنّي ذهبت إلى أحد محلات المجوهرات واشتريت لها عدة أطقم من الذهب ومن الملابس ومن الهدايا لوالدتها ووالدها، وأوصلتها إلى المطار مودّعاً إياها حزيناً على الفراق” (ص.18)، ويسافر للمرّة الأولى إلى فلسطين المشتهاة، ليلتقي بعروس اختيرت له، وحين وصل القدس “ذقت لأول مرة الحب، فلقد أحببت القدس وقبة الصخرة المشرفة من أول نظرة، بل عشقتها من أول كعكة”.

يصوّر صدمة اللقاء الأوّل والخيبة الأولى؛ “وصلت إلى فندق فخم جداً جداً، في البداية لم أصدق وجود هذا الفندق في مدينة أريحا… وبما أني أحمل جواز سفر أجنبي وبما أنّ صديقي يملك هويّة مقدسيّة فلقد دخلنا مثل دخول الفاتحين… علمت أني في كازينو أريحا… رأيت بأم عيني قمة الفساد والإفساد في أول مدينة تسيطر عليها السلطة… شاهدت في هذا الوكر، لم يكن القمار أو العاهرات إنما العاهرون رجال جهاز الأمن الوقائي… لا اختصاص له سوى حماية الصهاينة من المقاومة وحماية الفاسدين من الثائرين” (ص. 23)، لا أكثر ولا أقلّ. وصوّر كذلك المواكب التي ترافق المسؤولين وتحرس كبار الشخصيات، وتحسّر على من باع تراب الوطن مقابل بطاقات “VIP”، وعلى المفاوضات التي تسير بلا انقطاع، “مكانك سِر”، والتنسيق الأمني ضارب أطنابه.
استقرّ في البلاد، عمل في التجارة، افتتح محل للأدوات الكهربائية وآخر للسوبر ماركت، استيراد السيارات الكوريّة المستعملة تجارة العقارات، وجاءت نقطة التحوّل مع اقتحام شارون للمسجد الأقصى واندلاع الانتفاضة الثانية، فقرّر الالتحاق بالثورة.
وبدأ حينها بتجهيز العبوات الناسفة وصناعته وأصبح مطاردا من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وكان الاعتقال الأول وما واكبه من صدمة “داهمت قوات جهاز الفساد والإفساد الفلسطينية جهاز الأمن الوقائي بقيادة كلب بني صهيون… لقد وجدوا مالي الذي كنت قد سحبته من البنوك، وجدوا مالي الذي قبضته ثمناً للمحلات التجارية التي بعتها للسوبر ماركت ولمحل الأدوات الكهربائية، كل المال وجدوه واستولوا عليه بل نهبوه” (ص. 69)، لكنه بعد فترة تم إسقاط إدانته.
صوّر التحاقه بالثورة والمقاومة؛ كانت أولى خطواته نقل حجارة الانتفاضة بباصه للمقاومين، وتحوّل لصناعة العبوات الناسفة وتدريب النشطاء، صناعة فاكس خاص وكان يرسل عبره كل مرة برقم مختلف ولم تستطيع أجهزة الأمن الاحتلالية والسلطية اكتشافه أو اختراقه، محاربة ظاهرة العملاء والخونة وأحزنه أنّ أحدهم من أقاربه، مطاردته فترة طويلة وحصار بيته.
تناول تمويل المقاومة؛ تمويل خاص بغالبيّته، باع ذهب ابنته وزوجته ليبدأ مشوار المقاومة من جديد، على حدّ قوله، وأسعده تكاتف أبناء قريته وإعادة بناء ما دمّره الاحتلال.
تناول سخطه على أجهزة الأمن الفلسطينيّة بمسميّاتها المتلوّنة، جهاز الأمن الوقائي وجهاز المخابرات العامة وغيرهما، وصوّر فساد قادتها المالي الذي جعلهم ألعوبة بيد من يدفع لهم أكثر (ص. 112)، ومنهم من كان يدير بيوتاً للدعارة ومن يتاجر بالمخدرات وآخر بالسيارات المسروقة، وآخر بالابتزاز والخاوة، وآخر بالإسقاط الأمني عن طريق بنات الهوى.
صوّر مشهديّة لقائه بالعميل الذي أوقع به “تم اقتيادي إلى معسكر عوفر… ما إن توقّفت السيارة بداخل المعسكر حتى تم إزالة العصبة عن وجهي لأجد نفسي أمام شخص مقنّع نظر إليّ وهزّ رأسه، كان ذلك المقنّع هو صاحب مكتب تأجير الشقق… ثواني لزمتني لأقرر رغم أني مكبل مقيد بأن أقوم بإعدامه” (ص. 126)، وتمّ إعدامه لاحقاً بطريقة تليق به.
تناول الاعتقال، التحقيق والتعذيب، ظاهرة “العصافير” البغيضة وغرف العار، محاكمته وتم الحكم عليه سبعا وستين مؤبدا وخمسة آلاف ومائتي عام (ص. 142) وفي ذات اليوم حكم على قلعة جدّه بأن تُفجّر، والعزل الانفرادي لسنوات طويلة.
تطرّق الكاتب لأسماء زملائه ممّن استشهدوا أو اعتقلوا فقط؛ ومنهم، على سبيل المثال، لا الحصر، المهندس أيمن حلاوة (اغتيل بقصف جوي يوم 22 أكتوبر 2001)، الصحفية أحلام التميمي (حكم عليها بالسجن 16 مؤبداً وتحرّرت ضمن صفقة تبادل وفاء الأحرار عام 2011 وأبعدت إلى الأردن)، محمود غلس، أبو علي السلوادي، الشهيد فؤاد الحوراني، عباس السيد (أسير في سجون الاحتلال ولم يستشهد كما جاء، سهواً، في الكتاب)، مجد البرغوثي (تم تعذيبه في سجون السلطة حتى الموت)، بلال البرغوثي، سليم حجي، عز الدين المصري، وجاءني ما كتبه الصديق جمال كرامة على صفحته، بالخليليّ “الفدائي كنا لا نعرفه إلا عندما يستشهد أو يعتقل من قبل الاحتلال. الله يرحم فدائي زمان، اسألوا تيسير أبو اسنينه كيف كان الفدائي في زمانه مش مثل اليوم شغل زعرنة وعربدة على الشعب في شوارع رام الله وجنين وغيرها من المدن”.
يُنهي الكتاب بأبيات شعر كتبها من زنازين العزل الانفرادي تحت عنوان “أسير بلا كفن”:
“عبد الله يا ساكن الوجدان – يا صلاح هذا الزمان
اليوم بت فارساً بلا حصان – أسيراً بسجن بلا عنوان
شهيداً حياً بلا كفن – بزنزانة العزل العفن
ويمشي منتصب القامة لا يهين – كهزيج الرعد بسماء فلسطين
عزيز النفس كالتين والزيتون – كصخرة الأقصى ومعراج السنين”
ملاحظات لا بدّ منها؛
لن أتناول تجنيس الكتاب، فوجدته سيرنصيّة وشظايا سيرة، عُصارة تجربة صاحبه، ومحاولة لتأريخ حقبة زمنيّة عايشها، من وجهته.
الكتاب مليء بالكثير الكثير من الأخطاء المطبعيّة المنفّرة.
وجدت بأنّ الكتاب لا يحمل اسم الناشر و/ أو المطبعة؟ وراودني الشك بأنّه بات من المحظورات لمحتوى الكتاب، تماماً كما حصل حين تناولت كتاب “ذاكرة الجدران المعتمة” لفاروق عاشور!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة