أنا والمريول المدرسيّ
زهير دعيم
تاريخ النشر: 09/02/25 | 14:03
على الأبواب يوم مولدي …وكاّنّه حدثَ بالأمس ؛ بالأمس القريب ، وإلّا فما باله يخطرُ على بالي واضحًا جليًّا وكأنّني أعيشه وأحياه وأُغنّيه اليوم.
أذكر نفسي وأنا في صفِّ البستان ألبس مريولًا مدرسيًّا أخضر كما كلّ الطلّاب والطّالبات في الصّف ، وأذكر وأتذكّر أنّني امتعضت وقتها وخجلتُ – رغم صغر سنّي – ، فالمريول يا مُعلّمتي يُسرى يليق بالأُنثى ؛ بل خُلق ووجِدَ لأجلها ، فما بالك تلزميننا على ارتدائه ؟! فلبسته على مضَضٍ وفي قلبي وعلى وجهي ألف باقة خجل …
ولكنّني ومع الأيام رحتُ أعشقه ، وكم تمنيّتُ وأتمنّى لو كان هناك من رسمني وأنا ارتديه ، أو التقط لي صورةً وأنا أرفلُ به ، أو لو احتفظت به، لكان اليوم كنزًا يلوّن خِزانه ملابسي .
ولا أنسى وكيف أنسى حقيبة كتبي في الصّف الأوّل ؛ تلك الحقيبة بل قُلْ: ” المِحفظة” التي حاكتها المرحومة أُمّي من قُماش احدى المِخدّات ، ورُحتُ أُعلّقها كما كلّ أصدقائي على كتفي وأنا أعبر الطرقات الضّيّقة في بلدتي الجميلة عبلّين للوصول الى الصّف القابع في بناية السيّد مفضي خليل … أعبرها صباحًا مع زقزقةِ الدّوريّ يُعانق نوافذ شُباطَ مرةً وأُخرى تحت زخّات المطر وشمسيتي يدان صغيرتان ، فمرّة أنجح في الوصول سالمًا ، وأحيانًا أصل والوحل يرقص فوق ثيابي من جرّاء حفرةٍ اقتعدت كأخواتها جلّ طرقاتنا .
سقى الله هاتيكَ الأيام ؛ أيام الفقر والبراءة والطّيبة والمحبّة غير المُقنَّعة ، وسقاها طَلًّا وعِطرًا وفوْحَ ياسَمين.
ومرّت الأيام وكأنّه حُلمٌ ، حُلمٌ وينقضي ويتلوه آخر وآخَر ، وإذا بي وأنا في عنفوان الشّباب أنخرط في سلكِ التعليم ، فكم عشقتُ أن ينادوني ” يا معلّم ” كما نُوديَ من قبل على السيّد المسيح .
لقد عشقت هذه المهنة وما زلتُ ، ففيها ومن خِلالها تتجلّى القداسة ويرفل العطاء وتشمخ الانسانيّة ، فلو أسعفني الحظّ ! – ويل ليته يُسعفني – نعم فلو أسعفني الحظّ اليوم وعُدْتَ شابًّا لاخترْتُ أن أكون مُعلّمًا يزرعُ العقول والنُّفوسَ أدبًا وعلمًا وايمانًا .
حقًّا كأنّه حُلم ..
فأنا اليوم في الخمسين والنّيّف من السّنين – رجاءً لا تسألوني عن ” النيّف ” كم هي – وما زالت تلك الأيام الجميلة تُكوْكبُ في مخيلتي في كلّ يوم وتناديني :
تعالَ تفيأ تحت ظِلالي
تعال وعُد الى البراءة
وتعال وأكتب ” دار دور” ودعك من عالَمٍ متحضّرٍ يعشق الحرب أكثر من عشقه الحياة وربّ الحياة !!!
يا ليتني أقدر واستطيع أن اعود الى تلك الأيام الخوالي فأتلذّذ بِ:
” المجدّرة ” و “السميدة والبنادورة ” و” الغليضة ” ( الغليظة) و” مرقة العدس ” و” الخبيزة ” وخبزات الصّاج ، وأكلات أُخرى فرضها الفقر فرْضًا فالتهمتها بلذة مرّةً وعنوةً مرّة أُخرى ، ونحن نلعب : البنانير والغُميضة والحِيز ويلّا الغيث غيثينا ، حين تبخل علينا السماء بالمطر.
عُدْتَ يا يوم مولدي … عُدْتَ وعادت بي الذّكريات الحُبلى بالحياة والمرح والبراءة رغم ” القِلّة” وضيق اليد …
عُدْتَ ويا ليتك تعود مرّاتٍ كي أُبحرَ في عشرات السنين القادمة الى هاتيك الأيام.. أتُرى السماء تسمعُ فتستجيب .