خير هديّة في الزمان كتاب

حسن عبادي/ القدس-حيفا

تاريخ النشر: 19/02/25 | 13:38

في زيارتي لصديقي المقدسيّ حسام زهدي شاهين أهداني نسخة موقّعة من كتابه “رسائل إلى قمر ” (شظايا سيرة، 224 صفحة، تصميم الغلاف: الفنان التشكيلي الفلسطيني ظافر شوربجي، صادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان/ رام الله).

رغم مصاحبتي للكتاب مذ كان نطفة، جاء الإهداء بطعم الحريّة.

التقيت بحسام للمرّة الأولى يوم 20 حزيران 2019 في سجن الجلبوع؛ تناولنا شظايا تجربته، قيم فلسفيّة أدبيّة تزداد قيمتها خلف القضبان، قصّة فقدان الخصوصيّة لأنّ الحريّة هي الأساس، قيمة الأشياء الصغيرة التي اكتشفها داخل السجن بسبب الحرمان. تلك الأمور الصغيرة تكبر في ذهن ومخيّلة الأسير القابع في زنازين الاحتلال، حرمانه من لقاء أحبّته وفقدان أعزّائِه دون وداع، حرمانه من احتضان وتقبيل “قمره” أربعة عشر عامًا. دوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة وعنونتها: “رسالة إلى “قمر”.
حين التقيته المرّة الثانية يوم 15 آب 2019 في سجن مجيدو، حدّثته عن لقائي وزوجتي سميرة مع قمر وأهلها (حمزة، محمد، شيرين وعماد) في مطعم الفلّاحة في عين عريك (المطعم الذي أحبّ الراحل محمود درويش تناول مسخّنه فيه)، حدّثني بدورِه عن قمر التي كانت آخر صورة له قبل الاعتقال يوم 28 يناير 2004، حينها عصبوا عينيه وهي بحضن والدتها شيرين “بتطلّع عليه”، وما زالت الصورة مطبوعة في مخيّلته تمدّه بالأمل، استفسر عن دقائق الأمور حول قمر، فكرها وتصرّفاتها فتنهّد قائلًا “لقطت الصنّارة”!
في لقاءاتنا المتتالية حدّثني عن مشروعه القمريّ وتحديثاته، وصار كتاباً.
في لقائي بحسام يوم 29 تموز في سجن نفحة الصحراوي تحدّثنا عن حالة الخذلان والاغتراب، والصدمة من الواقع خارج السجن، فالشعور بالاغتراب يشكّل بداية انهيار المشروع الوطني، والممارسات السيّئة للتنظيمات جعلتنا أمام منعطف حقيقي صادم، يشعره أن الوطن مسروق.
شعرت بخذلانه من التسويفات المؤسّساتيّة والوعود العرقوبيّة لإطلاق الكتاب، فلم تصل غزّة كما وعده الوزير آنذاك مرارًا وتكرارًا ولا مخيّم بلاطة، ووعدته بترتيب أمسية إطلاق خلال شهر آب، تواصلت مع تيسير نصر الله وأنا في طريقي من سجن نفحة الصحراوي إلى حيفا، أخبرته بحلم حسام إطلاق الكتاب في مخيم بلاطة فتحمّس للفكرة، دون مماطلة وتسويفات وتأتآت، وأطلقناه هناك يوم 21 آب 2021، تزامناً مع عيد ميلاد قمره وبحضورها، وكتب لي من خلف القضبان: “كلّ يوم يمضي من أعمارنا يموت ويُدفَن في الماضي، ولا نفوز به إلّا بما كسبنا من حُبّ، وحياة، وذكرى جميلة. هذا ما منحني إيّاه صديقاي حسن وسميرة، فلهُما وللكرمل الذي يسكُناه ويسكُنني كلّ المحبّة والوفاء. حسام زهدي شاهين”.
شاركت كذلك بندوة حول الكتاب يوم 06.10.2022 ضمن نشاطات ندوة اليوم السابع المقدسيّة؛
وبندوة أخرى يوم 21.01.2023 ضمن نشاطات “أسرى يكتبون” لرابطة الكتّاب الأردنيين.
الكتاب عبارة عن خواطر وومضات، سيرنصيّة وشظايا سيرة، عُصارة تجربة حسام، بطولِها وعرضها، وزبدتها نصائح لقمره وأبناء جيلها، فحسام يعوّل على جيل الشباب ليشدّ الهمم وينهض بقضيّتنا إلى آفاق بعيدة ليحققّ حلمنا بعد استخلاصه عِبراً وتجارب فشل جيلنا نحو غدٍ أفضل.
يتناول حسام أهميّة الرسالة في حياة الأسير، رسالة يستلمها خلف القضبان ليعيشها بحلوها ومرّها، هي “باروميتر” العلاقات الإنسانيّة بواسطتها يقرأ الأسير حرارة المشاعر المتبادلة أو برودتها، أداة لقياس المسافات الروحانيّة مع الأحبّة، ورسالة أخرى “يهرّبها” عبر القضبان لتشكّل متنفّسًا له، يحلّق من خلالها في فضاء الحريّة المشتهاة، ويتحدّث عن حياة الأسر والمعاناة اليوميّة التي يعيشها الأسير، عن “الفورة” وأحاديثها وطقوسها، العزلة بحسناتها وسيّئاتها، الأحلام الصغيرة والكبيرة، أهميّة المُكاشفة، المُحاسبة والمُساءلة، مقت المزاودات الشعاراتيّة الرنّانة التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، حساب الذات و”معاناة برش” والعلاقة الجدليّة بينهما حيث صارا رفاق درب وبينهم “عِشْرِة عُمُر”! وكذلك الأمر في نصّه القاسي والمؤلم “قسوة وتعذيب”.
يتناول علاقة الأسير بأهله ومعاناتهم، طريق الآلام التي تعبرها الأمّهات في طريقهن لكلّ زيارة، يؤرّخن حياتهن من زيارة لأخرى، صعوبة البعد والفراق والحنين، كما جاء في نصّه القاتل بعنوان “عبير ونهر الموت البطيء”، وصعوبة فقدان عزيز دون وداع!
صوّر حسام بانسيابيّة باهرة نجاح نجلة الحيفاويّة/ النصراويّة بالبقاء والتمسك بتراب الوطن، قابضة الجمر بانتظار من انتكب من الأهل، ليطمئننا حسام بثقة العارف: “بالله عليك يا بحر، ما الذي حلّ بهم؟ هل هم بخير؟ فسمعته يصرخ من بعيد، عائدون يا نجلة، عائدون يا حيفا!”.
وكم كانت نجلة (رحمها الله) سعيدة حين استلمت نسخة من الكتاب وقرأت ما كتبه حسام عنها.
خلال زيارتي لحسام أغلقت دائرة أخرى؛ جاءت الدوايميّة/ المقدسيّة سلوى هديب، إحدى بطلات الكتاب، “سلوى التي تستنبت الأمل من الألم”، ملهمة الأغنية الثوريّة زمن الانتفاضة “إيد بتخلع جواسيس وإيد بتزرع حريّة” لتهنئته بالسلامة.
كتب صديقي المقدسيّ محمود شقير في التظهير: “يزخر الكتاب بنماذج بشرية عديدة متميزة لنساء ورجال، وبتأملات فكرية عميقة موجهة إلى الطفلة قمر التي كبرت الآن وكبر معها أطفال فلسطين، الذين سيجدون ضالتهم المنشودة ومرشدهم الأمين في كلمات هذا الكتاب الطالعة من ظلام السجن الإسرائيلي، التي سطرها أسير مناضل محب لوطنه وللناس أجمعين.”
ملاحظة لا بدّ منها؛ التقيت في حينه برجل أعمال جليليّ متحمّساً لمبادرة “لكلّ أسير كتاب” و”من كلّ أسير كتاب” وأعرب عن رغبته واستعداده لتمويل إصدار لأسير، وزففت البشرى لحسام، مما أثلج صدره، وزوّدته برقم هاتفه فاتصل به وشكره. وحين صدر الكتاب بدأ رجل الأعمال بالتهرّب من الناشر، اختفى ولم يدفع. أوصلته نسخاً من الكتاب، فانتشى كالطاووس، ولم أخبر حساماً بتهرّبه. واصل حسام الاتصال به من سجنه بالمناسبات وشكره مثنى وثلاث ورباع، ورجل الأعمال مطنّش. تماماً مثله مثل رجال أعمال آخرين. (عند قراءة هذه الكلمات سيعلم حسام للمرّة الأولى بالحقيقة المرّة).
كتب لنا حسام في الإهداء: “إهداء للأخوين الحبيبين سميرة وحسن عبادي اللذين شممتُ من خلالهما رائحة الوطن ومحبة الأصدقاء، وعشت حيفا في كلّ أزمانها الجميلة. من القدس إلى حيفا بعد أن أصبحت الحرية الصغرى حقيقة لا لبس فيها.
حسام 11.02.2025”.
شكرًا عزيزنا حسام على هديّتك القيّمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة