في رثاء والدتي… الكمنجات صوت الوفاء الغائب!

مي يونس بدرة

تاريخ النشر: 20/02/25 | 11:01

مع خيوط الفجر البارد من صباح شهر شباط “الحادي عشر” توقف عن الخفقان قلب المربية الفاضلة والفنانة الموسيقية القديرة والإنسانة الملتزمة بقضية وهموم شعبها ووطنها والدتي وفاء يونس، لتتوقف أوتار الكمنجات عن العزف، وتتوقف الحياة، وتتجمد معها كل أعضاء جسمي في هذا البرد القارس من شهر شباط الذي قالت فيه العرب: “شباط ما عليه رباط “.

والدتي ابنة قرية عارة، القرية العربيّة الكنعانية في المثلت، وابنة عائلة أحبّت العلم والأرض معا فالعلم والأرض جوهر الرواية التي ترعرعت عليها والدتي وسيرورة حياتها، تلك المعلمة التي وهبت نفسها وجهدها وعملها اليومي، وبيتها وعائلتها في خدمة افكارها ومبادئها الإنسانية والوطنية والفنية، حاملة بيدها آلتها الموسيقيّة “الكمان”، وشعلة العلم والثقافة والموسيقى، وهموم شعبها أينما ذهبت بيدها الأخرى، ولقد حالفني الحظ أن أكون دائمة الحضور في ترحالها وجولاتها وبرامجها وعملها الدؤوب “الفني الوطني” ورفيقة دربها وصديقتها التي لم تكن تربطها بها مجرّد علاقة قرابة الدم، بل كانت تتعدى كل تلك البديهيات، كانت والدتي بالنسبة لي البوصلة التي أشقّ بهداها تضاريس الحياه والجفرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع، كنت ملازمة لها كما كانت آلة الكمان الموسيقية، والتي تعتبرهمزة الوصل ما بين شطري هذا الوطن الممزق والجريح ، كما قال شاعرنا الكبير محمود درويش: “الكمنجات تبكي على وطن” .

لقد غادرتنا بالصمت المسكون بالضجيج والقلق، وبعيون من الامل. تواجدت بقربها انا وزوجي الناشط الاجتماعي عماد بدرة، في مشفى العفّولة قبل ساعات من غيابها الابدي، نحن نسألها عن صحتها وأوجاعها وبدورها تتعالى عن آلامها لتسألنا عن أحوال أهلنا في قطاع غزة وعن آخر الأخبار وما آلت إليه الحرب، وعن اخوتي والعائلة ، لم أكن اعلم ان ذلك الحديث ما هو إلّا زفرات الوداع.

لم يكن الفن بالنسبة لوالدتي مجرّد نوتة وآلات موسيقيّة بل كان الجسر والطريق نحو الحرية والاستقلال، ورسالة محبة وسلام لشعب له وطن وهويّة، له موروث حضاري وثقافي وفنّي، له جذور ضاربة في أعماق الأرض، لقد قامت والدتي وفاء يونس من خلال مشروعها التطوعي بتدريس الموسيقى لأطفال مخيم جنين بعد الاجتياح الكبير للضفة الغربية والمجزرة التي ارتكبت في المخيم في عملية “الدّرع الواقي” عام 2002، حاملة آلة الكمان، بين أزقّة المخيّم وبين الركام وأنقاض البيوت لتجمع الأطفال بعد ان أقامت لهم معهدًا بالمخيّم لتدريس الموسيقى، وشكلت فرقة أوركسترا من الأطفال اطلقت عليها اسم “أوتار الحرية”، من منظور إدراكها للموسيقى على أنّها لغة حوار انسانيّة بقدر ما هي وسيلة نضالية لمقاومة الاحتلال، ولإيصال صوت شعبنا للعالم ولمخاطبة الرأي العام العالمي بالنوتة الموسيقية لوقف آلة الحرب والقتل والدمار ونيل الحرية والاستقلال .

وفاء يونس هي خرّيجة “معهد روبين للموسيقى في حيفا” وتعملُ مُعلِّمَةً للموسيقى في عدة مدارس في المثلث واخرها في مدرسةِ ” الظهرات والهلال في عرعره ، وتديرُ معهدًا للموسيقى وأنشأت فرقة العازفين للاطفال، ووالدتي تعشقُ الموسيقي العربيَّة وتعملُ بشكل دائم على تنميةِ وتطويرالمواهب الفنيَّةِ لدى الأطفال، وأصدرت العديد من الكتب والمقالات وعملت على إصدار مجلّة “الموسيقى بحر عميق”، وَدوَّنت النوتة َالموسيقية لكتاب مدرسة الظهرات بعنوان: “الغناء الشعبي في وادي عارة”، وصدرَ لها كتاب “وَعزفت لنا الأوتار”، وكتاب “شعر وموسيقى” كتبَ مقدمتهُ الشاعرُ الكبير “سميح القاسم”. ( ولا شكَّ لدينا أنَّ عطاءَ الفنانةِ وفاء يونس يستحقُّ أكثر من كلمةِ وفاء، فهذه الإنسانة ُ العربيَّة ُ الاصيلة ُ والموهوبة ُ تشكلُ، وحدها ، بشخصيَّتها وعملها، مؤَسَّسة ً ثقافيَّة ً في جزءٍ عزيز من وطننا الغالي ما زالت شجرة ُ الفنِّ لديهِ مُحتاجة إلى كثير ٍمن الرِّعايةِ وَمُقوِّمَات النماء والإثمار)، ويُعتبرُ هذا الكتابُ الأوَّل نوعِهِ في الداخل الفلسطيني لقيمتِهِ الموسيقيَّةِ والوطنيَّةِ حيث يحوي مجموعة ًمن القصائد الشعريَّة المُلحَّنة والمنوَّتة (مكتوبة بالنوتةِ الموسيقيَّة) لشعراءٍ محليِّين قامت على تلحينها وتدوينها موسيقيًّا. وأصدرت كتابًا آخر هام بعنوان ” دندنات رغم الحصار” يضم باقة من القصائد لشعراء وطنيين، قدّم له وزير الثقافة الفلسطيني السابق، الكاتب الروائي يحيى يخلف، قال فيها: “إذا كان الشعر بذاته حاضنًا للإيقاع الموسيقي عبر حيوية الكلمات ونسيجها، فإن توفير النوتة الموسيقية لهذا الشعر المعني، إلى جانب كلماته، في كتاب واحد لهو تجربة جديدة وفريدة من نوعها. كما كان لوالدتي إسهامات ومبادرات فنيّة وثقافيّة واجتماعيّة متعددة لم تتخلى فيها عن انتمائها لقضية شعبها، وعن دورها المتميز في تطوير الواقع الفني والتعليمي والثقافي بين جيل الشباب والأطفال.
لقد خسرنا نحن العائلة والابنة وقرية عارة – عرعرة وشعبنا الفلسطيني مجتمعين، خسارة جسيمة بفقدها، وكنّا بأمسّ الحاجة لتلك الكمنجات والدندنات الإنسانية والوطنية القابضة على الجمر.
لا نقول وداعا، فما زال هنالك متّسع من الحياه لنسير على ذكراك وخطاك ودربك، والسلّم الموسيقى الذي سيكسر حاجز الصمت لتعزف الكمنجات صوتك الجميل الذي يرافقني ويلازمني تلك الحياه .

‫2 تعليقات

  1. رحمة الله على ام العلاء.
    اسكنها الله فسيح جناته.
    الانسانة المعطاءة، الموهوبه، المخلصه، المتجذرة، الوفية لامتها وانسانيتها.
    جمال جزماوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة