همس الحفيف

استعراض وتقييم هادي زاهر

تاريخ النشر: 07/03/25 | 14:14

عاد المربّي فوزات حمدان إلى السّاحة الأدبيّة بعد انقطاع طويل، عودة موفّقة، وقد أصدر ديوانه الجديد “همس الحفيف” عن دار “الحديث” للإعلام والنّشر جاء الدّيوان في 100 صفحة من الحجم المتوسّط، شرح في مقدّمته عن أهمّيّة الكتاب ومدى صلته بالقارئ.

جاءت الكثير من القصائد زاخرة بالصّور لتعبّر بجماليّة فنّيّة راقية عن وجعه على الواقع الرّماديّ المعاش، يحاكي أشجانه الّتي تعبّر عن واقع الكثير من النّاس وأعتقد أنّ الميّزة الأساسيّة في نجاح القصيدة هي خلق الصّورة، وهنا أتذكّر على سبيل المثال شاعر الأطلال إبراهيم ناجي في قصيدة “الأطلال” الّتي غنّتها أمّ كلثوم: “يا فُؤَادِي لا تسلْ أين الهَوَى، كان صَرْحًا منْ خَيَالٍ فَهَوَى”.

يعني أنا أرى بعين خيالي صرحًا عاليا وقد سقط. والشّيء بالشّيء يذكر، يظهر بوضوح أنّ شاعرنا يعي الواقع، لذلك هو يعاني بشدّة، وتتقافر الأبيات الّتي يدخرها العقل الباطن وتصعد إلى العقل الواعي، منها ما قاله شاعر العرب الأوّل المتنبّي: “ذو العَقلِ يَشقى في النَّعيمِ بِعَقلِهِ، وأَخو الجَهالَةِ في الشَّقاوَةِ يَنعَمُ”. ويصعد أيضًا بيت شعر آخر لشاعر آخر: “عش في الحياة عيش هائم فالسّعد في طالع البهائم”. وشاعرنا ليس بهيمة، لذلك فهو يشقى جراء الزّور والبهتان المنتشر على هذا الكوكب. وتعالوا لنستعرض قصائده استعراضًا سريعًا لنعيش بعضًا من شقائه.

قصيدة “أنشودة العبوديّة” (ص 14) تحمل بعدًا إنسانيًّا واضحًا، يقول فيها: “عبدٌ أنا ولحن جسور.. لا أبالي بوجودي ولا أفقه لغة العصور”. وهو يتفاعل بحدّة مع ما آلم الأمّة حيث يقول: “ما زال ربيعي الرّمليّ ينشدني.. وجرحي العربيّ يعرفني.. ما زالت في قمّة الجرح.. وما زلت أهدي التّحليق للطّيور.”

في قصيدة “سنرجع يومًا خبّرني العندليب” (ص 22)، يتذكّر جارة القمر والمآسي الّتي حلّت بشعبنا الفلسطينيّ تحديدًا هذه المأساة تصيب قلب شاعر في الصّميم، فهو يتأرجح بين اليأس والأمل: “تكثر الحكايا ويكثر النّحيب”، وبين الأمل في “سنرجع يومًا خبّرني العندليب”. وهنا يستفزّ لنتذكّر الصّلاة في أغاني فيروز.

ويواصل الشّاعر في نصائحه مع الواقع العام المؤلم، ففي قصيدة “على مشارف الرّيح” (ص 20)، يقول مع بداية القصيدة مباشرة: “عاد الطّفل من ليل الأراجيح.. يبحث عن أغاني الرّعاة في شقوق الرّيح.. تتلوه محنة الرّبيع”. وهكذا، فحتّى في الرّبيع الّذي من المفروض أن يكون رمزًا للأمل والسّرور، نجده منصهرًا مع أهله في كلّ مكان.

في قصيدة “ميلاد الأعاصير” (ص 34): “تعال وحدثني عن كهولة الطفولة في شمعتي.”.

ويستمر الشّاعر في جوّ نقد ممارسة الانتهازيين ممّن يستغلون البسطاء من النّاس فيضع النّقاط على الحروف بجراءة في قصيدة “سكرة الميعاد” (ص 37)، حيث يقول: “وصارت الصّلوات تأكل زاد الفقير.. ينهشها الطّاعون وأهواء المنابر”. يا لهذه الرّوعة ووضوح الرّؤية في هذه الأبيات الّتي تصيب بدقّة متناهية.

في قصيدة “من أشلاء الجرح اليافع عرفت السّماء” (ص 42)، كنت أفضّل أن لا تكون عناوين القصائد طويلة، يعبّر في هذه القصيدة عن زيف المشهد “ويدعو إلى عدم الاستسلام للواقع”. يقول: “كانت نواطير العزف تجتاح العناء.. وتحفر على الرّمال أسمائها وتتعاطى الموت وتغريه بسخاء.. تمارس طقوس العيد فتذبح الأوفياء”. وهنا لا نستطيع إلّا أن نقف منبهرين أمام مقدرة الشّاعر في التّعبير عن واقع الحال المدقع.

قصيدة “حين يسكن الخريف أوراقي” (ص 48): “ما زالت شيخوختي تُذري أشياء ماضيها” و “ما زال اللّيل في عنق الشّمس يلمحني”. وهنا أسأل الشّاعر: لماذا لا نفتح صفحة جديدة في حياتنا ونغنّي مع المطرب الرّاحل ملحم بركات “تع ننسى.. تع ننسى الأيّام اللّي راحت.. أيّام العذاب المرّة.. وسنين اللي ضاعت؟”

في قصيدة “الغد الّذي لا يصير” (ص 52)، يعبّر عن قناعته الرّاسخة وثبات الموقف غير آبه بكلّ جديد سلبيّ: “على درب الوفاء أسير لاغيا المعايير، جاحدًا فيما سيأتي كافرًا بكلّ الدساتير.”

في قصيدة “تراويح الموسم” (ص 56)، حتّى في العيد الّذي من المفروض أن يكون رمزًا للفرح، نجد: “عنترة ذلك الفارس العائد من ليلة أحزان أن يعبّر عن البشر” تنهال أعياد الحزن لتسكن فرحة النّغم، والعتابا مسكونة بالآهات و”نحن نغنّي في زمن هجرت فيه الأنغام دنيا أغانينا.”

في قصيدة “رمال القناديل” (ص 60)، يغوص في بحر قصص ألف ليلة وليلة، يستوحي منها صور، وها هو “عنترة ذلك الفارس العائد من ليلة أحزان الشّهيد.. والّذي أسكت بصلاة سيفه حراك الرّضيع.. يعود متخفّيًا في برد العصور.. معلنًا شروق القبائل”. هكذا، وكأنّنا عبر العصور لا رحنا ولا جينا.

في قصيدة “في عمق المساء” (ص 66)، يبدو أنّ هذه القصيدة تخرج من الجوّ العامّ للدّيوان حيث “تزهر الأيّام لحنًا وارف الوجد”. الحياة جميلة رغم كلّ شيء يمكن أن يشوّه صفوها.

في قصيدة “وعاء النّغم” (ص 70) (يتدرّبك) الشّاعر وسط مزيج من المشاعر، فهو مسرور وخائف: “عاد النّغم ليدقّ أبوابي.. وعادت أوتارك تغفو على أعتابي” ولكنّه يدرك أنّ الزّمن لا يتوقّف حيث يقول: “أخاف من زمن لا محالة آتٍ”.. حاملًا معه مزايا الأغاني.. فأصحو ولا أجدك بين أنغامي”. ولكنّه يدرك سنة الحياة فيقول: “وقد يأتي زمن…. لا أنا فيه لا أنت.”

في قصيدة “عودة السّندباد” (ص 79)، يظهر الشّاعر نفسًا طويلًا وزخمًا عاطفيًّا كبيرًا، وتستطيع شهريار أن تسحره ليستسلم “ويترك لها شعوذة الابتكار والنّقر على نرد الشّوق والطّبول.. وهي تنسج أسطورة السّعي مبحرة الوجد.. “يطلّ شهريار منصهر الشّوق يستجدي الحكايا” ليقول لها: “آه يا شهريار.. آه يا صانعة النّجوم” حتّى يبلغ به الوضع ليعدو طفلاً يفوح من يديه عبير الأراجيح يلاحق الفراشات.

في القصيدة الّتي “تختتم الدّيوان”: “الحنين إلى أمي” (ص 92) “ويظلّ ظلّك رسمًا يشرق بالأوفياء.. ويطلّ شذا بسمتك أغردة.. تنعم على أعتابي.”

وأخيرًا نستطيع أن نقول بأنّ ديوان الشّاعر فوزات حمدان يفوز على الكثير من الدّواوين الّتي تصدر هذه الأيّام، متأمّلين من الشّاعر مواصلة العطاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة