*الصّلح سيّد وأهله حكماء*

*الشّيخ صفوت فريج* *رئيس الحركة الإسلاميّة*

تاريخ النشر: 08/03/25 | 17:35

ونحن في أيّام فضيلة، أيّام الصيام والقيام والصدقات، وإلى جانب ما لا يُحصى عن فرض الصيام وأثره المجتمعي، وروحانيّات القيام وضرورة الصدقة، يبرز حديث رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه حين قال: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البَيْن، فإنّ فساد ذات البَيْن هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن تحلق الدين”. وفي حديث آخر، قال عليه الصلاة والسلام: “دبّ إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والّذي نفس محمّد بيده، لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أفلا أنبّئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”.

الإصلاح أعظم من الصيام والقيام والصدقة! هو جوهر الحكمة وأداة المصلحين في إعادة اللحمة بين الناس، وهو من أعظم الفضائل الّتي يمكن أن تسود بيننا في زمن كثرت فيه النزاعات وتعاظمت الخلافات. هو ليس مجرّد حلّ وسط بين طرفين، بل هو بناء جديد للعلاقات، يقوم على التسامح والتفاهم، ويؤدّي إلى تحقيق الاستقرار المجتمعي.

كانت يثرب قبل أن يحلّ فيها نور رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- مسرحًا لنزاعٍ دامٍ بين قبيلتَيْن عظيمتَيْن، الأوس والخزرج، عداوة شرسة راح ضحيّتها خيرة الرجال، بتحريضٍ وإثارة من أيدٍ خبيثة. وحين نزل رسولنا الكريم ليقيم فيها، وهو يحمل رسالة ربّانيّة، كان أوّل ما قام به هو إرساء قواعد الصلح بين العائلتَيْن، حيث لا يمكن أن يقوم الخير في بلد ترتع فيها الدماء! وواصلت تلك الأيادي دبّ الأسافين وإثارة الفتن، حتّى كاد يشتعل النزاع من جديد، ليقف رسولنا الكريم أمامهم ويقول: “أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنّها منتنة”.

تحقيق الصلح يحتاج إلى أهل الحكمة والبصيرة، الّذين ينظرون إلى الأمور بعين العدل والإنصاف، ويعملون على تهدئة النفوس، لا تأجيجها. يدرك المصلحون أنّ القوّة الحقيقيّة ليست في كسب الصراعات، بل في تجنّبها وإنهائها بما يحفظ للناس كرامتهم ومكانتهم. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المصلحين بقوله: “لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ”، فجعل الكثير من النجوى -وهو الحديث السرّي- لا خير فيها إلّا في ثلاثة، ومنها الإصلاح بين الناس، حيث تحتاج في الصلح إلى النُصح وإلى حديث قد يكون فيه شدّة على نفس السامع، وكما قال شوقي عليه رحمة الله: “النُّصح ثقيلٌ فلا ترسله جبلًا، ولا تجعله جدلًا، والحقائق مُرّة، فاستعيروا لها خِفّة البيان”.

لا شكّ أنّ النزاعات، سواءً بين الأفراد أم الجماعات، تُنهِك مجتمعاتنا، وتُهدّد تماسك النسيج الاجتماعي، وتُعطّل مسيرة البناء والتقدّم والنهضة والعمران. هنا يأتي دور كلُّ فرد فينا، فالمسؤوليّة ليست حكرًا على جهات معيّنة، بل هي مسؤوليّة جماعيّة قد تتجزّأ ولكن لا بدّ وأن تلتقي، وهذا يستوجب منّا جميعًا أن نكون جزءًا من الحل، لا متفرّجين، ولا أن نكون جزءًا من المشكلة.

هذه دعوة لكلّ ذي عقل راجح وقلب سليم، لأن يكون لبنة في بناء جسور التفاهم والتسامح والتصالح بين الناس. لا تنتظر أن يبادر غيرك في حلّ النزاعات، بل كن أنت أوّل من يبادر، وأوّل من يسعى لإطفاء جذوة الخلاف. كن من الّذين يسعون لإصلاح ذات البَيْن، فذلك من أعظم القربات عند الله، وهو ما أمرنا به ديننا الحنيف، وما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى.

يقول تعالى: “إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ”، وكلّنا أخوة، جميعًا دون استثناء. يُروى أنّ معاوية دخل عليه حاجبه، فقال له: يا أمير المؤمنين، بالباب رجلٌ يستأذن في الدخول، ويدَّعي أنّه أخوك، فقال معاوية: خدمتني كذا وكذا، ولا تعرف إخوتي؟ قال: هكذا قال لي، قال معاوية: أدخله، فلمّا دخل سأله: أيّ إخوتي أنت؟ فقال: أخوك من آدم، فقال معاوية: رحم مقطوعة، والله لأكوننَّ أوّلَ مَنْ وصلها”.

الصلح سيّد لأنّه يعيد السلام إلى النفوس والمجتمعات، ويرسم الابتسامة على وجوه أرهقتها النزاعات، وأهله حكماء لأنّهم يدركون أن لا خير في الفرقة والعداوة، ولا رشد في الخصومة بين الأهل والجيران والأحبّة. فلنكن جميعًا صُنّاع سلام، ولننشر ثقافة الصلح، فمجتمعنا بحاجة إلينا، ونحن بحاجة إلى روح التسامح والوحدة أكثر من أيّ وقت مضى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة