لغات القبور الحزينة
يوسف جمّال – عرعرة
تاريخ النشر: 12/03/25 | 2:01
وقفنا – أنا وأمي ..
في المقبرة بجانب المقابر
ننتظر وصول أخي
الى مثواه الأخير
كان قبره مثل غيره من القبور
في الأرض محفور
لم يكن هناك عويل أو نحيب
تلا الصمت تراتيله المعتادة
على إيقاعات الغياب
وعزفت الريح موسيقى الموت
على حزائن الرباب
وساد المقبرة :
سكون حادٌّ كالسكين يقطّع الأنفاس
وصمت مخنوق لعين يخرس الإحساس
ووخزات موت من أنين كوخز الأمواس
وانين يبكي من أعماق رجعات الأجراس
*******
الحوتيُّ
يتنقَّل من دفنٍ الى دفين
منذ أيام وهو يرتدي
زيّ يقيه من الزمهرير
ربما لا وقت لديه للتغيير
كانت عيون الحاضرين متجمّدة
في صمت مرير
لا شهيق .. لا زفير
لا نفير
رتابة متصلِّبة
تتوه في ريح صلف قرير
***************
يحفر بفأسه ويحفر ..
تركناه ساعات ورجعنا
وما زال يحفر
تركناه أياماً ورجعنا
وما زال يحفر
تركناه ليالياً ورجعنا
وما زال يحفر .. ويحفر
لا يرفع عينيه عن الفاس
ليحصي الأكياس
فقد الإحساس
فهو يعرف أن هناك
من ينتظرون دورهم
وآخرون في الطريق آتون
وأحياء سيأتون بعد حين
بعد أن يُقتلون
بعد أن يقصفون
فتنظيم الدفن من وظيفة الملائكة
ونيران قاذفات القنابل
والنابشون عنهم تحت أكوام الدمار
وتحت طاقية الخفاء
والمتبخِّرين مع الدخان
الى عنان السماء
**********
أشوفه ! أشوفه !
ابني .. وليدي ..
زعقت أمّي من بعيد عندما رأتهم
يرفعون أحد أكياس الرفاة
كيف عرفتِ يا أمي كيس أخي من بين
مئات الأكياس !؟
سألتها بهمس يقطِّع الأنفاس ..
سمعتُ روح أخيك تناديني من
بين الأشلاء ..
ردّت بلا نحيب أو بكاء ..
أنه أشلاء .. ماذا سترين فيه !؟
سألتها من بين نزيف دقات قلبي ..
إني أسمعه ينادي من بين الأشلاء :
أمي .! أمي .!
أجابت .. .
كيف سيعرفك !؟
سألتها تائهاً بين الدموع ..
إيقاع دقات قلبي .
تقرأ لغة إيقاع دقّات قلبه
نغمات روحي
كان ينام على نغماتها
ايقاعات نبضي
كان يصحو على إيقاعاتها
كان يقرأ ..
لغات عيوني في كلِّ اللهجات
وهمسات جفوني في كلِّ الحركات
ولمسات خدودي في كلِّ الألوان
وأنا أقرأ سطور :
صفحات وجنتيه في كلِّ اللغات
و أوشام راحتيه في كلِّ الرسمات
وأنفاس رئتيه في كلِّ الشهقات
وفي كلِّ الزفرات
ردّت ..
********
ما هذه القطرات التي تسبح
في السماء !؟
سألتها ..
إنها أرواح عصافير الجنات
إنها غيمات .. غيمات – يا ولدي !
ستسقي العطشى وتروي التربات
ستبل شغاف قلوب الأمهات
فتنبت عليها الرياحين والزهرات
فتخرج منها الحياة
**********
كيف تطير العصافير يا أمي
وهي مكسورة الجناحات !؟
سألت ..
تطير ..
على أمواج الريح
وقطرات الغيمات
على ضوء النجمات
على أحلام الأقمار
أجابت ..
فوجّهت ناظريَّ الى السماء
وأرسلت حلمي لترافقها الى الجنّات
وبكيت ..
*******
يا أماه ..
ما هذه الومضات التي تزيِّن السما
سألتها ..
إنها صدى الجراحات
وقنوات النزفات
وأصوات الزعقات
وجداول الدمعات
وقنابل القاذفات
وسكاكين الجرّافات
ونيران الدبّابات
أجابت ..
********
أمي ..
من الذي أطفأ السراج
وحوّل وجودنا الى غياب
من الذي طعن حياتنا
بأنصال الحراب
و دفن قناديلنا تحت الخراب
وقلع جذورنا من تحت التراب
وحوّلها الى يباب
من الذي قتل الفرح فينا
وأخرس الرباب
و حوّل نور عيوننا الى سراب
و مطرنا الى ضباب
و أسئلتنا بلا جواب
سأل ..
إنها جيوش الشيطان
وعابدي النيران .. يا ولدي
أجابت ..
وهجمت الى ابنها
وعصرته في أحضانها
إنها تخاف
أن يلحق بأخيه
انهم يعيشون تحت وابل النيران
والموت أقرب إليهم من الحياة
**********
هل سيعودون يا أمي !؟
سألها..
سيعودون يا ولدي
سيطلّون من خضرة أوراق الزعتر
من فوق الجليل
مع نفحات أريج برتقال يافا
مع قناديل دوالي الخليل
مع زبد بحر عكا
سيطلّون من خضرة أوراق الزعتر
من سمرة التراب
من عيون النبعات
قد تطول الطريق
لكنهم سيعودون ..
*************