إمبريالية على الطريقة الأفلاطونية!
بقلم : د . ادم عربي
تاريخ النشر: 25/03/25 | 17:39
كم مرة ترددت على مسامعنا تلك العبارة الأفلاطونية المثالية “القيم والمبادئ والمُثُل” من أفواه رؤساء الولايات المتحدة أو مرشحيها؟ كيف يلوّنونها بمفردات متعددة مثل “الديمقراطية (أي القيم الديمقراطية)” أو “الأخلاقية” أو “الإنسانية” أو “الحضارية”؟ تلك القوة العظمى ذات الجوهر الإمبريالي بمعناه اللينيني والكاوتسكي تزعم أنها “تقود” العالم لا “تحكمه”، وتدعي أن هذه القيادة تتم عبر “المُثل العليا” و”قوة المُثل” الديمقراطية والأخلاقية والإنسانية والحضارية.
بزعمها هذا، تُقدم الولايات المتحدة نفسها كدليل إضافي على أنَّ “الفكر (الوعي، الروح)” هو وحده من يحكم العالم. وفي انزياح واضح نحو “المثالية” المفرطة، وإهمال صارخ لـ”المادية” (التي يصورونها دنيئة وخسيسة)، يصرح قادة هذه الدولة التي يعتقدون أنَّ التاريخ بلغ نهايته السعيدة فيها وبها، مُحَيِّياً فوكوياما، ومن قَبله هيجل بأنَّ سياستهم الخارجية لا تقف إلّا مع من يشاركهم نفس القيم والمبادئ. وبالتالي، فهم يقفون ضد كل من لا يتشابه معهم في قيمهم ومثلهم.
هذه هي “الدِّيانة الرابعة” التي تجاوزت كل الديانات السماوية والأرضية السابقة؛ فـ”المصالح” خاصةً المادية منها كالمصالح الاقتصادية رغم أهمّيتها التي لا يُنكرها عاقلان في عالم السياسة “الواقعي”، ليست المحرّك الأوحد لسياستها الخارجية، ولا العامل الحاسم فيها. فكيف كان للولايات المتحدة أنْ تُعلن نهاية “التاريخ” لولا سيادة قيمها ومبادئها السامية التي تفوق سموّ السماء ذاتها على أرض السياسة؟ إنَّها تُهذّب هذه المصالح وتُعقلنها، وتُضفي عليها طابعاً إنسانياً وروحياً، حتى يصبح صراع المصالح شيئاً نقياً ومقبولاً.
أليست هذه صورةً لعالمٍ جميلٍ بهيج، تصنعه الولايات المتحدة لنا بفضل “قيادتها المثالية” للبشرية جمعاء؟
تلك هي “المهمة التاريخية الكونية” العظيمة التي أوكلها التاريخ إلى “روما الجديدة” قبيل أنْ يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها المباركتين، مهمةٌ ثقيلة لو وُضعت على الجبال لهدَّتها. ولكنها، رغم ضخامتها، ستُنجز حتماً على يد الولايات المتحدة. فهذه الدولة التي تفوق العالم كله عِظَماً، حتى ضاق بها التاريخ من سَعَة حضورها الروحي، تتبنى مقولة آينشتاكن الساخرة “إذا تعارض الواقع مع فكرتك، فليس عليك سوى تغييره!”
لقد جرّبت الولايات المتحدة بتلك المفارقة العجيبة بين ادعاء الانفتاح وضيق الرؤية “التجربة الآينشتاينية” على طريقتها الخاصة. إنَّ إيمانها الراسخ بأنَّ قيمها ومبادئها ومثلها العليا لا تُجارى ولا تُعلى عليها، واقتناعها بأنَّ “الفكر” هو سيد العالم، دفعها لمحاولة إخضاع كل واقع يرفض الانحناء أمام أفكارها. ففي منطقها، أي واقع يعصي فكرها أو يقاومه يفقد شرعيته وصوابه، إذ أنَّ “الميزان الذهبي” لأفكارها هو المعيار الوحيد لقياس “واقعية” أي “واقع”!
بينما يضطر الماديون إلى تعديل أفكارهم لتتوافق مع الواقع، نجد أنَّ “القوة المثالية العظمى” (في العالم بل وفي التاريخ كله) تسير في الاتجاه المعاكس تماماً. إنَّ مثاليتها المتعالية تفرض عليها أنْ تعيد تشكيل الواقع نفسه ليتماشى مع تصوراتها، تلك الأفكار الغامضة التي لم تُفصح عن أصلها المقدس (وربما لن تفعل ذلك أبداً)، والتي لا شك في أنَّها من وحي السماء!
تشهد “التجربة” العملية للسياسة الخارجية الأمريكية بكل وضوح على التناقض الصارخ بين مصالح هذه القوة العظمى وبين القيم والمبادئ التي ترفع شعارها وتدعو الآخرين إلى تبنيها، مقابل منحهم بركاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية. ونحن في العالم العربي لنا شهادة حية على هذه المفارقة فالأعداء الألداء لقيم الولايات المتحدة ، تلك القيم التي يفترض أنها تعبر عن تطلعات البشرية جمعاء هم أنفسهم الذين تمنحهم الدعم وتقوي نفوذهم وتوفر لهم الحماية. وكأنها تقول بلغة مادية صريحة هذه المرة إنَّها تقف مع كل من يخدم مصالحها الإمبريالية، حتى لو كان أعدى أعداء مبادئها “الديمقراطية والأخلاقية والإنسانية” المزعومة.
عندما انطلق الشعب السوري في ثورته سعياً نحو الحرية وتجسيداً للمبادئ الديمقراطية فيما مضى وانقضى، “تدخلت” الولايات المتحدة لصالحه بطريقة غريبة ، فقد حذرت بشار الأسد فقط من استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية لقمع المحتجين. وكأنَّها بذلك تقول” لسنا ضد القتل والتدمير بحد ذاتهما، بل ضد نوعية الأسلحة المستخدمة في تنفيذهما فقط!”
لقد “دافعت” الولايات المتحدة عن بعض الشعوب بادعاء التوافق مع قيمها ومبادئها المعلنة، لكن هذا الموقف لم يكن سوى واجهة تخفي تحته توافقاً مؤقتاً وشكلياً مع مصالحها الإمبريالية. وعندما تصطدم هذه المصالح بقيمها المزعومة، تسقط الأقنعة بسرعة لتنحاز بوضوح لمصالحها. فالتجربة تثبت أنَّها تقيس كل مبادئها بمقياس واحد فقط وهو مدى توافقها مع مصالحها الإمبراطورية.
بالنسبة للفلسطينيين، لن يتمكنوا من مشاركة الولايات المتحدة قيمها ومبادئها المزعومة إلّا إذا قبلوا “الديمقراطية” بالمعنى الأمريكي التي يُفترض بهم تبنيها على أنَّها تعني في صميمها الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية خالصة للشعب اليهودي ، بحيث يكون “الشعب اليهودي” وحده صاحب الحق في تلك الأرض!
أو بصيغة أخرى ، لن ينال الفلسطينيون اعتراف الولايات المتحدة بمشاركتهم لقيمها إلّا إذا فسروا “الديمقراطية” التي يُطالبون باعتناقها على أنَّها تعني بالضرورة اعترافهم بإسرائيل كدولة يهودية صرفة، تخص اليهود وحدهم دون سواهم!.