جراحات جبل “طوبقال” القديمة

عبده حقي

تاريخ النشر: 06/04/25 | 18:09

كنت أمشي في الحلم كأنني أجرّ سماءً قديمة من عنقي، برباط جلد جمل لم يعد له جسد، ولا أحد يسألني عن اسمي لأن الأسماء تسقط من الذاكرة كالأوراق اليابسة في صيف لا يعرفه المطر. الصورة التي التقطها الهواء لي في طوبقال ذات ظهيرة غامضة لم تكن سوى اعترافا صامتا من الجبل بأنني دخيل هناك ، كائن زئبقي يذوب في نظرات الرعاة ولا يلتصق بالحجارة.

عبرت الزمن بأكمام مشققة، وقميص لونه كصوت الذئب حين يعوي في أذن الليل. لا أحد رافقني سوى ظلّي، وكان يسبقني إلى كل مكان، يحادث الصخور بلغات لم أتعلمها، ويرقص مع خيالات لا أراها. في تلك القرية المعلقة بين كتفي الجبل، كنت أحمل في رأسي مدينة كاملة انهارت تحت ثقل الفكرة، ومفاتيح لا تفتح شيئاً سوى أبواب الندم.

قال لي رجل غامض يرتدي عباءة من التراب: “احذر هذا الجبل لا يحب من يفكر كثيراً… هنا عليك أن تُسَلّم رأسك للعاصفة وتنسى أن لك قلباً.”

لم أجب. ابتلعتُ صوته كما تبتلع الغيوم البرق. وجدت نفسي بعدها أقف بجانب جدارٍ أبيض، نصفه مهدوم، ونصفه الآخر يحلم بأن يُهدَم، وفي يدي اليمنى ورقة لم أكتب عليها شيئاً، وفي اليسرى ضوء غامض لا أعرف مصدره.

كانت الوجوه تمرّ أمامي كأنها أطياف من زمن لم يحدث بعد. طفل يرتدي قميصاً أصفر، يسير بعينين مغمضتين، كما لو أنه يعرف طريقه بالبصيرة. وامرأة تجرّ ظلّها خلفها وكأنها تحمل نعشَ عاشقٍ قديم. وأنا، كنت أتفتّت كتمثال طيني أُغرق في نهر النسيان.

كل ليلة، كنت أنام على حصيرة من الرمل، وأحلم بأن الجبل يتحدث إليّ، صوته رخيم مثل صوت أبي حين يعود متعباً من مصنع الذكريات. كان يقول لي: “أنت لست هنا لتعرف… بل لتنسى.” وفي الصباح، أنسى حتى أنني حلمت.

الغربة لم تكن في اللسان، بل في الجسد الذي لم يعد يتذكر كيف يبتسم دون أن يُخفي شيئاً. كانت الشمس تعبر السماء بسرعة غير مفهومة، كأنها تطارد ظلاً فقدته منذ قرون. وكان كل حجر في الطريق يذكّرني بصوت سقط من رأسي ذات مرة ولم أجرؤ على التقاطه.

في أحد الأيام، وجدت نفسي أكتب رسالة إلى امرأة لا أعرفها، كتبت فيها: “جبل طوبقال لا يشبه شيئاً مما قرأت. هو كائن أخرس، يبتلعك ببطء، ولا يعيدك كما كنت. ضعتُ في رئته اليمنى، وسمعت قلبي يدق في أذنه اليسرى.” ثم مزقت الرسالة دون أن أرسلها، فهنا، في هذا المنفى المرتفع، لا تصل الرسائل إلا إلى الذئاب.

رأيت نفسي في المرآة يوماً، لم أتعرف عليّ. كنت رجلاً بوجه طيني، يحمل ملامح ثلاثة قرون، وابتسامة لم تكتمل منذ الخروج من الرحم. وجهي كان خريطة مشوّهة، وشعري غابة من أسئلة لم يجب عنها أحد.

أحياناً، كنت أستمع إلى الحجارة، فهي وحدها تعرف سر العابرين. كانت تهمس لي بأنني لست الغريب الوحيد، وبأن هناك قبلي من جاؤوا يحملون في صدورهم مدناً من زجاج، وتكسرت كلها عند أول نسمة باردة. كنت أبتسم للحجارة، وأهز رأسي، كمن يعرف لكنه لا يريد أن يتذكر.

وفي اللحظة التي التُقطت فيها تلك الصورة – نعم، تلك التي أنظر فيها إلى شيء لا أراه – كنت أقول لنفسي: “هذا ليس أنا، هذا انعكاس شظاياي في مرآة الجبل.” خلفي كانت الحياة تسير ببطء، كما لو أنها تمشي على رؤوس أصابعها خوفاً من إيقاظ زمنٍ نائم.

وها أنا ذا، بعد كل هذه السنوات، أنظر إلى الصورة كأنني أنظر من نافذة قطار لا يتوقف. أنا ما زلت هناك، في صيف 1979، محاصرٌ بقممٍ لا ترحم، وعيونٍ لا ترى، وذاكرةٍ تتسلل كل ليلة لتخفي عني مفتاح الخروج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة