رسالة أخيرة لرئيس المحكمة العليا القاضي يتسحاك عميت

جواد بولس

تاريخ النشر: 11/04/25 | 18:12

استمعت المحكمة العليا الاسرائيلية يوم الثلاثاء الفائت لمرافعات الأطراف في قضية اقالة رئيس جهاز المخابرات العامة، الشاباك. وكانت مجموعة من الجمعيات والجهات قد قدمت قضية وطالبت المحكمة باصدار أمر يلزم الحكومة الاسرائيلية بالغاء قرارها لعدم شرعيته وبكونه ممسوسا بدوافع شخصية يقف وراءها بنيامين نتنياهو. وادعي الملتمسون أن نتنياهو يخطط للتخلص من رونين بار، رئيس الجهاز، وابعاده عن منصبه بسبب اصراره على متابعة التحقيق في القضية المعروفة في إسرائيل باسم “قطر-جيت” تورط فيها عدد من مستشاري نتنياهو والموظفين في ديوانه.

قررت رئاسة المحكمة نقل مجريات الجلسة على الهواء مباشرة في اشارة لأهميتها ولإتاحة الفرصة لجميع المواطنين وللمعنيين لمشاهدتها ولمتابعة تفاصيلها.

لن أتطرق، في عجالة، للعناوين القانونية التي طالب الملتمسون من القضاة بحثها والاقرار بها، ولا لتداعيات قرار الحكومة وتأثيره الكارثي، فيما اذا بقي نافذًا، على مصير الديمقراطية الاسرائيلية، كما ادّعى الملتمسون وحذروا منه؛ فأنا على قناعة بأن ما يحاول الملتمسون الدفاع عنه، أي عن الديمقراطية، وانقاذه، أي سلطة القانون وحقوق المواطن وأمنه، هي ببساطة مهمة مستحيلة، أو كما قالت العرب مُراد “أعز من بيض الأنوق”. فالديمقراطية التي يتحدثون عنها وينشدونها قد ذبحت على عتبات الكنيست بخناجر الحكومات السابقة وبتساوق من جهة قضاة المحكمة العليا نفسها؛ أما سلطة القانون ومكانة حقوق المواطن ومصلحة المجتمع، أصبحت كلها رهائن في قبضة الحكومة الحالية وأتباعها الذين يتحركون كما تتحرك القطعان الجائعة الهائجة؛ بالضبط كما شاهدناهم في قاعة المحكمة وفي أروقتها.

حاول القضاة الثلاثة أن يضبطوا وقائع الجلسة وأن يسيطروا على انفلاتات الحاضرين ويصدّوا تهجماتهم واتهامهم بعداوة الدولة وبأنهم لا يملكون الصلاحية لمحاسبة الحكومة. كرّر رئيس الجلسة، القاضي يتسحاك عميت، أنّ المحكمة تقرّ بصلاحية الحكومة إقالة رئيس الشاباك، كما ينص القانون، لكنه أوضح أن القضية التي أمامهم تتعلق بأسباب إقالته وبدوافع رئيس الحكومة التي كانت وراءها، وهي مسائل جوهرية يعالجها القانون الدستوري-الاداري، وتقع ضمن صلاحيات المحكمة العليا . لم تنجح ملاحظات القضاة وتطميناتهم بامتصاص غضب الحاضرين فاستمرت المشاغبات وعلا الضجيج وقد برز فيه صوتا النائبين طالي غوطليب من حزب الليكود، وألموغ كوهن من حزب “عوتسما يهوديت”، فتساءل القاضي عميت مستهجنا دور ممثلي السلطة التشريعية في التخريب على عمل السلطة القضائية وأمر باخلاء القاعة من الجمهور وابقاء بث الجلسة على الهواء مباشرة. كان مشهد المشاغبات داخل قاعة المحكمة والصراخ على القضاة لمن رأه أول مرة مرعبا ومستفزا، وهذا ما عبر عنه الكثيرون ومنهم مثلا رئيس حزب الديمقراطيين يئير جولان حين قال: “إن الفوضى التي حدثت في قاعة محكمة العدل العليا تمت بتعليمات من فوق، لقد أدخلت “آلة السم” الى المحكمة بهدف ترهيب القضاة، فهكذا تتصرف المافيا”. بينما وصف رئيس جهاز المخابرات السابق يعقوب بري ما حدث قائلا : “هذا انفلات لوحوش آدمية وفضيحة. لا أتذكر مثل هذا الاستهزاء من قبل المؤسسة السياسية تجاه الجهاز القضائي”. وقد سبقهم جميعهم القاضي عميت ووصف ما يحدث أمامه “بالحدث غير المسبوق وغير المعقول”.

لقد قال وقالوا ولم يصيبوا ولم يصدقوا؛ فالقاضي عميت يعرف أن بعضنا، المحامين، واجه في السنوات الأخيرة خلال تواجدنا في المحكمة العليا محاولات اعتداءات خطيرة كانت تنفذها “كتائب حديدية” تشبه تلك التي غزت قاعة المحكمة وردهاتها يوم الثلاثاء الفائت. لقد حدثت بعض تلك الاعتداءات على مرأى ومسمع من القضاة وكان من بينهم القاضي يتسحاك عميت نفسه الذي حصلت أمامه الواقعة التي كتبت عنها في مطلع شهر اغسطس الماضي وقلت انه تمت “يوم الأحد محاصرة طاقم من المحامين، اليهود والعرب، داخل أروقة المحكمة العليا خلال مرافعتهم عن التماس طالبوا فيه الغاء قانونين تم تشريعهما في الكنيست مؤخرا لصالح عائلات يهودية رفع أفرادها لدى المحاكم الاسرائيلية دعاوى تعويض ضد السلطة الفلسطينية. مع انتهاء مرافعة المحامين بينما كانوا داخل قاعة المحكمة بدأ افراد المجموعات اليمينية بالصراخ وبالتهجم عليهم من غير أن يكترثوا لوجود القضاة بالقاعة، الذين مع بدايته وعلى وقعه غادروا كراسيهم ولاذوا مسرعين من دون أن يتخذوا أي اجراء لضمان سلامة المحامين، واختفوا وراء كواليسهم” .

كان يرأس تلك الجلسة يتسحاك عميت نفسه وكان مشهد هروب المحامين وهم مطاردون بالعشرات من أفراد كتائب اليمينيين المسعورين وبينهم عضو كنيست واحد على الأقل مرعبا؛ ولولا أن أحاط بهم عدد من حراس المحكمة ومنعوا اقتراب القطعان منهم لكانت العواقب وخيمة.

لقد سبقت هذه الحادثة حوادث اعتداءات مشابهة نقل بعض المحامين والمنظمات الحقوقية تفاصيلها الموثقة لرئاسة المحكمة ولأجهزتها الادارية، وحذروا فيها من اتساع الظاهرة وضرورة تصدي القضاة لها وعدم السكوت عليها، “فسقوط الدولة في أيادي الشعب وكتائبه الحديدية” بات أقرب من غفوة.

وفعلا، لقد زحفت كتائب “الشعب” يوم الثلاثاء الفائت مستعدة للانقضاض على القضاة، الا ان القضاة نجحوا بعد جهد باخراجهم من القاعة، فاستمروا بالصراخ خارجها وحاصروا ثلاثة من رؤساء أجهزة المخابرات العامة والموساد السابقين الذين حضروا كمعارضين لقرار اقالة زميلهم رونين بار، واخرجوا من القاعة أسوة بجميع من اخرج، فحاصرتهم الجموع ونجوا من أي أذى بحماية حرس المحكمة.

لا يمكن أن يتنصل القاضي عميت وزملاؤه الحاليون والسابقون من مسؤوليتهم عما حصل ويحصل داخل المجتمع الاسرائيلي وانزلاقه نحو هاوية الفاشية وتسعير نيرانها التي وصلت أحراجهم. لقد نوّهتُ وبعض زملائي أمامهم وحذّرنا من تواطئهم مع ما يجري او من غض أنظارهم عنه. وأذكر أن رسالتي المفتوحة الأولى كتبتها لرئيسة المحكمة العليا السابقة دوريت بينش في العام 2010 وفيها حذرت من سياسة مراضاة القوى اليمينية ومن التغاضي عن ممارسات الجيش وسوائب المستوطنين، وقلت “للحقيقة أنكم ضعفاء وتخافون. وانكم تمارسون مسلسل “قطف الرأس” بهرولة أمام ذلك الدب الذي يركض وراءكم ولن يكف. الحقيقة سيدتي أن جهازا قضائيا يحتمي بحراس يرافقونه حتى أبواب غرف النوم، لن يقوَ على ظالم وعلى قاتل مهما برر ودافع. والحقيقة هي أن جهازا قضائيا لا يميز بين الضحية وبين قاتلها لن يحمي حتى جلده مهما انحنى امام القاتل وطأطأ رأسه” وحكيت لها حكاية قصة ” أُكلت يوم أكل الثور الأبيض” كحكمة تعلّمتها الضحية وتنقلها لضحية المستقبل .

توالت رسائلي المفتوحة للقضاة فكتبت في عام 2021 للقاضي يتسحاك عميت رسالة أحلته فيها الى تاريخ ظلم محكمتهم بحقنا وأننا “نحن، المواطنين العرب في اسرائيل، نرى أن المعركة الجارية على عتبات محكمتكم هي آخر المعارك التي تخوضها “قطعان الهضاب” وزعماؤهم وحلفاؤهم من غلاة المتطرفين ضد مؤسسات “الدولة البنغورنية”. هذا ما حاولت أن أنبهكم اليه ومن خطورة كونكم أحد الأحصنة التي تجر عرباتها نحو الهاوية. لقد أعرضتم وكنتم مزهوين بانتصاراتكم على الفلسطينيين، أعدائكم الواضحين، ونظرتم الينا بتشاوف السيد وكثلة من المشاغبين ولم تقتنعوا بأننا ضحايا الحاضر الراهن وقد يكون من بينكم بعض الضحايا اللاحقين”.

لقد كتبت، لكنهم كانوا صما وبكما لا يتغيرون؛ ومرت الأيام وجاء دورهم، عميت ورفاقه، ليروا “الوحش” وهو يهمّ للانقضاض عليهم وهم عن رده صاغرون، هذا اذا افترضنا ان بعضهم راغبون بصده.

شاهدتهم يوم الثلاثاء الفائت يحاولون التقاط آخر أنفاسهم لكنهم يعرفون في قرارات انفسهم أن حكايتهم قد انتهت وأن التاريخ يسير على مراكبهم الى الوراء وأن دولتهم قد سقطت. شاهدتهم ورآيتهم يراوغون ويتذاكون كآخر الخراف، كسبا للوقت أو لحدوث المعجزة، وهي لن تأتي، لانهم قد أكلوا يوم أطعمونا، مثل الثور الأبيض اياه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة