في قبضة القصيدة الأولى: ذاكرة النص الأول بعيون متجددة:
عبده حقي
تاريخ النشر: 13/04/25 | 8:53
عبثًا نحاول أن نحدد اللحظة الدقيقة التي تتسلل فيها الكتابة إلى كياننا، أو حين نمسك نحن بها خلسةً كما يمسك الطفل بذبابة بين راحتيه المرتعشتين. تظل الكتابة لغزًا أشبه بنداء داخلي لا نعرف من أين يجيء، كما لو كانت مرآة نحدق فيها فنرى وجوهنا لأول مرة. تلك اللحظة المفصلية، حين يتحول الفراغ إلى كلمات، والحيرة إلى إيقاع، هي التي حاول الكاتب عبده حقي أن يلتقطها من ذاك الصباح البعيد من صيف 1976، حيث اتخذ أول خطوة خجولة في حديقة الشعر.
لم تكن الكتابة في تصور حقي مجرد حرفة أو مهارة تُكتسب، بل كانت أشبه بشَرَك جميل، نُسج له منذ البداية بإتقان. لا برقٌ ولا مطرٌ ولا بحرٌ ألقى به في لجته، بل شيء أكثر غموضًا، قدرٌ خفيٌّ يُستدرج له الكُتاب، أو لعلهم هم من يركضون إليه بلا وعي. إنها تجربة لا تُمنح إلا في عزلة فكرية، في خلوة روحية، أو في أرقٍ طويل لا تسكّنه إلا قافية مترددة تبحث عن نفسها.
من بين ذكرياته الأولى، كان لصوت أم كلثوم وظلال الأغاني الطويلة في بيت عائلته أثرٌ لا يمحى، كما لو كانت تلك الأغاني تُلقنه موسيقى اللغة، قبل أن يلتقطه صديقٌ شاعر، ويهديه سر لعبة العروض، كمن يضع بين يدي طفل خريطة لا يعرف بعدُ إلى أين تقوده. ثم جاء كتاب الفراهيدي، وأعمال نزار قباني، لتشكّل الجسر بين التكوين الفطري للذائقة، وبين وعي اللغة كأداة سحرية لإعادة تشكيل العالم.
بدا له الشعر حينها كطاقة كامنة تستعر في داخله منذ الطفولة، وكأن كلماته الأولى كانت تتربص بموعدها المقدر. وفي تلك الليلة القائظة، حين لم يفلح النوم في أن يطفئ جمرة قلقه، جلس ينظم أبياته الأولى، بيتًا بعد بيت، على نسق البحر الطويل، في صمت الغرفة وانغلاق الليل. لم يكن يفكر في النشر، ولا في قرّاء محتملين، بل كان ينصت لوحيٍ داخلي يشبه نوبة صوفية تسكن الجسد فجأة.
حين أذاعت الإذاعة المركزية في العاصمة الرباط قصيدته «همسات اللقاء»، لم يكن ذلك بالنسبة إليه مجرد اعتراف خارجي، بل لحظة ولادة حقيقية، كانت تلك الأصوات الخارجة من المذياع تحمل اسمه، تحمل قصيدته، وتؤسس، عن غير قصد، لعلاقة مع الأدب ستدوم مدى الحياة. وقد رأى في تلك اللحظة الأولى — بكل ما تحمله من ارتباك وفرح وخوف — بداية غواية لن يتمكن من الفكاك منها لاحقًا.
لكن مع النشوة الأولى، بدأت الأسئلة تظهر: هل هو شاعر حقيقي أم عابر؟ هل كانت الكتابة هدية أم لعنة؟ وهل كان سيصبح كاتبًا لو لم تبث قصيدته في تلك الليلة؟ إن الشك يرافق المبدع أكثر من اليقين، وإن ما يُكتب لا يُشفي تمامًا بل يفتح جراحًا جديدة.
واليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، لا يتباهى الكاتب بكثرة إنتاجه التي بلغت تسعة عشر كتابا أولها مجموعة قصصية “حروف الفقدان ” وآخرها رواية “وداعا أرض الرياح والنار” ، بل يفخر بندرتها. لم تكن الشهرة همه، ولا تراكم النصوص، بل صدق التجربة، وحرارة الإحساس، وعمق العلاقة مع الكلمة. في أمةٍ تقرأ «اقرأ» ولا تقرأ فعلًا، يرى أن الألم في الكتابة قد يكون أنبل من أي نجاح زائف، وأن لحظة الإنصات الأولى إلى همسة القصيدة في قلب الأرق، كانت أكثر صدقًا من كل جوائز الأدب والاحتفاءات العارضة.
هكذا، أعاد عبده حقي رسم صورة الكاتب لا كمصنّع للنصوص، بل ككائن هش، تسكنه الكلمات مثل أرواح تائهة، تنقله من الظلمة إلى النور، ومن الطفولة إلى اللغة، ومن السكون إلى الغليان… وكأن الكتابة، في النهاية، ليست سوى محاولة يائسة للقبض على معنى الحياة في شكل قصيدة.