لو كان الفساد رجلاً لقتلته!

بقلم : د . ادم عربي

تاريخ النشر: 14/04/25 | 9:23

وعظمة هذا القول لا تكمن في عبارته الظاهرة فحسب، بلْ في ما يحمله من معانٍ ضمنية، أراها تتجلى في تلك الجملة الاستدراكية التي تأتي كتكملة توضيحية: “لكن، فالفقر ليس رجلاً حتى نقتله ، بلْ هو نظام يُنتج الفقر ويعيد إنتاجه باستمرار.”

وكذلك هو “الفساد”؛ نُدينُه ونلعنه بلا انقطاع، ونخوض معاركه أحياناً عبر “حملات”، تتصدّرها في الغالب المبادرات الحكومية لمكافحته، وأحياناَ أخرى نواجهه وكأننا نؤدي طقوساً أشبه بالصلوات. فكلما ازداد شعورنا بالعجز أمامه، تعاظم إيماننا بالمعجزات، فرفعنا أكف الدعاء ضده، وضد كل من يقتاتون على أكل السُّحْت، أي ما كان من الكسب خبيثاً وقبيحاً، وما يجلب العار، كالرشوة وأشباهها.

الفساد ليس شخصاً بعينه… ليس وزيراً ولا نائباً يمكننا القضاء عليه بمجرد قتله ، فالتعامل مع البعوض بقتل كلّ بعوضة على حدة لا ينفع ما لم نُقدِم في الوقت نفسه على تجفيف المستنقع الذي يُنتجه. بلْ أجدني قادراً على الدفاع عن كلّ فاسد من بين الوزراء والنواب، قائلاً إنه لم يُخلق فاسداً، بلْ صار كذلك أوْ صار فاسداً بفعل ما حوله. لذا، وجّهوا أنظاركم نحو الفساد باعتباره نظاماً، ومؤسسة قائمة، وأسلوب حياة وطريقة تفكير.

عندما نظر برودون في مسألة الثراء والأثرياء، لم يغُص في أعماق التحليل إلّا بالقدر الذي قاده إلى استنتاج سطحي مفاده أنَّ “الملكية الخاصة ” ما هي إلَّا سرقة . في المقابل، جاء ماركس، فتعمّق وتوسّع في النظر، ليصل إلى خلاصة مختلفة؛ إذ رأى أنَّ الملكية الخاصة ليست السرقة بحد ذاتها، بلْ هي الأداة أو الوسيلة التي تُرتكب من خلالها السرقة بمعناها الأعمق والأبعد من المفهوم الشائع واليومي.

والفساد، حين ننظر إليه كنظام، يتمثّل أولاً وقبل كلّ شيء في كونه وسيلة أو أداة تتيح لهذا المسؤول أو ذاك، ممّن يشغلون مناصب عامة أو وظائف حكومية، أنْ يسرقوا المال العام، وينهبوه، ويأكلوا السُّحت، ثمّ ينضموا إلى “طبقة حديثي النعمة” التي يكاد لا يُضاهِيها أحد في رداءة الخِلقة والخُلُق. والأسوأ ، مما لا يقل خطورة ، هو أنَّ هذا الفاسد غالباً ما يعيش في مأمن من الأدلة القضائية، كأنما يقيم في قلب “ثقب أسود” لا تنفلت منه أي معلومة، ولا يطال جاذبيته شيء.

ومع ذلك، لا مانع (بلْ من الواجب) أنْ تُوجِّه الحكومة ضربتها، وبقبضة من حديد، لهذا الفاسد أو ذاك . لكن ليس انطلاقاً من تطبيق فعلي لقانون “مكافحة الفساد”، بلْ استناداً إلى ذلك القانون غير المعلن، القديم قدم الجريمة ذاتها، والذي تُعاقَب فيه السرقة لا لأنها وقعت، بلْ لأنَّ مرتكبها فشل في تنفيذ “جريمة متقنة”، أي لأنه كُشف أمره وانفضح.

في نظام يُنتج الفساد ويعيد إنتاجه، ويمنحه طابعاً مؤسسياً، لا يُحاسب الفاسد على جرائمه التي يعرف بها جيداً أولئك الذين يسمّون أنفسهم “محاربي الفساد” من داخل الحكومة. بلْ إنَّ العقاب، إنْ وقع، فهو نتيجة لفشله في إخفاء الأدلة عن أعين الرأي العام ، وعن أنظار من يُشكّلون هذا الرأي، أي “السلطة الرابعة”، التي يبدو أنها في بلادنا اتخذت شعار “القردة الثلاثة” لا ترى، لا تسمع، لا تتكلم!

كم هي كثيرة جرائم الفساد إذا ما بدأنا نعدّها، لكنها تصبح نادرة حين ننظر في سجلّات القضاء والمحاكم . فالفساد، وقد ترسّخ وانتشر حتى صار هو القاعدة لا الاستثناء، بلغ ذروته من حيث القوة والنفوذ، حين أحكم سيطرته إلى حد إخفاء الأدلة على جرائمه في حصون منيعة، لا تصل إليها أعين الرأي العام ولا رقابة “السلطة الرابعة”. ومع أنَّ المواطنين والصحافة يرون تلك الجرائم بوضوح لا يقل عن وضوح النهار، فإن مطالبتهم بتقديم أدلة عليها تُشبه ، من حيث العبثية ، مطالبتهم بإثبات وجود النهار ذاته !

لقد جرّبنا ما يُسمى بـدولة القانون ، وعرفناها عن قرب؛ فـالمعلومات التي تحتفظ بها الدولة، والتي لا شكّ أنها تحتوي على كلّ الأدلة والإثباتات الكفيلة بإدانة جرائم الفساد، تبقى حبيسة الأدراج، ممنوعة من الوصول إلى أعين وأذان المواطنين والصحافة. ثم لا يترددون في مواجهة هؤلاء “المتَّهِمين” من الناس والإعلام بقولهم: “قدّموا دليلكم إن كنتم صادقين”، وكأنهم ينسون ، أو يتجاهلون ، أنَّ “دولة القانون” لا تُجرِّم أحداً دون أدلة ووثائق… وهم أنفسهم من يحتكر تلك الأدلة ويمنع ظهورها!

ويا ويل الصحافي إنْ أصرّ ومضى في طريقه، وكتب ونشر مدفوعاً بـ”قانون اليأس”… ذاك القانون الذي يقول: “إنْ سكتَّ، مُتَّ، وإنْ تكلّمت، مُتَّ، فَقُلها ومت”.
ويل له، فقد شهد بنفسه ما يعانيه المجتمع من جرائم الفساد؛ ولكنَّه اتَّهم دون أنْ يملك الأدلة أو الإثباتات أو الوثائق اللازمة. فوقع في فخ الاتهام بجريمة يُفزِع سماعها، وأصبح جديراً بأقسى العقوبات بسببها!
بدلاً من ذلك، عليه أنْ يؤمن بمعجزة مفادها أنَّ الراتب الوزاري أو النيابي هو وحده المال الذي، بمجرد أنْ تمسكه يد مباركة ، يتكاثرويتوالد ويزداد حتى تتحول “الملاليم” منه إلى “ملايين”!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة