كُتاباً على شكل تُجار!

بقلم : د . ادم عربي

تاريخ النشر: 17/04/25 | 20:46

هل من المقبول أنْ يتناقض الإنسان مع ذاته من أجل الربح؟ وهل يمكن أنْ يصبح السوق هو المعيار الوحيد للسلوك، حتى لو تعارض مع القيم والمعتقدات الشخصية؟ هذه الأسئلة لم تأت من فراغ، بلْ طرحها كارل ماركس نفسه في مؤلفه الأشهر “رأس المال”، حين أشار بذكاء إلى سلوك أرباب العمل الذين يتاجرون ببضائع تتنافى كلياً مع قناعاتهم الدينية والأخلاقية.
تاجر يبيع السجائر بينما يمنع أولاده من الاقتراب منها، وآخر يروّج لمنتجات تحرمها ديانته دون أنْ يرف له جفن. هل نسمي هذا “براعة في التجارة” أم “انهزاماً أخلاقياً” أمام إغراء السوق؟.

الجدل هنا ليس حول الربح بحد ذاته، بلْ حول آلية تبريره. لقد بات طبيعياً، بلْ ومقبولاً اجتماعياً، أنْ ينفصل السلوك الاقتصادي عن الضمير الشخصي، تحت ذريعة أنَّ “الضرورة لها أحكام”، وأنَّ من لا يجاري السوق سيفترسه المنافسون ،إنَّه منطق قاسٍ، ولكنه واقعي ، ومع هذا الواقع، بدأت العدوى تتسلل إلى حقل الفكر أيضاً، فصرنا نشهد كُتاباً ومفكرين لا يختلفون كثيراً عن أولئك التجار، ينتجون أفكاراً لا يؤمنون بها، فقط لأنها “مطلوبة” في السوق الثقافي والسياسي، فما الفرق إذن بين بائع سلعة مادية وبائع فكرة؟

كان في الماضي من أهل الفكر مَنْ يبدأ بحثه بأطروحة محددة، فإذا قادته الموضوعية إلى عكس ما كان يرجو، قبل النتيجة بشجاعة وأعلن انحيازه إليها. اليوم، اختفى هذا النموذج النبيل، وحل محله كاتب لا يسأل نفسه: “ما الحقيقة؟”، بلْ يسأل: “هل سيروق هذا الكلام لهذا المسؤول؟ هل ستعجب هذه الفكرة تلك الجهة؟”. وهكذا، يكتب وكأنه آلة مبرمجة، بلا شعور أو مبدأ، مستنسخاً فكر الآخرين لإرضاء أصحاب السلطة أو التأثير.

قد يقول قائل: أليس من حق الكاتب أنْ ينتمي سياسياً؟ نعم، بلْ من واجبه أنْ يفعل إذا كان انتماؤه نابعاً من قناعاته. لكن، أنْ يتحول إلى سلعة سياسية، يتنقل من ولاء إلى آخر بحسب المردود، فهنا مكمن الفساد، إنَّنا لا نتحدث عن الانتماء، بلْ عن الاتجار به.

ولعل الأسوأ من هؤلاء هم أولئك الذين لا يملكون من “المؤهلات” سوى قدرتهم على التزلف والنفاق ، فأحدهم لا يتردد في مدح رئيسه بوصفه الأجمل والأكفأ، ثم يخرج من مكتبه ليتحدث عنه باحتقار، هذا النموذج منتشر، لا في القاع فقط، بلْ على طول السلم الإداري والاجتماعي، يروج لنفسه عبر نفي الآخرين، ويتسلق بإذلال الذات.

ولا عجب إنْ ظهرت في مثل هذه الأجواء ظاهرة “بواب العمارة” الذي يتصرف كأنه مالكها، لأنَّ في بيئتنا مَنْ لا يرى الإنسان ككائن له قيمة ذاتية، بل كوسيلة، كسلعة، بلْ أرخص سلعة في السوق ، وفي مجتمع يُختزل فيه الإنسان إلى “وظيفة” أو “مصلحة”، من الطبيعي أنْ تتحول الكلمة إلى سلعة بدورها، تباع وتشترى، وينخفض سعرها كلما زاد عرضها وقلّ الطلب.

وما النتيجة؟ لا تسأل أين الكتّاب والمفكرون في لحظات الأزمات، فقد اعتادوا الجوع إلى حد الموت. وإنْ أردت دليلاً، فانظر إلى صحفنا، التي لو أغلقت جميعها واستُبدلت بصحيفة واحدة تنشر الإعلانات والوفيات، لما شعر أحد بفراغها. هل الذنب ذنب القراء؟ لا، بلْ ذنب صحافة عزلت نفسها عن المجتمع، لم تفهمه، ولم تعد قادرة على خدمته حتى لو فهمته.
وهكذا، لا عجب أنْ ينهار الفكر حين يُعامل كالبضاعة، ولا غرابة في أنْ نضيع وسط هذا الضجيج الذي يصمّ الآذان ولا يُغني العقول. فهل ما زال بيننا من يسأل: لماذا صمت المفكرون؟ أم أننا نفضّل الصمت لأن الجواب أشد إيلاماً من السؤال؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة