ظاهرة الموت…
تاريخ النشر: 11/12/11 | 5:35لماذا يستند كل شيء إلى الموت؟ فحياة الأحياء مثلاً تستند إلى موت النباتات، وحياة الإنسان تستند إلى موت الحيوانات……
ان من صفات الخالق الذي بيده كل شيء خلق أجمل الموجودات من أبسط الأشياء وأدناها مرتبة، وقيامه بتجديد مستمر لكل الأشياء دون إسراف وتوجيهها نحو التكامل؛ لذا فهناك في جميع أنحاء هذا الوجود شروق بعد كل غروب، تماماً مثلما يتعاقب الليل والنهار في دنيانا هذه. فالضوء يترك مكانه للظلام، والظلام يترك مكانه للضوء، وهكذا يتم الحصول على ثمرات جديدة ونضرة ضمن هذا النظام الذي يدهش الألباب، مثل علاقة الشمس بكرتنا الأرضية ومجيء الحياة في أثر الموت.
والآن لنتأمل قليلاً هذه الأمور، ولكن علينا قبل كل شيء أن نتعرف على الموت. ليس الموت النهاية الطبيعية للأشياء ولا انقراضاً أو فناء ولا عدماً أبديًّا، بل هو تغيير مكان، وتغيير حال، وتغيير أبعاد وإجازة وانتهاء من أعباء وظيفة والوصول إلى الراحة وإلى الرحمة؛ بل هو -من بعض الوجوه- رجوع كل شيء إلى أصله وجوهره وحقيقته. لذا فالموت جذاب جاذبية الحياة، ومفرح فرح الوصال مع الأحباب والأصدقاء، وهو نعمة كبيرة لأنه يوصل إلى الحياة الخالدة.
لذا فالماديون الذين لم يروا هذه الحقيقة للموت قاموا على الدوام بتصويره تصويراً مفزعاً ونظموا حوله قصائد الرثاء المحزنة، واستمرت حال هؤلاء البؤساء الذين لم يدركوا حقيقة الموت على هذا النمط منذ الأمس البعيد حتى الآن.
صحيح أن الموت لكونه فراقاً يعد حادثة مؤثرة ومحزنة في نظر العقل وفي مستوى إنسانية الإنسان. لذا فكما لا يمكن إنكار التأثير أو الأثر للموت، كذلك لا يمكن إسكات صوت القلب. ولاسيما لدى الأشخاص من ذوي القلوب الرقيقة والأرواح الحساسة. فالموت يحدث عند هؤلاء -وإن كان بشكل مؤقّت- عواصف مدهشة، لذا فإن عقيدة البعث بعد الموت بالنسبة لهؤلاء يشبه إهداء منصب سلطنة لمتسول فقير، أو إهداء حياة خالدة لمحكوم عليه معاقب بالإعدام، أي أن هذه العقيدة تستطيع مسح كل آثار حزن هؤلاء، وإهداء السعادة الكبرى لهم.
لذا فالموت عند من أدرك حقيقته ليس إلاّ ترخيصاً وتبديل مكان وسياحة إلى عالم يلقى فيه تسعة وتسعين بالمئة من أصدقائه وأحبائه، بينما يبدو هذا الموت لمن لم يدرك حقيقته واقتصر على مشاهدة وجهه الظاهري المخيف.. الموت عند هؤلاء جلاّد ومشنقة، وبئر دون قاع، ودهليز مُظلم.
أما الذين يعدون الموت بداية لوجود أبدي كلما هبّ نسيم الموت عليهم بَانَ وظهر ربيع الجنة أمام ناظرهم. أما إن خطر خاطر الموت على بال الملحد المحروم من جمال هذه العقيدة فإنه يرتاع منه ارتياع من قذف في جهنم. وقد يهون هذا الألم بعض الشيء لو كان الموضوع مقتصراً عليه، ولكنه يضيف إلى ألمه ألم كل من يفرح لفرحه ويتألم لألمه ويحمل هذه الآلام كلها في روحه. الإنسان المؤمن يرى في موت كل شيء رخصة وإجازة من مشاق الدنيا وآلامها ودوام وجود هذه الأشياء بهوّيّتها المثالية وماهيتها العلمية في عوالم أخرى واكتسابها ماهية أسمى وأرقى.
أجل! إن الموت ما هو إلا تفتّح بُرعم على الوجود الأبدي، وليس إلا ترخيصاً من مشقات الحياة الدنيوية. لذا فهو يعد نعمة كبرى وهدية إلهية ثمينة. وبما أن كل كمال وترقٍّ، وبعبارة أخرى كل نعمة وصلة مرتبطة بالمرور من بعض أجهزة التصفية والتنقية ومن بعض الأوعية التي تعطيها شكلاً خاصًّا، كذلك فإن جميع الموجودات تتسلق نحو الأعالي بهذه الطرق من الإذابة والتصفية. مثلاً معدن الذهب وجوهر الحديد لا يصلان إلى مستوى هويتهما الحقيقية إلاّ بعد إذابتهما، أي بعد مرورهما بنوع من الموت، وإلاّ فإنهما إن لم يمرا بهذه العملية فإنهما يظهران بمظهر التراب والحجر، أي بمظهر مخالف لحقيقتهما ولهويتهما.
وعندما نقيس الأشياء الأخرى بالذهب والحديد نرى أن لكل شيء نقطة غروب ونقطة ذوبان ونفاد ومظهر يوحي بالعدم والفناء، ولكنه في الحقيقة ليس إلاّ انتقالاً إلى حال أعلى وأسمى.
عندما يهرع كل شيء بكل شوق إلى الموت اعتباراً من جزيئات الهواء إلى ذرات الماء إلى جزيئات الأعشاب والأشجار إلى خلايا الأحياء، فإنما يهرع في الحقيقة إلى الكمال المقدَّر له. فعندما يتحد الأوكسجين مع الهيدروجين فإنهما يفقدان خصائصهما الأولية السابقة، أي يموتان ولكنهما يكونان ألزم شيء للحياة وهو الماء، أي يُبعثان من جديد في مستوى أرقى.
لذا فإننا نطلق على الغياب وعلى تغيير المكان وتغيير الحال اسم “الموت”، ولكننا لا نقول عنه إنه انقراض وعدم. وكيف نستطيع قول هذا وكل حادثة جارية في الكون اعتباراً من أصغر الجزيئات الذرية إلى أكبر الأجرام السماوية، وكل تحوّل وانصهار وتشتت متوجه للأحسن وللأجمل. كل ما يمكننا القول هنا هو أن الموجودات في سياحة وفي نـزهة، ولا نستطيع القول أبداً بأنها سائرة نحو العدم.
ومن زاوية أخرى يعد الموت -لدى مالك الملك جل جلاله- تغيير نوبة الوظيفة، فكل موجود مكلف بوظيفة استعراض خاص به أمام خالقه الذي أوجده. وعندما تنتهي مراسيم الاستعراض بالنسبة إليه، عليه أن يذهب ويخلي مكانه لغيره لكي تتم الحيلولة دون سير الأمور على وتيرة واحدة في مسرح الاستعراض هذا، وإكسابه حيوية ونشاطاً بكادر جيد وجديد. وهكذا تظهر الموجودات على مسرح الحياة وتلعب دورها وتلقي ما يجب إلقاءه من كلمات ثم تختفي خلف الستارة، لكي يتسنى للآخرين أيضا فرصة الظهور للعب أدوارهم ولإسماع أصواتهم. أجل “من أتى سيذهب، ومن حلّ سيرحل”. وهكذا يتم التجديد وتتحقق الحيوية والنشاط في خضم هذا المجيء والرحيل والشروق والغروب.
والموت -من زاوية أخرى- يتضمن نصيحة صامتة بليغة وهي: إن أي موجود لا يكون قائماً بذاته -بل إن كل شيء- يشير (مثل المصابيح التي تتعاقب فيها الإضاءة والانطفاء إلى الشمس الأبدية التي لا تنطفئ) إلى طريق الاطمئنان والسعادة للقلوب التي تئن من خشية الزوال والفناء، أي أن تلتفت إلى ورائها. عند ذلك يتحرك في قلوبنا شعور بالبحث عن حبيب لا يزول ولا يغرب. ونبض هذا الشعور في قلوبنا هو المرحلة الأولى للوصول إلى الأبدية في عالم مشاعرنا وأحاسيسنا وعواطفنا. وهكذا فالموت بمثابة “مِصعد” سرّيّ يرفع الإنسان ويسمو به إلى هذه المرحلة الأولى.
لذا فبدلاً من النظر إلى الموت كسَيْف يقطع الموجودات ويرميها إلى الفناء وإلى الزوال فمن الأفضل النظر إليه كيَدٍ تعالج وتلقح وتعمل عملية جراحية. بل إن النظر إلى الفناء والزوال كشيء ذاتي نظرة خاطئة وناقصة من بعض الوجوه، ذلك لأنه لا يوجد عدم مطلق، بل إن كل شيء يغيب عن الدائرة الضيقة لنظرنا ومشاهدتنا، ولكنه يديم وجوده بهويته المثالية والعلمية في ذاكرتنا وفي اللوح المحفوظ وفي دائرة العلم الواسع المحيط بكل شيء، وفي شتى الأبعاد وفي عوالم ما وراء هذه الأبعاد. فكأن كل شيء بذرة تتحلل ثم تتفتح زهرة، ثم تذْبل ولكنها تديم وجودها وجوهرها في آلاف السنابل والبراعم. والآن لنرجع إلى السؤال من زاوية أخرى:
ماذا كان يحدث لو أن كل شيء استند إلى الحياة بدلا من استناده إلى الموت، أي لو لم يتّجه كل شيء إلى الفناء وإلى الزوال واستمرت الموجودات متماوجة في بحر الوجود، وكانت الموجودات تعمل من جانب واحد.. ماذا كان يحدث آنذاك؟ إضافة إلى أن الأمور السابقة المذكورة تكفي للاقتناع بأن الموت أثر من آثار الرحمة والحكمة. نستطيع القول بأنه في مقابل استناد الموت إلى الرحمة فإن الخلود الشامل وعدم الموت الشامل والساري في جميع مناحي الحياة يعد مصيبة مفزعة وعبثاً بحيث لو أمكن تصويره حق التصوير وتصوره حق التصور لبكى الناس بحرقة لا للموت ولكن لمثل عدم الموت هذا.
فكّروا لحظة… وتصوروا أنه ما من شيء يموت… في هذه الحالة لا يستطيع الإنسان وحده -حتى في العصور الأولى- بل لا تستطيع حتى ذبابة واحدة العثور على مكان للعيش. فمن الأحياء يكفي النمل والنباتات المتسلقات أن تسيطر على العالم بأسره في ظرف عصر واحد فقط، إن لم يتعرضا للموت والتحلل، فلا يبقى شبر واحد فارغ على سطح الكرة الأرضية، ولَبَلغ ارتفاع سمك النمل والمتسلقات مئات الأمتار فوق سطح الأرض. لذا فعندما تتخيل مثل هذا المنظر المرعب تدرك آنذاك كيف أن الموت رحمة والتحلل والتعفن رحمة وحكمة.
وهل كنا نستطيع مشاهدة منظر من مناظر الجمال الخلابة التي يحفل بها هذا الكون آنذاك؟ أي نسبة منها وأي جزء من الجمال كنا نستطيع مشاهدته في ظل هذا الاستيلاء الهائل للنمل وللمتسلقات؟ وفي هذه الأرض الحافلة بآثار الصنعة والفن والجمال الرفيع أكان من الممكن مشاهدة هذا الجمال أم مشاهدة ركام النمل والمتسلقات؟ أكان الإنسان الذي خُلق وسُخر له هذا الكون الرائع يستطيع العيش في مثل هذا الوسط القبيح؟ لم يكن هذا باستطاعته، بل لم يكن بقدرة أدنى المخلوقات وأحطّها شأناً سوى الهرب من هذه المزبلة.
من جانب آخر فهناك في إدارة هذا الكون حكمة رائعة لا تجد فيها ذرة واحدة من إسراف وعبَث. فصاحب الحكمة المطلقة يخلق من أحطّ الأشياء أثمنها وأجملها، لذا فلا يمكن التصور بأنه سيسرف في أي شيء، بل سيستعمل أقل البقايا والأنقاض قيمة في أماكن أخرى وسيخلق عوالم جديدة، وسيقوم باستعمال الأرواح التي يرفعها إليه ولاسيما روح الإنسان أفضل استعمال ويخلق مخلوقات جديدة وجيدة منها. وإلا فإن إهمال هذه المخلوقات التي كرّمها والتي سبق وأن كانت مظهراً لتقديره ونعمه وخلقه وإيجاده.. مثل هذا الإهمال والترك لا يناسب حكمته اللانهائية وهو منـزَّه عنه.
لذا نستطيع القول كخلاصة إن أصحاب جميع العقول السليمة والقلوب الشاعرة بالجمال ترى أن جميع الأشياء في مكانها الصحيح من ناحية الترتيب والتنظيم والسَّوق والإدارة إلى درجة تذهل هذه العقول وتلهمها تعابير الجمال والشعر. أي أن جميع الأشياء في تحول دائم من كيفية إلى كيفية أعلى بدءاً من حركة الذرات وتحللها إلى نمو الأعشاب والنباتات، إلى تدفق الأنهار إلى البحار وإلى تبخر المياه وتكوينها السحب والغيوم ثم نـزولها مطراً إلى الأرض… الخ. أي نشاهد أن كل شيء يتحول ويسرع بكل شوق من حال إلى حال أفضل وأسمى.
مرسل من صديق الموقع ” العنقاء” والمقال بقلم: فتح الله كولن