أحمد حسين عاشقُ حيفا الأول

تاريخ النشر: 19/12/11 | 2:23

(لا نستطيع أن نكره حيفا لأنها غادرت ملامحها !!)

لَوْ ذُقْتِ أَحْزاني فَهِمْتِ قَصيدَتي

وَعَرَفْتِ شُغْلي عَنْ سَريركِ بالمُنى

إنك لتحسب الشاعر يكتب شعراً غزلياً حسّياً صرفاً وهو يخاطب الحبيبة على غرار ابن الفارض الذي يكتب شعراً صوفياً وليس غزلاً انسانياً. أما شاعرنا أحمد حسين فهو في ندائه وخطابه يتوجه الى الذات الوطنية الكامنة فيه والمعذبة له، فيرسل أعذب الشعر موسيقى ومضموناً ولوعةً، ويبلغ في ذلك قمم الابداع ممزقاً ذاته فينا جالداً اياها دون هوادة او رحمة. إسمعه وهو يقدّمُ روحه في هذه لقصيدة العذبة المعذبة المعاني المشردة الطقوس، الغريبة عن شعر الشعراء المحليين الذين نعرفهم الذين قيّدت لهم يد الأقدار، بل يد موجهة ، قيّدت لهم الشهرة والانتشار، وحكمت على شاعرنا بالتعتيم:

أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيت أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا

أَسْقيكِ مِنْ شَفَتيَّ شِعْرًا خالِصًا

كَنَبيذِ كَرْمَتِنا وَلَونِ مَسائِنا

لَوْ ذُقْتِِ أَحْزاني فَهِمْتِ قَصيدَتي

وَعَرَفْتِ شُغْلي عَنْ سَريركِ بالمُنى

حَطَّتْ عَصافيرُ الحَنينِ عَلى مَدَىً

لا أَنْتِ فيهِ وَلا الجَليلُ وَلا أَنا

وَالقَلْبُ خَلْفَ العَيْنِ إلاّ أَنَّهُ

رُبّانُ لَهْفَتِنا وَدَرْبُ وُلوعِنا

أَلأَرْضُ أَوْطانٌ وَأَنْتِِ سَفينَةٌ

في بَحْرهِم، وَحَمامَةٌ في بَرِّنا

تَدْنو وَتَبعُدُ لا تَرى غُصْنًا سِوى

أَحْزانِنا، فَتَحُطُّ في أَحْزاننا

إنها قصيدة مقطوعة من شرايين القلب تقطر دماً ولوعةً، ولو أخذتُ في تحليل التشابيه والاستعارات البلاغية لما وسعني الوقت، فهناك عصافير الحنين التي حطّتْ على مدى، وهذا المدى ليس فيه معشوقة الشاعر ولا الجليل، ولا هو نفسه. والأرض أوطانٌ وحبيبة الشاعر سفينة محتجزة في بحرهم، لكنها حمامة حرة في برّنا، وعندما لا تجد غصناً تحط عليه، فإنها تحطُّ في أحزاننا. إن هذا الشعر ليخرج من نفس المشكاة الذي خرج منها شعر راشد حسين الأخ المارد ولكن بعد أن عركته أبعاد المأساة وتعمقت داخله .

” قراءات في ساحة الاعدام “

يقول الشاعر في مطلع هذه القصيدة :

” عادَتْ إلَيَّ حَمامَةُ القَلْبِ الّتي سَقطَتْ مِنَ الشُّبّاكِ بَيْنَ تَتابُعِ الطَّلَقاتِ يَوْمَ اسْتَوْقَفَ الجُنْدُ المَدينَة.

وَأَشارَ لي دَمُها يُوَدِّعُني، فَلَمْ أَحْفِلْ،

لَقَدْ بَلِيَتْ عَليَّ مَعاطِفُ الرَّغَباتِ، لا بَرٌّ يُطاوِعُني إلى حَيْفا وَلا بَحْرٌ يُناوِلُني سَفينَة ”

إن هذا الشعر المصوغ صياغةً ربانيةً بديعة الصنع ، والعائد الى أحمد حسين عودة حمامة قلبه، والتي أشار له دمها كي يودعه فلم يحفل، إن هو الاّ قصة خروجه من حيفا الكرملية التي قضى فيها أجمل أيام طفولته. ومثل هذا الشعر الصادق في تجربته الذاتية يجعل شاعرنا في الخط الأول أمام كل الشعراء الذين اشتهروا اعلامياً على مأدبة السلطان.

إن شعر أحمد حسين هو ذلك الشعر الذي يدخل حافظة محبي الشعر سراعاً كأنه موجة البحر أو ومضة الضوء، فاسمعه معي يقول:

” أَداروني عَلى جُنْدِ العَدُوِّ كَما تُدارُ الكَأْسُ،

لكِنّي احْتَضَنْتُ ثُمالَتي حَتّى سَقَطْتُ عَلى حُدودِ الغَيْمَةِ السَّوْداءِ،

ثُمَّ صَحَوْتُ، ثُمَّ سَقَطْتُ، ثُمَّ صَحَوْتُ في جَسدٍ يُخافتُ في احْتِمالاتِ الوُجودِ،

أُحِسُّ أشْـياءً تُغادرُني عَلى عَجَلٍ،

وَأنّي شارِعٌ في اللَّيلِ لكِنْ أَخْتَفي إنْ مَرَّ بي أَحَدٌ،

وَلَوْلا الحُزْنُ قُلْتُ بِأنّني شَبَحٌ.

– أَلا تَدْري بِأنَّ اللّهَ ذاكِرَةٌ حَزينَة؟ ”

ولا أريد أن أقف عند وصفه الذات الإلهية أنها ذاكرة حزينة، وليس في هذا أي كفر، معاذ الله، إنما هي لغة الشعر من السُّدةِ العلِّية يسوح فيها الشعراء لا يتبعهم الغاوون فهم لا يقرأون.

ويعمل تتابع الأفعال في القصيدة على تحريك التفاعل مع الشاعر:

يقول الناقد رشاد أبو شاور في تقديمه لديوان الشاعر احمد حسين ” قراءات في ساحة الاعدام “:

“كلّما قرأت جديدًا لأحمد حسين أزداد دهشة وإعجابًا وفخرًا؛ دهشة بكل هذا الشعر الذي يتدفّق بغزارة مخصبًا ذاكرتنا، منعشًا أرواحنا، شاحذًا عزائمنا؛ وإعجابًا بشاعرية خصبة تمتح من عمق تراثنا الكنعاني الضارب الجذور في ثرى هذه الأرض العريقة، تراثنا الإنساني الذي جسّده من أبدعوا الأبجدية الأولى ودشّنوا بداية الحضارة الإنسانية، وتوّجوا للحب إلهتنا «عناة» ربّة الحب، والزواج، والخصب و..الحرب. الربّة المتوّجة بحمامة السلام، والتي تحمي سلامها بحربة تترصّد الغزاة الطامعين، وتحرث الأرض لتخصبها من أجل بشر طيّبين هم أسلافنا، أولئك الذين أنجبوا سلالة البحّارة الرائدين، والمزارعين الغارسين التين والزيتون والعنب…”

واسمعه يناجي دمشق مناجاة النبي الذي يستشرف الغيب ، فكأنما هو يخاطبها ويخاطب حاكمها اليوم وليس الأمس ببعيد.

“وَدِمَشْقُ شَمْسٌ لا تُضيءُ وَلا تَغيبْ.

مَقْتولَةُ القَسَماتِ لَمْ يَتْرُكْ لَها الهِجْرِيُّ غَيْرَ حَنينِهِ المَخْلوعِ حينَ هَوَى عَلى عَرْشِ الخِلافَةِ بِاسْمِ مَنْ خَلَعوهُ، يَحْكُمُهُمْ بِإلْيَتِهِ، وَكُرْسِيِّ الغَريبْ،

تَأْتي مَواعيدَ الرِّضاعِ بِدونِ ثَدْيَيْها، وَتَعْبُرُ كَاليََراعَةِ ساحَةَ الجوعِ الـمُقيمِ،

وَتَكْتُمُ الأَفْواهُ لَهْفَتَها وَيَبْتَعِدُ الحَليبْ.

وَدِمَشْقُ نايُ الذِّكْرَياتِ عَلى هُنَيْهاتِ الحَنينِ لِبَيْتِ نائِلَةٍ، وَأَطْلالُ الحَبيبْ.

وَحِكايَةٌ لِلْقَلْبِ تَعْبُرُ في أَغاني السَّيْفِ، إلاّ أَنَّ لي جَسَدًا وَلَيْسَ لَها،

وَيَبْقى الطِّفْلُ مَشْدودًا إلى شَبَحِ الأُمومَةِ كَالصَّليبْ.

وَأُريدُ مِنْها مَوْعِدًا لِقَصيدَتي، وَمَساحةً لأَنامِلي، وَأُريدُ مِنْها ما يُريدُ الجُرْْحُ مِنْ شَبَحِ الطَّبيبْ.”

حيفا وأحمد حسين

قضى احمد حسين طفولته في حيفا الكرملية، وكانت هذه أجمل أيام حياته، تلتها أكثر من ستين سنة من العراك والنضال والتشرد.

يقول الشاعر في ” قراءات في ساحة الاعدام “:

” وَلَدَتْكَ أُمُّكَ حَيْثُ أَنْتَ، وَهذهِ حَيْفا تَنامُ عَلى وَسامَتِها كَلُؤلُؤَةٍ رَماها البَحْرُ بَيْنَ يَدَيْكَ،..”

الوقوف بباب حيفا

وَأغْرَبُ أحْزاني وُقوفي بِبابِها

وَكَالماءِ في الكَأْسِ، انْتِـظاري السَّواقِيا

أَقولُ لَها قُومي مِنَ الـمَوْتِ إنَّني

أمامَكِ، مَصْلوبًا، شَريدًا وَعارِيا

أُغادِرُ بابَ الأرْضِ أحْمِلُ صَرْخَةً

وَشَعْبًا، وَإكْليلاً مِنَ الشَّوْكِ دامِيا

وفي قصيدة نثرية يخاطبها الشاعر بالكرملية:

يا كرمليّة ُ ! أنعمي حزنا ً

سأحزن عن بيوتك ِ

عن شوارعك الجديدة في شوارعك القديمةِ

عن أزقتك التي بقيت ْ،

مساء الخير ايتها العجوز الصامتة

يقول الشاعر في قصيدة : ” قراءآت في ساحة الاعدام”:

لا بَرٌّ يُطاوِعُني إلى حَيْفا وَلا بَحْرٌ يُناوِلُني سَفينَة.

لَنْ يَعْرِفوا حَيْفا إذا رَجَعوا،

فَكَيْفَ يَدُلّهُمْ شِعْري إذا لَمْ يَنْظُروا في مُعْجَم النَّكَباتِ،

حَيْفا إلى اللّهِ أَقْرَبُ في كُُفْرِها مِنْ مَقابِرِ عَمْرٍو عَلى شاطِئِ النِّيلِ، حَيْثُ

تَبولُ الخُرافاتُ في الخُبْزِ وَالماءِ وَفي أَوْجُهِ النّاسِ شَمْعًا،

شَوارِعُ حَيْفا:

سَبَقْتُ إلَيْكِ الحُزْنَ بِالحُزْنِ باكِيًا

وَكَذَّبْتُ أفْراحًا وَصَدَّقْتُ ناعِيا:

سَتَخْرُجُ مِنْ حَيْفا لِأنَّكَ عاشِقٌ

وَتَمْشي عَلى عَصْرٍ مِنَ النّارِ حافِيا

تَزيدُكَ حُبّاً كُلَّما ازْدَدْتَ لَوْعَةً

وَتَذْكُرُها حَتّى وَلَوْ كُنْتَ ناسِيا

تُغادِرُ طِفْلاً ساحَةَ الدّارِ عارِيًا

وَتَرْكُضُ بَيْنَ البَحْرِ وَالبَحْرِ عارِيا

عَذابُكَ أُنْثى لا تُغادِرُ شارِعًا

مِنَ الحُزْنِ إلاّ أنْجَبَ الـمَشْيُ ثانِيا

كَأنَّكَ مَكْتوبٌ عَلى كُلِّ صَيْحَةٍ

وَوَجْهُكَ مَرْسومٌ عَلى الوَقْتِ باكِيا

وُلِدْتُ عَلى التَّقْبيلِ مِنْها فَلَمْ أَكُنْ

سِوَى صَدْرِها العاري وَكانَتْ شِفاهِيا

بَدَأْتُ بِها دَرْبًا مِنَ الحُبِّ، لَيْسَ لي

وَدَرْبًا مِنَ الأحْزانِ، لا يَنْتَهي، لِيا

خَبا نَهْدُها في راحَتي إذْ لَـمَسْتُهُ

وَخَلَّفَتْ نَهْدًا في يَدِ البَحْرِ طافِيا

وَأغْرَبُ أحْزاني وُقوفي بِبابِها

وَكَالماءِ في الكَأْسِ، انْتِـظاري السَّواقِيا

أَقولُ لَها قُومي مِنَ الـمَوْتِ إنَّني

أمامَكِ، مَصْلوبًا، شَريدًا وَعارِيا

أُغادِرُ بابَ الأرْضِ أحْمِلُ صَرْخَةً

وَشَعْبًا، وَإكْليلاً مِنَ الشَّوْكِ دامِيا

وَأجْمَلُ أحْزاني الـمُنى حَيْثُ أنَّني

أعودُ وَلَوْ في مَرْكَبِ النّارِ غازِيا

وَأبْكي بُكاءَ الطِّفْلِ شاهَدَ أُمَّهُ

وَما شاهَدَتْ عَيْنايَ إلاّ بُكائِيا

وَكَمْ سَلَبَتْ كَفِّي دِمَشْقُ مَنازِلاً

وَمِنْ سوريا سَهْلاً، وَلُبْنانَ وادِيا

وَحاوَلْتُ وَجْهًا لَمْ يَرَ الحُزْنُ مِثْلَهُ

فَلَمْ أَرَ في الأَحْلامِ إلاّ دِمائِيا

عَشِقْتُ بَناتِ البَحْرِ يَعْبَثْنَ بِالهـَوى

يُعَرِّينَ ساقًا أوْ يُغازِلْنَ صارِيا

نَـثَرْنَ عَلى الخَوْفِ الـمَواعيدَ، فِتْنَةً

وَنادَيْنَ مِنْ شُرُفاتِهِنَّ الـمَغازِيا

وَأجْمَلُ مِنْ حَيْفا الخَيالُ لَوَ انَّهُ

تَعَلَّمَ مِنْ حَيْفا عَلَيَّ التَّعالِيا

وَأجْمَلُ مِنْ عَكّا الظُّنونُ

تَخَيَّلْتُ في عَكّا ظُنونًا بَواكِيا

وَأتْعَسُ مِنِّي عاشِقٌ فارَقَ الهَوى

وَأخْلَفَ مِنْ حَيْفا وَعَكّا الـمَوانِيا

أنا آخِرُ العُشّاقِ أخْتِمُ لَوْعَتي

فَلَنْ تَسْمَعي صَوْتًا كَصَوْتِيَ ناعِيا

بَكَيْتُ فَلَمْ أحْرِمْ مِنَ الدَّمْعِ شارِعًا

وَيَأتي غَدًا غَيْري فَيَبْكي الضَّواحِيا

‫4 تعليقات

  1. اهلا وسهلا بعودتك وكم يسرني حين اراك تخط هذه الروائع العطريه مع اني ما زلت انتظر وانت تعلم قساوة الانتظار للاخ الكبير الدكتور سامي ادريس لك مني كل الشكر والتقدير

  2. بارك اللـه فيك دكتور سامي ادريس ، واحييك على هذه المقالة الرائعة عن كاتبنا المخضرم احمد حسين ، الذي عانى التغييب والتعتيم زمناً طويلاً .
    دمت قلماً سيالاً وذخراً لحركتنا الادبية والثقافية ، وتحياتي لك .

  3. حياك الباري استاذي الكريم وجمل ايامك بالسعادة والعطاء الخالد..

    مقالة ادبية قيمة..لك كل الاحترام وجزيل الشكر والثناء..

    نخطط في المجلس المحلي كفرقرع لامسية شعرية..لنا الشرف الكبير باستضافتك

    بالمركز الجماهيري بالقرية..اشكرك لو تكرمت علينا بذكر رقم هاتفك النقال..

  4. كل احترام والف تحيه ل د.ادريس وتحيه عطره للاخوان المعقبين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة