حفلٌ تأبينيّ للشاعر الفنان د. سليم مخولي

تاريخ النشر: 20/12/11 | 2:33

آمال عوّاد رضوان

لجنة التأبين في كفرياسيف وخارجها في الجليل؛ المؤلفة من آل مخولي وآل بولس، ومجلس كفرياسيف المحليّ، وجمعيّة الفنانين التشكيليّين العرب “إبداع”، ومنتدى الحوار الثقافيّ في مركز “ترات البادية” عسفيا، والمجلس الرّعويّ للرّوم الأورثوذكس كفرياسيف، أقامت حفلاً تأبينيًّا في ذكرى مرور أربعين يومًا على رحيل الشاعر والفنان المناضل د. سليم مخولي 1938 – 2011، في قاعة المركز الثقافيّ البلديّ في كفرياسيف، باعتباره علَمًا من أعلام كفرياسيف، وذلك بتاريخ 17-12-2011، حيث احتشدَ جمهورٌ غفيرٌ شارك في هذا الاحتفال، وقد تمّ اختيار د. منير توما بتكليفٍ من عائلة الفقيد، ليكون عريفًا لاحتفال التأبين ومُشرفًا ومنسِّقًا لهذا الكتاب التذكاريّ، وقد تضمّن البرنامجُ كلماتٍ وقصائدَ لكلٍّ من السيدات والأسياد الأفاضل:

قدس الأب عطالله مخولي، فضيلة الشيخ نعيم هنو، السيد عوني توما رئيس مجلس كفرياسيف المحليّ، البروفيسور سليمان جبران، الشاعر أحمد الحاج، الأديبة راوية بربارة، الأستاذ جريس إلياس، الشاعر عناد جابر، البروفيسور نعيم شحادة، الشاعر رفائيل بولس، الأستاذ خالد خوري، د. خليل إندراوس، الأستاذ صموئيل سعيد، وكريمة المرحوم المربية نبال مخولي حديد، وابن المرحوم ابراهيم سليم مخولي.

في ختام الحفل التأبينيّ تمّ توزيع كتاب تذكاريّ أنيق لذكرى المرحوم د. سليم مخولي، شمل كلمات التأبين في الكنيسة والمركز الثقافي، وكلمات كتبها أصدقاءُ ومريدو المرحوم، بالإضافة إلى فصل خاصّ بلوحات الفقيد الفنيّة التي رسمها بريشته، وكذلك فصلٌ خاصّ بصور عائليّة واجتماعيّة وثقافيّة تُظهر النشاطات المختلفة في حياة الفقيد.

لقد شمل الحفل التأبينيّ فقراتِ عرض كولاج صور د. سليم مخولي العائلية، وصور تضمنت نشاطاته الاجتماعيّة والأدبيّة والسياسيّة، بالإضافة إلى عزف شجيّ ذي شجن حزين على الكمان والعود للفنان عماد دلال، من مغناة الوطن لد. سليم مخولي، علاوة على ترنيمة قدّمتها الآنسة الفنانة الصاعدة روزان بولس،

وفي ختام الحفل أعلن د. منير توما عن نية “رابطة إبداع” بتنظيم حفل تأبينيّ خاصّ، مع معرض للوحات المرحوم يوم 21-1-2011 في صالة عرض “رابطة إبداع”!

مع توافد الجمهور إلى القاعة التي تطغى عليها رهبة الفقد، أطلّ علينا د. سليم مخولي وقورًا مضيئًا مبتسِمًا من شاشتين معروضتين على المسرح، بكامل هيبته واتزانه المعهودين، وأشعّت عيناه الثاقبتان المُحبّتان لكلّ مَن التقاهُ وعرفه، يُرافقهما صوتُ توأم روحه العريف د. منير توما، يرحب بالحضور ويطلب الوقوف دقيقة صمت إحياءً لذكرى فقيد كفرياسيف ومجتمعنا العربي د. سليم مخولي!

د. منير توما عريفُ حفل التأبين افتتح الحفل قائلا:

أيّها الحفل الكريم مع حفظ الألقاب!

في هذا اليوم وبمناسبة إحياء ذكرى فراق أخينا وصديقنا الطبيب والشاعر الأديب والفنان المرحوم الدكتور سليم مخولي، نمضي في هذه الحياة الهزيلة، حيثُ النهارُ لا حواجب له، وليس للشمسِ أهدابٌ طويلة على حدّ تعبير الشاعر الكبير أدونيس.. نمضي وفي كلماتنا رنينٌ لا صدى له، لأننا نعانقُ جُزرَ الوحدةِ والغُربةِ داخلَ بحر الكونِ، عند مساقط أنهُرٍ أضاعت خريرَ الماء الرّقراق الذي نهلَ وارتوى منه أبو حبيب، فتمثل خدمةً إنسانيةً وإبداعًا وخَلقًا أدبيًّا وفنيًّا راقيًا، أتحفنا به الراحل الأصيل، فكان كريمَ العطاءِ، نبيلَ الأخلاقِ، محمود الصّفاتِ، يستحقُ مِنّا كلَّ إجلالٍ وتكريمٍ وإشادةٍ بمناقبهِ، ممّا حفَّزني إلى نظم قصيدةٍ قصيرةٍ إحتفاءً بذكراهُ العطِرة تحت عنوان “سليم الخصال”، مستهلاً هذا الحفل التأبينيّ بإلقائها أمامَ حضراتكم، مع الترحُّم على روح فقيدنا الغالي.

مضى سليمٌ ذو الخِلالِ لربِّهِ/ فلّلهِ مِن ساعٍ إلى رَبِّهِ حُرِّ/ مضى وهو موفورُ الكمالِ مُحققًا/ لهُ بيننا آمال أصحابهِ الغُرِّ/ مضى ولهُ في كُلِّ نفسٍ صداقةٌ/ رفيقٌ لهُ ذِكراهُ بالقلبِ والصَدْرِ/ كذلكَ كُنّا معه قبلَ رحيلهِ/ نوَقِرّهُ في السِرِّ مِنّا وفي الجَهْرِ/ وما حالُنا إلا أسىً ببعادهِ/ فأمسى الأسى فينا لهُ فاقد الصَبرِ/ إذا ما ذكرناهُ تطيبُ خِصالُهُ/ فنذكرُ مِنْ تفصيلها أجملَ الذِكْرِ/ تُخلِّدُكَ الذكرى لعينيَّ شاعرًا/ تُحمِّلُنا ممّا أطلَّ مِنَ الفِكرِ/ وتَصمتُ حينًا ثمَّ تنسابُ داعيًا/ إلى الجِدِّ تُغري بالفضيلةِ مَنْ تُغري/ رواك الندى مِنْهُ وطيفُكَ لم يَزَلْ/ بذِكراكَ بعدَ الحيِّ مُتَّبِعَ الأمرِ/ فما أنتَ مَيتًا إذ حصادُكَ شاهدٌ/ على مدى العَهدِ حولَ الشِعْرِ في رائعِ النَشرِ/ لَعَلّي بذا أوفي سَماحَكَ حقّهُ/ وإن كان لا يُوفى بشِعْرٍ ولا نَثْرِ

ثمّ تابع العريف قوله:

لم يألُ المرحوم د. سليم مخولي جهدًا في بذل كلّ ما في استطاعته لخدمة كنيسته، ولا ننسى انّه كان رئيسًا للمجلس المليّ الأرثوذكسيّ في كفرياسيف خلال فترة من الفترات المهمّة في حياته الزاخرة بالخدمات الإنسانيّة والاجتماعيّة، فمع الصّلاة والمحبة قدسُ الأب عطالله مخولي راعي طائفة الروم الأرثوذكس في كفرياسيف وقريب المرحوم يدلي بكلمته:

“قم يا الله واحكمْ في الأرض لأنّك ترثُ جميع الأمم”!

ينتصرُ المسيح على الموت، جاعلاً حياتنا ذات مفهوم ومعنى آخريْن بقيامته المجيدة. تعاظمت معركة الحياة والموت بين المسيح والقُوى الأرضيّة في هذا العالم، وكأنّه في هذا الخضمّ يضعف في مراحل كانت تتلاشى أحلام طابع جوهره الإلهيّ، فكان يقوى جاعلاً من الضعف قوّة “لتكن مشيئتك يا رب”، سبق الألم ساعة الموت الناتج عن ضغينةِ وحقدِ وضعفِ قاتليه، لتتأتّى القيامة مغيِّرةً وجه التاريخ ومفهوم الموت.

بالألم قهر الألم وبآدميّته الجديدة بطش آدم الخطيئة التي سبّبت الموت، فليس مبتغى خير يحصل إلاّ بالجهاد والصّبر وطول الأناة.

أيّها الرّاحل.. تركت لنا إرثًا وذخرًا لا يفنى، لأنّ الفِكر لا يموت كالحياة الآتية من الله. لم تبخلْ بإيصال المواهب التي مَنَّ الله عليك بها إلى حيّز الوجود، لتصبح نبراسًا في شتى المجالات، فزِدت الأجنحة ريشًا ولم تترك مجالاً إلاّ وتألقت به، ولم تقم بعمل إلاّ وأبدعت به، فلوّنت السّماء والأرض اللتيْن عشقتهما حتى الثمالة بفكرك المتألق وشِعْرك وأدبك، وأصبحت جسر الأبديّة في فكر كفرياسيف، ورمزًا عظيمًا تُقلّدُه الأجيال وتذكره جيلاً بعد جيل.

واصلت الليل بالنهار عندما كان الليل يوشك على الانتهاء، نافضًا عباءته الحالكة قبل ولادة نهار جديد، كانت قصائدك وفنك يتناغمان بفكرٍ سامٍ لامع في الكلمات، لتصحب القارئ إلى لا حدوديّة المعاني، ليس سرابًا بل إيصال في رحلة أشعارك لجمهور قرائك إلى واحة الأدب والشعر والفن والمعرفة.

في أدبك تستريح نفوس المتعبين. قصائدك باتت مرآة عاشق لبلدهِ وحنينًا من أناس هجروا، ليتحوّل شعرك دعمًا وسندًا لأفكارهم التي ترنو من بعيد إلى الوطن الغالي، شعرك أحيا فيهم بعد اليأس، أحيا فكرًا غير جريح وغير قتيل، ليصبح أملُ العودة قريبًا مهما كان لون هؤلاء العائدين؛ أحمر، أسود، أبيض أو أخضر! يبقى أسير هذه الألوان مهما طال الزمان وبطش الظالم بعشوائيّة، متعاميًا عن جذور حضارة عميقة جذورها في باطن الأرض، أرض هذا الوطن.

حيٌ أنت! مطرٌ لأرض لا تمطر أنت، حنين للأرض والشجر والعشب أنت!

أمل البلاد والوطن كنت وحركة ضياء فلسطين القديمة العنيدة كما رسمتها، متفاعلة نحو الخير والسيادة والاستقلال الحقيقيّ عبر نظامها العلمانيّ الحُرّ، والحافظ لمستقبل ووحدة أبنائهم وحرّيّتهم الفكريّة.

قائمٌ أنت بالمسيح في شيخوخة إبراهيم! في صرخة الأرامل والأيتام! في جوف الحوت بالنبي يونان، وفي عالم الرّوح والأدب والشعر والفن والطبّ أنت قائمٌ وحيٌ أبدًا.

رافقت في هذا الدرب الزاخم زوجةً عكست الشمس محيّاها ليبقى نيّرًا، فهيّأت لك الأجواء لإخراج كلّ عمل لك إلى حيّز النور، وعرينكما قد خلد فيه أشبالٌ قد عَرفوا للبِرّ منذ خُلقوا طعمًا، أسرة ستحيا على ذكراك بالصّلاة ومواصلة الحياة، لتصحو وتغفو أسيرة واحتك ومائك وأصالتك.

مع القدّيسين هناك تسمع الصّوت المشتهى “تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا المُلك المُعدَّ لكم قبل إلقاء العالم”. فليكن ذِكرُكَ مؤبّدًا” ووداعًا يا ابن العمّ.

تمّ تعتيم القاعة لعرض الصور العائلية للمرحوم ترافقها موسيقا كلاسيكيّة مميّزة، تُناغم ماضي العزيز، فيقول د. منير توما:

لقد كان يربط المرحوم سليم علاقات من الودّ والاحترام أيضًا مع جيران كفرياسيف من القرى والبلاد المجاورة، على مختلف الانتماءات والشرائح والأطياف، ومن جولس سعادة القاضي فضيلة الشيخ أبو كامل نعيم هنو قاضي محكمة الاستئناف الدّينيّة الدّرزية يلقي كلمته قائلا:

بسم الله الرحمن الرحيم/ الحمد لله رب العالمين/ والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين

الحكيم الحكيم سليم قضى؟!

يعز عليّ أن أكتب عن الراحل الكريم الإنسان الحكيم وحكيم الإنسان “سليم”، أو أتحدّث عنه بضمير الغائب، وإن فعلت ذلك فهو من باب المَجاز لا الحقيقة، لأنّ أمثاله أحياءٌ وهم أموات، لِما تركه من الأثر الطيّب والسّيرة الحسنة المحمودة، ولِما كان يتميّز به من جليل الصّفات، وبما اكتسبه من علم ومعرفة في مجال الطبّ والحكمة والأدب.

حقًّا المَصاب أليم والخطب جلل والخسارة فادحة، ليس لأهله وذويه وإنّما للمجتمع الإنسانيّ عامّة، غير إنّنا نقف عاجزين أمام مشيئة الله سبحانه وتعالى، راضين مُسلّمين لحُكمهِ وإرادتهِ التي لا مانع لقضاه ولا مَردّ لحكمهِ، يُحيي ويُميت وهو على كلّ شيء قدير، فله ما أعطى وله ما أخذ، متمسّكين مؤمنين بقول الحقّ جلّ وعَلا كما جاء في محكم تنزيلهِ حيث يقول، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

“بسم الله الرحمن الرّحيم “قُل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلاّ ما شاء الله، لكلّ أمّة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخِرون ساعةً ولا يستقدمون”، صدق الله العظيم.

فالحمد لله المستحق لغاية التحميد، المتوحّد في كبريائه من غير تكييف ولا تحديد، حَكم على عباده بالموت فما لأحدٍ عنه محيص ولا محيد، فكم أبكى خليلا بفراق خليله، وكم أيتم وليدًا وشغلهُ ببكائهِ وعويلهِ، هدم بالموت مشيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذا الدار، “لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم الذي لا تأخذه سنّةً ولا نوم، له ما في السّموات والأرض”، “فسبحان الذي بيده كلّ شيء وإليهِ ترجعون”.

كنت قد خبرت المغفور له د. سليم منذ عهد الدّراسة، عندما كنت تلميذًا في مدرستَيْ كفرياسيف الابتدائيّة والثانويّة، وإنّي لم أكن زميله على مقعد الدّراسة، كونه كان يكبرني سنًّا، غير أنّ سمعته وسيرته كانت على لسان الكبير والصّغير من الطلاب، لِما كان يتميّز به من ذكاء وتحصيل ونجاح في العلم والمعرفة، إلى طيب معشرهِ ودماثة خلقهِ وإبائهِ وعزة نفسهِ وكبريائهِ مع تواضع وشهامة.

وخبرته طبيبًا مهنيًّا متمرّسًا في علم الطب الذي تخصص به وأتقنه ولمع به، واشتهر بمهارته بتشخيص الدّاء وتعيين مواقع الدّواء.

خبرته إنسانًا يحمل في نفسه آلام الآخرين وهمومهم، مقتديًا بتعاليم دينه التي وردت في الكتاب المقدّس:

“تخلّصوا من كلّ حقد ونقمة وغضب وصياح وشتيمة وما إلى ذلك من الشرور، وليكن بعضكم لبعض ملاطفًا رحيمًا غافرًا كما غفر الله لكم في المسيح”.. و”لتكن المحبة صادقة. تجنّبوا الشرّ وتمسّكوا بالخير، وأحبّوا بعضكم بعضًا كإخوة”.

هذه القيم والتعاليم آمن بها راحلنا الكريم وجسّدها قولاً وعملاً، وأخرجها من القوّة إلى الفعل، فكنت تراه حنونًا كالشّمس، كريمًا كالأرض، واسعًا كالبحر، كلمته الطيبة الحنونة شفاء، وبسمته العريضة الوديعة دواء، ولمسته الرقيقة اللطيفة تُزيل الهمّ والغَمّ وتخفّف عن مرضاه الألم والمعاناة، وتزيل عنه الكدر والسّقم وتعيد إليه عافيته.

لقد خاطب الناس بالكلمة الطيّبة وعاملهم بالحسنى، فاستمالت قلوبهم إليه، وكثر محبّوه وروّاده والمؤمنون بقدرته وخبرته في شفاء المرضى وتخفيف المعاناة عنهم ومعافاتهم.

آمن بالطبّ رسالة سماويّة لا مهنة ومصدر معيشة فحسب، متخذًا من السّيّد المسيح القدوة الحسنة، ولنا في رسول الله القدوة الحسنة، وقد أثّر ذلك في نفوس مُريديهِ ومرضاه، وانعكس على أحوالهم النفسيّة فهدأت نفوسهم واطمأنت قلوبهم وتحسّنت أحوالهم، وعادت البهجة والآمال تملأ قلوبهم ونفوسهم، والسعادة تغمرهم ومَن حولهم، فكان الراحل طبيب نفوس كما كان طبيب أجسام، فطوبى لمَن خصّهُ الله بمثلِ هذا الفضل العميم من العلم والرّشد والهداية والمواهب العقليّة والإنسانيّة.

وخبرته الأديب والكاتب والشاعر الذي أغنى المكتبات بقصائده ومقالاته في شتى المواضيع الأجتماعيّة والثقافيّة والأدبيّة، فكان يحسّ ويشعر بأحوال الناس والمجتمع، ويترجمها في قصائد ومقالات رائعة نثرًا وشعرًا، قويّة العبارة بعيدة الإشارة مملوءة بالدّفء والموضوعيّة.

فمِن ثمارهم تعرفونهم! كيف لا وقد نشأ وترعرع في بيتٍ كريمٍ أصيل له مكانته الأجتماعيّة والأدبيّة والعلميّة، كشجرة أصلها بعيد عميق في الأرض ورأسها شامخ في السّماء، في تربة طيّبة ترتوي من عين ماء زلال، فأعطت وتعطي أكلها في كلّ حين.

لقد طوى الرّدى طبيبًا حاذقًا ماهرًا، وفي علومهِ متبحّرًا، إنه الإنسان الحكيم وحكيم الإنسان، وقد أجمع كلّ من أبّنهُ يوم وفاتهِ على كونهِ مفخرةً وعَلمًا من أعلام الطبّ، أديبًا وشاعرًا وكاتبًا أصيلاً، وناشطًا اجتماعيًّا ترك بصمات لا تمحوها السّنون في مجتمعه، فقد كان لنعيهِ وقع شديد في نفوس أصدقائه ومعارفه وزملائه، فتهافتوا على قريته كفرياسيف العامرة ذات الفضل العميم على الكثيرين من روّاد العلم والمعرفة طيلة سنين، يُقدّمون واجب التعزية لأهله وذويه، وقد أقيم للراحل الكبير مأتم مهيب يليق بمقامه، شارك فيه رجال دين وشخصيات مرموقة من مختلف الطوائف والديانات في هذه البلاد، ثمّ أودع مقرّه الأخير بين الزفرات والعبرات والأسى والأسف واللوعة والحسرة، وهكذا عادت روحه إلى باريها راضية مرضيّة، “فيا أيّتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة، وادخلي في عبادي وادخلي جنتي”. صدق الله العظيم.

وأخيرًا.. أرفع أحرّ التعازي القلبيّة إلى أهله وذويه، وأخصّ بالذّكر شقيقته المُربّية الفاضلة أم ميخائيل سهام، ولكلّ مَن عرفه من قريب وبعيد.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. والحمد لله رب العالمين في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء.

الله أعطى والله أخذ, فليبق اسمُ الرّبّ ممجَّدًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ومرة أخرى تُعرض صور اجتماعيّة وادبيّة للمرحوم فيقول العريف: لقد كانت كفرياسيف دائمًا في قلب المرحوم فأحبّها وأخلص إليها بكلّ جوارحه شكلاً ومضمونًا، وعبّر عن ذلك من خلال خدمته الطبيّة والعمليّة والإنسانيّة والثقافيّة أدبًا وشعرًا وفنًّا، فالسيّد عوني توما رئيس مجلس كفرياسيف المحلي يقول:

أيّها الحفل الكريم مع حفظ الالقاب!

نجتمع اليوم لإحياء ذكرى الأربعين لرحيل أحد أبناء كفرياسيف الأبرار، وعَلم من أعلامها في ميادين الطبّ والأدب والشعر والفنّ التشكيليّ، حيث فقدنا بغياب المرحوم رجلاً اعطى الكثير من جهده وطاقته لخدمة البلدة والمنطقة، من خلال مهنته كطبيب، بالإضافة إلى أعماله التطوعيّة في مجال إحياء تراث كفرياسيف، وإبراز عراقة هذا الوطن الذي ينتمي إليه، فقد تجسّد ذلك في رسوماته ولوحاته وقصائده وكتاباته الأدبيّة والاجتماعيّة.

لقد جمعت بيني وبينه صداقة ومودة قديمة بكونه جارًا عزيزًا لنا على مدار سنوات طويلة، قبل انتقاله إلى داره الجديدة التي سكن فيها إلى حين وفاته، حيث لمست فيه دائمًا الإنسان الوفيّ الذي امتاز بأخلاقه الكريمة وتواضعه وحُسن طويّته، ولقد تواصلنا بشكل أوسع منذ أن تسلّمت رئاسة مجلس كفرياسيف المحلي، فربطت بيننا علاقات وثيقة وطيدة من خلال النشاط الدؤوب للمرحوم د. أبي حبيب، في جمعيّة الفنانين التشكيليّين العرب “إبداع”، حيث سعى دائمًا للتعاون معنا كمجلس محلّيّ من أجل تقديم الدّعم للجمعيّة، بغية تطوّرها وازدهارها فنيًّا وثقافيًّا واجتماعيّا.

لقد كان المرحوم إنسانًا وفيًّا للشعب والأرض والوطن، وقد عبّر عن نزعته الإنسانيّة والوطنيّة هذه في مختلف أعماله الأدبيّة والفنيّة، علاوة على مواقفه الوطنيّة الشريفة التي تجلت في دوْره ومساهمته في الدفاع عن الأراضي.

وأخيرًا.. فإنّ كفرياسيف لن تنسى المرحوم أبا حبيب صاحب الفكر الثاقب والرّؤى الإنسانيّة السّامية والمواهب العلميّة والأدبيّة والثقافيّة والفنية المتعدّدة، التي تمتّع بها في حياته والتي سيكون لها الأثر الهامّ والمساهمة الكبرى في تخليد ذكراه إلى أبد الدّهر. رحم الله فقيدنا الكبير، ولأسرته وذويه وعموم أهالي بلدتنا أحرّ التعازي، ضارعين إلى المولى عز وجل أن يلهمَهم الصّبر والسّلوان وحُسن العزاء.

ثمّ كان عزفًا منفردًا شجيًّا على الكمان للشابّ الصّاعد سهيل جريس فقال د. منير توما:

للزمالة والصّداقة دوْرٌ كبير بارز في بلورة شخصيّة الإنسان، ولقد كان للمرحوم ذكريات عزيزة وعلاقات متينة مع زملاء صفّه ورفاقه في المدرسة الثانوية والجامعة، ومن هؤلاء الزملاء البروفيسور سليمان جبران من البقيعة، فلنسمعه يقول: شيئا من ذاتي فقدت!

هل الموت حقّ فعلا، كما علّمونا ونردّد، أم هي قولة العاجز لا يعرف متى ينقضّ عليه هذا الذئب الغادر، ولا كيف يغالبه أو يتّقيه؟ ما وجه الحقّ في خروج الشابّ، من بيته في الصّباح، سعيًا وراء رزق عياله، فيعود في المساء محمولاً على الأكتاف، وجاره العجوز المُقعَد، سئم الحياة وسئمته، يطلبُ الموت صباح مساء، فلا يحقّق له الموت مبتغاه؟ هل من الحقّ أيضًا أن يدخل سليم إلى سريره، يستريح في غفوة قصيرة من متاعب القلب والفكر، فتكون غفوته الأخيرة دونما وداع أو تسليم؟ ليس الموت حقّا، إنه حكم بالإعدام جائر، لا قِبل لنا بإلغائه أو إرجائه، فنسمّيه حقّا تطييبًا للجروح، وتعزية للنفوس!

قبل وفاة سليم بأسبوع كان لنا لقاء في حيفا، في أمسية ثقافيّة. سلّمنا وتبادلنا قبل بدء الأمسية حديثًا قصيرا، أهداني بعده نتاجه الأخير؛ مسرحيّة “الزينة”. افترقنا على أمل لقاء آخر قريب، و”زينته” ما زالت على مكتبي تنتظر قراءتها، ليُبلغني جاري بعد أيّام أنّ سليم رحل عنّا؛ فارقنا ولا لقاء بعد. سمعت النبأ الفاجع، فلم تبكِ السّماء، ولم تهتزّ الأفلاك، ولا غابَ القمر في المحاق، لكنّي بفقده فقدت شيئا من ذاتي، شيئًا في داخلي سقط ولن يعود.

سليم صديق صباي، ولا أغلى من الصّبا وأصدقاء الصّبا. وأنا لا أقول إلاّ سليم، عاريًا من الألقاب والكنى، لأننا ما التقينا مرّة منذ أيّام الثانويّة البعيدة حتى أمسية حيفا تلك، إلاّ كان هو سليم وأنا سليمان. سليم صديقُ الدّراسة والصّبا والولدنة؛ لا أعود مرّة إلى تلك الأيام الحلوة الغابرة إلا وتربّع سليم ذاكرتي، ولا التقينا مرّة إلاّ ومثُلت تلك الأيّام بكلّ تفاصيلها نُصبَ عينيّ.

جئت كفرياسيف يافعًا فقيرًا غريبًا، كأني مسافر إلى ما وراء البحار. كفرياسيف اليوم قريبة من البقيعة، لكنّها في أيامنا تلك كانت بعيدة، بعيدة جدّا. والحياة ذاتها كانت أيضا قاسية ناشفة؛ حُكمٌ عسكريّ يقيّد الأسفار والألسنة والأفكار، وضيقٌ في ذات اليد لا نكاد معه نقوى على دفع رسوم المدرسة، أو أجرة الغرفة، أو تكاليف العيش. جئت كفرياسيف غريبًا، لكن لم تمضِ عليّ أيام كثيرة حتّى غدت كفرياسيف لي بلدًا، وأهلها لي أهلا، وبيت حبيب مخولي، أبو سليم، بيتا دافئا مفتوحا في وجهي دائما على مصراعيه. يقولون إنّك لن تعرف الناس حتى تجرّبهم، وأقول إنك لن تعرفهم كما يجب إلاّ إذا دخلت بيوتهم. في أوّل مرّة دخلتُ هذا البيت شعرت كأني في بيتي: أبو سليم بقمبازه وعقاله وقشاطه العريض، كأنما هو أب ثان لي في الغربة، وبيت عريق يعبق برائحة الأرض والوفاء والنقاء.

سنوات أربع قضيناها جادّين حينا، هازلين أحيانا؛ نلهو معا، وندرس معا، وننجح معا. وإذ نتنافس، وفي الصفّ تكون المنافسة أيضا، نتنافس دونما خلاف أو عداء أو ضغينة. مرّت السنوات الأربع تلك سريعا، لتأخذنا الحياة بعدها كلا في طريق: أنا إلى التعليم وسليم الرومانسي الحالم إلى الطبّ بالذات، يداوي جروح الناس وأوجاعهم. إلاّ أنّ خدمة الناس في العيادة ما كانت لتمنع سليم من مواصلة خدمة شعبه بقلمه وبريشته أيضا. كتب القصائد الكثيرة، ورسم اللوحات العديدة، مدفوعًا برغبة واحدة وحيدة؛ خدمة أهله وبلده ووطنه. قبل سنوات أخبرني أنه اعتزل العمل في الطبّ ليكرّس وقته كلّه، وجهوده كلّها، في محراب الأدب والفن. لكنّ الموت، كما ترَوْن، لم يمهله فخطفه من بيننا، بغير وجه حقّ، وهو في أوج عطائه.

عاش سليم حياته كلّها نظيف اليد والقلب واللسان، مستقيما كالشعاع، حتى ليبدو لبعضهم ناشزا في بيئة يغلب عليها الانحراف والزيف. حياته كلّها قضاها في خدمة قريته وشعبه ووطنه، وإذا كان “ذكر الفتى عمره الثاني”، فسليم باق بيننا بذكره الطيّب، بشعره وأدبه ولوحاته، وإن غاب عنا بجسده!

يتابع العريف: لقد عشق المرحوم الأدب والشعر فأجاد وأبدع فيهما، ممّا جعله يحظى بمحبّة وتقدير زملائه من الشعراء المُجيدين المبدعين أمثال ابن كفرياسيف البارّ الشاعر أحمد الحاج الذي يقول: دَمعة وفاء لروح المرحوم الأخ الشاعر الدكتور سليم مخولي:

أنا ماشئت، ولكن/ هكذا القهّار شاء/ أنت ما شئت، ولا/ أعتمت الردى/ خلّاً/ لكن الدّعوة جاءت/هبطت/

حطّت الدعوةُ/ تُزحيها السماء/ كنت مِطواعًا/ فلبّيت النِداء/ تَزحمُ الساعات شوقًا/ للقاء/ تأفكُ النفسَ عنِ

الأهواءِ واللذاتِ/ عن حُبِّ البقاء/ عن متاعٍ زائلٍ/ زيف، هراء/ لا يُلبِّي دعوة البارئ إلاّ/ غارقٌ بالزهدِ/ موفور الحياء/ من يجتبي؟ من يصطفي؟/ من ينزل الأضياف؟/ هل يصطفي بارئ النسمةِ/ إلا الأتقياء؟!

عشت هذا العمر رغدا/ وبلوت العيش خفضا

ما تجرَّعتَ الأسى/ علقمًا يحسُوه/ نارًا/ تحرق الأحشاء/ هكذا ينعمُ، يلهو/ البؤساء/ ما لبست البؤس/ لكن

كلُّ نبضٍ فيك/ يروي قصّةَ القهر/ وذُلّ التعساء/ كيف لا؟!

والنطاسيُّ يجُسُّ/ العرقَ/ يأسو الجُرح/ يُشفي القرحَ/ يشحن الأعراق والآمال/ نبضًا/ يمسح الحزن رفيقا/ يرحض الآلام والأدرانَ/ رحضًا/ يزرعُ البسمة في عيونٍ/ شرقت بالدمعِ/ يمنحً الحبَّ لمحرومٍ/ يكيل العطف والآمال/ محضًا/ يغمس الريشةَ من/ قلب مدمّى، راعفٍ/ همُّه ينبت في الصحراءِ/ روضًا/ صحبَ الناطورَ، يرعاه/رآهُ/ حافظًا للعهدِ، إن أوليتَه، يَعتصي الإيمانَ/ صَلتا/ يدفع الشرَّ/ الذئاب الضاريات/ مَوثقًا أعطاه/ إلى لا يمسُّ العيثُ والعدوانُ/ أرضًا/ ما فقدناكَ، وهل تَعفو/ وهل تُمحى/ خُطىً في الوعي، يخطوها/ الرجال؟!

ما فقدناكَ، وهذي/ تطرقُ الأسماعَ والقلبَ/ وتختالُ القوافي/ تقطعُ الأبعادَ طولاً/ تثني بالزّهوِ/ عَرضًا/ ما فقدناكَ/ وهل تفنى/ أمانيُّ الرجال؟!

حفرتَ في عزمنا/ في دلِّ ربّات الحجال/ هي إرثٌ خالدٌ خلّفته/ أن يختفي من سِفرنا/ أمرٌ محال.

برموش العين، في ركنٍ أمين/ خالدٌ إرثُكَ، مهما/ الليلُ طال/ ما حسبناه، ولم/ يخطر لنا يومًا ببال/ حُبُّنا، حبّكَ/ لم يكن نافلة، أو/ نزوةً عارضةً/ كان دينًا/ كان فرضًا

وقفةٌ تنصُر المظلوم/ تُرجعُ للمغصوبِ/ حقاً/ تهدم الحاجز، تفتح للمَغمومِ/ أُفقًا/ تجمعُ الناسَ على

دربٍ سويٍّ/ في دناه نلتقي/ غربًا وشرقًا/ ليس يفتاتُ قويٌّ/ وحسيرٌ لن يهون/ عالمًا للعدلِ نبني/ فاضلاً/

حقًّا وصدقًا/ بعضنا، ليس يألو جهدَه/ إن لزبت/ يرفدُ بعضا

وابنُ أوسٍ ما به؟!/ دعْه في رقدته/ لاهيًا فيما مضى/ حالمًا فيما سيأتي/ زاهيًا فاخرتهِ/ واثقًا عارضته/ هل يبذُّ السيفُ/ وحيّا في كتاب؟!

مبدعُ الشعر قضى/ والجسم غاب/ بقي الشعر يغنّي/ نفح الزهرُ/ وطاب/ ومضى اللحنُ شروداً/ بعثت روح الشباب/ يا سليم القلب، ارقُدْ/ يا تقيّ الجيب، اربعْ/ صدرُك الواسعُ، للحبِّ/ سيبقى، ولن يحمل بغضًا

سوف، يبقى عبقُ الذِكر/ نديًّا وفتيًّا/ لن يشيخ الذكر/ سوف يبقى في فم الأجيال/ غضًّا

سوف يبقى عبقريًّا/ طيِّب النشر، ذكيًّا/ حسبُنا هذا عزاء/ حسبُك الوجدانُ/ يرضى

ومِن ديرحنا الأبيّة لم ينسَ الشّاعر شفيق حبيب واجبَ تكريم ذكرى المرحوم من خلال الشعر، فنظم قصيدة معبّرة عمّا يجيش في صدره من مشاعر نبيلة فيقول: نــُــوَدِّعـُـــكــُم …

نودِّعـُكمْ واحدًا واحـدًا أيّها الرّاحِلـونْ!!/ ونبقى هـُنـا رَهـْنَ عَصـْف ِالمـَنـونْ/ لماذا تركتـُم نِـضالا ًمريـرا؟؟/ وفِكرًا أسيرا؟؟/ ودمـعًـا هـَتــونْ؟؟/ وأرضًا حـَبـَـتـْكمْ بحُبٍّ جميلٍ/ وعِـشـْقٍ دفيـنْ؟؟/ يعــزُّ علينا فراقُ الألى يمنـَحـونْ/

عـُصاراتِ فـكـرٍ/ وضـوْءَ العيـونْ/ ولكن …/ ستبقى النهاياتُ رمزَ اليقيـنْ …

* * *

لماذا تركتَ رنينَ القـوافي/ وشهـْـدَ الفـُنونْ؟؟/ بكـَتْ “لوحةُ العـيـنِ”/ في كـَفـْرِ ياسيفَ دمعًا سخينْ/ وزيتونةٌ كَبّلتها ضلوعُ الإطارِ/ تقصُّ علينا حديثَ السّـنـيـنْ/ وتروي حكايا../ وبوحَ الـشُّجونْ/ بكتـكَ المَنابـرُ يا شاعري !!

بكـَتـْكَ المعارضُ مِلءَ الجُفــونْ/ ستبقى هـنــا رمزَ عِـشـْقِ النـُّسورِ/ لأعـشـاشِهــا ../ أيُّ نـَـسْـرٍ يهـونْ؟؟ ؟

* * *

نودِّعـُكمْ واحدًا واحـدًا أيّها الـخالِدونْ!!/ ونبقى هـُـنا رَهـْنَ عَصـْفِ الجُـنـونْ/ أعِدّوا لـنا منبـرَ الشــِّعـْرِ في داركـمْ/ فإنّا…./ على صَهْوة ِالشــِّعرِ والمَجْـدِ يا إخوتي! قادمـونْ…/ ليأتِ امرؤُ القيسِ والمتنبّي/ وشـَوقي ودرويـشُ والسّابقونْ/ كسَرْنا السُّـيوفَ/ حَمَلـنا الحـروفَ/ قطفــنا القـطوفَ/ حَمَلـْـنا إليكم نبيذَ الأماني/ كما تحلمـونْ/ وأشواقَ مَن تعشقـونْ/ فأنتم لسـانُ الزمـانِ الذي لا يخونْ/ أعـِدّوا لنا مِنبرَ الشــِّعرِ مِنْ/ أرزِ لبنانَ ../ مِنْ سِنديانِ بلادي يكـونْ…/ أقيموا … !/ أقيموا عُكاظَ القـرونْ/ إذا ما سَكِرْنا بخمرِ القوافي/ ستطـربُ منّـا السّـماءُ/ وتخضَرُّ عَدْن/ وتهتـزُّ خُضرُ الغصـونْ/ فإنَّ القوافي خمـورُ إلهٍ/ تـدورُ بها الحُورُ زهـوًا/ ويشربُها العارفـونْ….

كَرهـْـنا المَـنافي…/ وظُلمَ السّوافي …/ كَرهْـنا التـّشرُّدَ في كلِّ أرضٍ…/ كَرهْـنا السّجونْ ../ وأضحت سياساتـُهم/ مِن ضـُروبِ المُجونْ../ هنيـئًـا .. هنيـئًـا ../ لكلّ الألى يرحلـونْ …/ صُعـودًا… صُمودًا .. ففي أرضِ أجدادِهم يرقـُدونْ …

العريف: كان المرحومُ من مُؤسّسي رابطة الفنانين التشكيليّين العرب “إبداع”، حيث كان فعّالاً جدًّا في نشاطاتها من خلال الإسهام بريشته في إبداع اللوحات الفنيّة الرّائعة، وإثراء الرابطة بخلفيّته الثقافيّة على مختلف الصُّعد، فرابطة “إبداع” بممثّلتها الأديبة راوية جرجورة بربارة تقول:

مساؤكم خيرٌ ببركَةِ مَحبّة القدّيسة بربارة التي نُحيي اليومَ ذكرى إيمانِها، لنَفهمَ رمزَ قمحِها، وتَجدُّدَ الحياةِ بسنابلِ أبنائِها أمثال د. سليم مخولي، الذي لن يموت بوجودِ مُحبّيه.

هو الجسدُ لباسٌ يُعتِقنا عائدًا إلى أصله وذرّاته الترابيّة، لكنّه لا يستطيع أن يواريَ معه روحَنا، فتبقى محلّقةً تَعُدُّ أنفاسَنا وتحرسُها… وها هي روحُكَ، دكتور سليم، سليمةٌ تبثُّ الحياةَ في الذين تركتَهم بَعْدَكَ.

وها هي روحُكَ لوحةٌ شفّافةٌ تُقرّبُ بُعْدَكَ. ها هي كلماتُكَ أوزانٌ ووقعٌ ومعانٍ تُحلّقُ بفكرِكَ على جناح المخيِّلَة، لتبقى معنا ولا تفارق. وتلك ريشتُكَ تطيرُ في مهبّ الإبداع، تملأ الفراغَ الذي تركْتَهُ ألوانًا وخطوطًا.

رغم أنّ الموتَ هو الحقيقةُ السّاطعةُ الوحيدةُ التي لا جدلَ حولها، فهو الحقيقةُ الأكثرُ غموضًا ورفضًا وتجنّبًا، لأنّه بعد الفِـراقِ، على من تبقّى مِن زملائكَ وأحبابك وأهلك وعائلتكَ أن يعتادَ الحياةَ دون بسمتِكَ وإطلالتِكَ وكلامِكَ؛ وعلى الأفراحِ والمناسباتِ والأعيادِ والمعارض الفنيّةِ والمنتدياتِ الأدبيّةِ أن تتعوّد الاحتفالَ دون حضورِكَ جسدًا، لكنّها ستُبقي لكَ في القلب مكانًا ومكانةً، لأنّك الطبيبُ الذي نَذَرَ علْمَه ومعرفتَهُ في سبيلِ إنقاذ حياة الآخرين، والفنانُ الذي بإبداعه أنقذ نفسَه من العدم، ومن اللا وجود، ومن الموت!

بإبداعِكَ تشبّثتَ بقشّة الغريقِ ووصلْتَ برّ العطاء الإنسانيّ الذي لا يَنضُبُ مَعينُه.

بإبداعِكَ عمّرتَ بيوتًا على صخر الحياة، فلا يهزّكَ ترابُ القبرِ مهما جفّ وتناثرَ، لأنّ لوحاتِكَ وكلماتِكَ باقيةٌ قواربَ نجاةٍ تنتشلُ الذكرى مِن بحر المحسوس لتحلّقَ في فضاء التجريد، فأنتَ عرفتَ كيف تُخرجُ الكلماتِ من قلبِكَ لوحاتٍ وصورًا، وكيفَ ترسم اللوحاتِ قصائدَ نورٍ لها وقعٌ وصدًى. عرفْتَ كيفَ تَعثَرُ على ذاتِكَ…

“قربَ موجٍ لجوجٍ، وكنتَ وعيده، وعثرتَ على ذاتكَ مرّةً في غموض الغموض، وكنتَ أكيدَه

وعثرتَ على ذاتِكَ مرّةً في غريب الوجودِ، وصرتَ وجودَه” (ديوان “عثرنا على ذاتنا”، ص. 8-9) .

فكيف يموتُ مَن عثر على ذاتِهِ متحدّيًا النكبةَ والرهبةَ والرغبةَ؟! كيف يموت مَن معَ الناي مشى؟

“معَ النايِ والقلبِ أمشي/ أمشي، كأنّي أسيرٌ، بُنيَّ أقولُ/ أسيرًا، أسيرُ/ وأعلمُ ما لونُ شكلِ النهايةِ

حينَ ابتدأتُ، وأعلمُ / أنّ الزمانَ وعمرَ اللقاءِ قصيرُ/ وهذا المسيرُ يطولُ” (عثرنا على ذاتنا، ص. 10)

كيف يموتُ مَن عَلِمَ لونَ النهايةِ القاتمَ الأسود، وخاطبَ أبناءَهُ بشِعرِهِ وصيّةً لأنّه علِمَ أنّ الزمانَ وعمْرَ اللقاءِ قصير، فتركَ لكم ولنا إرثًا لا تأكله السنون ولا تطاله يدُ المَنون.

لا أرثيكَ، فلا رثاءَ عندي لمَن لم يمتْ. أنتَ لم تمتْ. أنتَ حيٌّ بمَن تركتَ مِن زوجةٍ وأبناءٍ وأحفادٍ وأهلٍ وزملاءَ ومحبّين. أنتَ حيٌّ بما تركتَ مِن فنِّكَ ولوحاتِكَ.

ثمّ كان تعتيم القاعة وعرض لوحات بريشة المرحوم آخرها شجرة زيتون لم تكتمل فيقول العريف:

لقد حافظ المرحوم على علاقات وثيقة مع مدارس البلدة، ودأب على توطيد هذه العلاقات بزيارتها وإلقاء المحاضرات فيها، فتقديرًا لشخص ودوْر المرحوم يقول الأستاذ الفاضل جريس إلياس مدير مدرسة البستان – كفرياسيف في الرّجل الشّهم الأبيّ:

نجم سطع منذ نعومة أظفاره، جبل شمخ منذ مطلع شبابه وتفتقت مواهبه مع إطلالته لهذا العالم، اعترك الحياة وتعبطها في شتى المجالات، خدم بلدته وشعبه بأمانة وإخلاص. بادر إلى الحركات الاجتماعية والثقافية، عمل وجدّ في الكتابة والشعر والفن معبرا عن هموم شعبه وآلامه، معرفا الجيل الصاعد على معالم وثنايا بلدته، ولم يتقوقع في الطب وخدمة المرضى، بل حلّق بخياله وأنامله إلى أبعد الحدود.

عرفته وتعرفت عليه من خلال نشاطاته ومشاركته في الفعاليات المدرسية، فرافقنا كطبيب في أكثر من رحلة، وشاركنا في الاحتفالات المدرسية كشاعر وفنان، وكولي أمر طالب وفقط قبل أسبوعين من وفاته حضر إلى المدرسة برفقة عقيلته دعما للمدرسة وتشجيعا لأحفاده الذين قدموا فقراتهم في الفعاليات الصباحية.

ربطتني بأبي حبيب روابط صداقة ومحبة واحترام، رأيت فيه الأخ الأكبر والقدوة التي يحتدى بها، ورمز الإباء والوفاء. كنت وما زلت معجبا بشخصيته العصامية ونظرته الثاقبة ونظراته الحادة وغيرته على بلدته وأهل وطنه. بفقدانه فقدنا علما من أعلام شعبنا، شاعرا مرهف الإحساس، فنانا واسع الخيال، وإنسانا وهب نفسه للإنسانية. فقدناه جسدا لكن روحه وأعماله وآثاره ستبقى خالدة وستبقيه بيننا وبين الأجيال الصاعدة حيا خالدا. اسأل الله، يا ابا حبيب، ان يسكنك فسيح جناته، فأمثالك يجعلون من الجنة بيتا دافئا وموطنا وارف الظلال ولا يجوز غير ذلك وأنت الذي:

علمتنا الشهامة والإباء/ أكسبتنا الرزانة والعطاء/ أعطيتنا المحبة والاخاء/ ووهبتنا موسوعة للرثاء

أتوجه إلى أم حبيب ، الزميلة عايدة بكلمة عزاء ضارعا إلى الله جلّ جلاله إعطاءها القوة والثبات ، كما وأرجو المولى تعالى ان يلهم أنجاله الأحباء وكريمته الغالية الصبر والسلوان. له الرحمة ولكم طول البقاء.

العريف: إن الشعر لا ينفكّ أبدًا في التعبير عمّا يعتمل في صدر الإنسان من الأحاسيس الشفافة الراقية تجاه من نُكنّ لهم التقدير والمحبة والاحترام، فيجود علينا الأستاذ الشاعر عناد جابر بقوله لفارس الكلمات:

جاشَ الأسى فَتَعسّرتَ كَلِماتي/ وَتَعَثّرَتْ بِزِحامِها عَبَراتي/ وتأجّجتْ في الصّدرِ نارُ أتونهِ/ فَتَحرّقتْ في مَهدِها زَفَراتي/ يا راحلاً صَعَقَ النّفوسَ رَحيلُهُ/ فتلفّعَتْ بالغمِّ والحَسَراتِ/ فارقْتَ غَيرَ مُودِّعٍ وَمُعجّلِاً/ أدرَكْتَ قطرَ المَوتِ قَبلَ فَواتِ/ والكلُّ بينَ مُصدّقٍ ومُكذّبٍ/ هلْ غابَ حقّا فارِسُ الكَلِماتِ؟/ كانتْ حياتُكَ يا سليمُ رِوايةً/ وَفُصولُها مِنْ أرْوَعِ الآياتِ/ نِعم َالطبيبُ وكُنْتَ صاحبَ نَخوَةٍ/ تُشفي الجُسوم َ وتَجبُرُ العَثَراتِ/ شَهْمًا تَفيضُ مَحبّةً ومُروءَةً/ فَطِنًا حَكيمًا ثاقِبَ النَّظَراتِ/ رَجُلَ المبادئ لمْ تَحِدْ عنْ دَربِها/ بَلْ صُنتَها في أحْلَكِ الأوْقاتِ/ قاومْتَ عَسْفَ الظالمينَ وَكَيدَهُمْ/ مُتَسلِّحًا بِصَلابةٍ وَثَباتِ/ وجَهِدْتَ مِنْ أجلِ الحُقوقِ مُحارِبًا/ بالفِكْرِ والإلهامِ والوَثَباتِ/ وَنَذرْتَ عُمْرَكَ للعَطاءِ لأنَّه/ وَبِحُكمِ طَبعِكَ أشرَفُ الغاياتِ/ شَيّدْتَ في الإبداعِ صَرْحًا شامِخًا/ شَقّ الفَضاءَ وجاوَزَ النّجَماتِ/ فَعَزَفتَ لَحنًا ذابَ في نَغَمَاتِهِ/ قَلبٌ رَقيقٌ واسِعُ الشُّرُفاتِ/ شعرٌ وَرَسمٌ كاللآلئِ فيهما/ سِحرُ الوَميضِ وَرَوْعَةُ اللّمَسَاتِ/ فإذا رَسَمْتَ رَسَمْتَ شِعرًا راقِيا/ وإذا كَتبْتَ…فأبدَع َ اللّوْحاتِ/ كانتْ خِصالُكَ كالوُرودِ، عَبيرُها/ مَلأ النُّفوسَ بِعاطِرِ النَّفَحاتِ/ بيضاءَ ناصِعةَ النّقاءِ لأنّها/ شَرِبَتْ بَياضَ القَلْبِ والنّيّاتِ/ تِلكَ الصّفاتُ وما أقلَّ مثيلَها/ مَنّيتُ نَفسي لَوْ تَكونُ صِفاتي/ لِتَنَمْ قريرَ العَيْنِ غَيرَ مُسَهّدٍ/ فَكِتابُ عُمرِكَ نَيِّرُ الصَّفَحاتِ/ وَصَدى نشيدِكَ ساكِنٌ أسْماعَنا/ وَبريقُ فَنَّكَ خالِدُ اللّمَعاتِ/ وتَظَلُّ ذْكراكَ العَزيزةُ حَيّةً/ بِقلوبِنا وَتُرافِقُ النَّبَضاتِ/ فإلى جِنانِ الخُلدِ يا مُتألّقًا/ يَحيا وَإنْ هُوَ عُدَّ في الأَمْواتِ!

ثمّ كانت وصلة عزف على العود للفنان عماد دلال من كفرياسيف، فعزف وغنى مقطعيْن من مغناة الأرض للشاعر د.سليم مخولي، والتي لم تشهد النور بعد لأسباب مادّيّة.

العريف: كان المرحوم خريجا لمدرسة يني الثانوية العريقة التي أحبّها من أعماق قلبه، وعمل دائمًا من أجل رفعتها والإعلاء من شأنها والحفاظ على عراقتها، بشتى الطرق والوسائل المتاحة له، ومن هنا فإن بروفيسور نعيم شحادة رئيس جمعية أصدقاء مدرسة يني يقول: د. سليم مخولي شجرة الزيتون العريقة!

أيّها الحفل الكريم!

أغربُ ما في الموت أن نموتَ قبلَ أن تلوِّنَ السماء ُ نجومَها الأخيرة! وشرُّ ما في العمر أن يفوتَ على ذرى المواسم الوفيرة. قصيرةٌ رحلتنا، قصيرة… وإنما أجملُ ما في العيش أن نعيشَها، فرحلتنا القصيرة رحلتنا المثيرة. عرفتُه منذ نعومة أظفاري صديقًا وطبيبًا لوالدي. راقبتُ بشغفٍ وانبهارٍ مسيرةَ حياته. الطبيب الوقور والفنان المبدع الذي استطاع أن يقبضَ على الجمر والماء في آنٍ واحد، فلا تبخَّرَ ماءُ الحكمة في عمله، ولا خَبَت جذوةُ الإبداع في قلبه، فاشتعلت شعرًا ونحتًا ورسمًا.

أيها الأحباء!

لكل بلدةٍ رجالاتٌ يمرون بها كما يمرُّ الزمان، والدكتور سليم هو ركنٌ هام من أركان هذه البلدة العريقة، وضعَ بصماتِه على معالمها، نلحظُ آثارَ أقدامه على أزقتها وشوارعها، فاح في هوائها عطرُ مسيرته الجليلة.

كأني أسمعه في احتفالات اليوبيل، في المعارض والندوات، في نضالات الحق، في نشاطات إبداع وفي فعاليات جمعية أصدقاء مدرسة يني، ينادي ويقول:

ها أنا ذا يا أحبائي، إلى يدكم أمد يدي، وأرفع جبهتي معكم إلى الشمس، وها أنتم كصخر جبالنا قوةً، وكزهور بلادنا الحلوة، على طرقاتكم أمضي وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني وفي أرضي، وأزرع مثلكم عينيَّ في درب السنا والشمس.

حصل أن قابلتُه عَّدةَ مرات في السنة الأخيرة، عنده في شرفة بيته التي تطل على شروق الشمس، تحدَّثنا وخطَّطنا لمشروع مشترك نوثِّق به معالم بلدتنا (عشيقتنا المعلنة) بمجموعة من الصور القديمة ولوحاته الفنية التي جسَّدت معالمها الجميلة. وقبل أسابيع التقيناه مع الزوجة عايدة في بيت صهره القاضي رمزي حديد والابنة نبال (قرَّةَ العين)، تحدَّثنا وتسامرنا وأتحفنا يومَها بإلقاء مجموعةٍ من أشعاره وبعرض آخر لوحاته (شجرة زيتون عريقة)، فاجأنا بروح شبابِه الفيَّاضة، ثم عاد ليفاجئنا بعد أيام بسفرة لا عودة منها.

أبا حبيب، فقيدنا الغالي!

عرفناكَ وخبرناك: هيبة ووقار، رصانة وثبات، كدٌّ ونضال، علم وأدب، طريق مستقيم، حسٌّ مرهفٌ، قول ثقة وجليس معرفة. قل لي بربك من أين أوتيتَ كلَّ هذا؟

فلم يعجِزْكَ صعبٌ في مجالِ/ ولا أغواكَ سهلٌ في مجالِ/ كأنَّ الحسنَ أسلمَ كلَّ سرٍّ/ إليكَ فصرتَ موضوعَ السؤالِ/ نعَت كفرياسيف، يوم نعيتَ، عقلًأ / ترسَّلَ للحقيقة والجمالِ

إلى الزوجة الغالية عايدة، إلى الأبناء الأعزاء حبيب، نعيم، إبراهيم ونبال. إلى العائلة الكريمة وإلى جميع الحضور الكريم أقول: عزاؤنا وعزاؤكم بالإرث الغني الذي تركه أبو حبيب لنا جميعًا، برسالته السامية التي أدّاها بأمانة وإخلاص، حاملًا رايةَ قريته وشعبه. له الرحمة ولكم من بعده طول البقاء.

العريف: حرص الفقيد بكونه رجل فن وثقافة ان يتواصل دائما مع المركز الثقافيّ البلديّ، ممثّلاً بمديره الأستاذ الشاعر رفائيل بولس صديق المرحوم يقول: جبانٌ أنت يا موت!

جبانٌ/ رخيصٌ/ وخسيسٌ انت يا موت / تأتي خلسة/ تملؤُك الخسّة/ وتخطف أرواحًا منّا ما زالت / نفِسة/

مَن تخطف منّا يا موت؟/ أتخطف من قال للوطن/ عشت يا وطني الحبيب/ لبّيك يا وطني السّليب/ أفديك بقلبي والعين/ من قال وطني واحد لن يتجزأ/ إلى اثنين/ من وهب الناس حبًّا/ أدبًا وعِلمًا وأصلح ذات/ البين؟

من تخطف منّا يا موت؟/ أتخطف فرس الشّعر/ وما ترجّل يومًا عن جواد/ فتُرسُه أدبٌ/ ورُمحُه فنٌ/ وسيفُهُ المُشهَرُ مخضّب بالضاد/ فهل كنت له أيها اللئيم بالمرصاد؟

من تخطف منا يا موت؟/ أتخطف إنسانًا وفنّانًا/ جعل الرّيشة تحكي ألوانا/ وجعل اللوحة تعزف ألحانا/ وتروي قصصًا شتّى كان وما كان/ وتخاطب من يراها أحيانا/ وتقول: نحن من الجماد كنّا/ لكنّ سليم العظيم أحيانا

من تخطف منا يا موت؟ / أتخطف نجمًا نوره غشي السّماء/ وملأ الكون بالضّياء/ وأحبّ الشّعب والأرض/ دون مداهنة أو رياء/ أحبّهما حبًّا عظيمًا وأعطى وأجزل في/ العطاء/ ما رام عجرفة ولا كان أسير الكبرياء/ بل بلسمًا للجراح وملجأ للضّعفاء/ فسليم بكى ألمًا كلّما سالت دماء/ الأبرياء

من تخطف منا يا موت؟/ أتخطف من داوى النفوس والأجساد/ وتعلّق بتراث الآباء والاجداد/ وأعاد ناطور البلد بعد أن غاب سنين/ فأزهرت الورود في تشرين/ وعزف معزوفة القرن العشرين/ فتحلّق حوله أجيال أبناء وأحفاد/ وتغنّوا كلّهم بتاريخ تليد وأمجاد؟

من تخطف منّا يا موت؟/ أتخطف أبًا حنونًا وزوجًا مخلصًا وفيًّا/ وكاتبًا مفكّرًا مناصرًا للوحدة للعروبة والقضيّة/ ما هاب سطوةً/ ولا خاف قسوةً/ بل كان للوطن حميًّا/ وصوته جلجل كالرّعد / يملأ الدّنيا دويّا/ سليم كليم حكيم عليم/ عربيّ أصيل شهم نبيل/ بالكرم كان السّخيّا/ ما حاد عن الدّرب السّوي بل مشى وقال:/ هلمّوا يا رفاقي لنمش سويّا/ سار للتّو ثابت الخطو/ وصاح في وجه من تجبّر وصار عتيّا:/ وطني الحبيب السّليب أعده إليّ/ ودعه كالرّضيع يغفو في حدقتيّ/ فذرّة من ترابه أغلى من التبر لديّ/ حُبُّهُ عشّش في كلّ زاوية من جسدي/ في القلب في الوريد وفي الخليّة/ أنا شعب أسير “أعطني حرّيّتي أطلق يدي”/ أنا شعب عريق أصيل أحمل اسمًا وهويّة/ وأحمل روحي على راحتي أقدّمها للوطن/ هديّة / فرخيصٌ/ وجبانٌ أنت يا موت/ تأتي خلسة/ تملؤُكَ الخسّة/ وتخطف أرواحًا منّا ما زالت/ نفِسَة!

العريف د. منير توما: عُرفَ المرحوم بمواقفه الوطنيّة المُشرّفة والنزيهة، فقدّرَهُ المخلصون والأوفياء من أهل قريته وأبناء شعبه، وكان نموذجًا في استقامته السّياسيّة والاجتماعيّة، فصديقه ونسيبه وزميله في مهنة الطبّ يقول في مناقب الفقيد د. خليل إندراوس: حياتهُ أعطى، أعطى حياة!

أبا حبيب..

يا أيّها النور النقي يا أيها الفجر، لقد أقصاك الموت عن هذا الوجود، فدمدم وتألم الليل العتيد. لقد كتبت الشعر الذي يهب الورى عزم الشباب، وغبطة العصفور الدوري، لقد عشت في الدنيا بقلبٍ زاخرٍ يقظ المشاعر، حالم في نشوةٍ صوفيةٍ قدسيةٍ، كبير القلب متقبل للوجود والحياة مقتحم العواصف هائمًا في الأفق مع الشعر والأدب والرسم والنحت، لقناعتك بأن الشاعر والكاتب والرسام والطبيب الإنسان هو الذي يسمو بكلّ مَن حوله، ليصبح أكثر جمالاً وصدقًا وإنسانيّةً، ليطلعنا على حقيقة الوجود وجوهره الذي هو حركة وجمال، من خلال جدلية الحياة في تطوّرها نحو الأرقى والأفضل والأجمل، لكي نصل إلى مملكة الحرية على الأرض. فبقلبك قلب الشاعر الرحب العميق، حققت أحلام الورود، وكم أحببت الورد، وعزفت لحن الخلود منذ ديوانك الأول معزوفة القرن العشرين، وحملت الأماني الكبيرة بخضمٍ ثائر خالد الثورة، كالنهر الجاري نحو الحقيقة المطلقة من خلال أبواب فكرك وروحك، فعبّرت عن ذلك في قصصك القصيرة “ألأبواب المفتوحة”. لقد عشت كالنسر فوق القمة الشماء، ترنو إلى الشمس حالمًا تصغي لموسيقى الحياة ووحيها، متفاعلاً مع صوت الإلهام داخلك، وتلك سعادة الشعراء العظام أمثالك.

لقد كنت حسّاسًا إلى درجة المطلق لذلك لم يكن سهلاً، لا بل واجهت بعض الأسى في زمنٍ بعضهم بلا ألّباب. لكن إرادتك وروحك الأبية وقلبك الكبير وشِعرك وأدبك وبدعم الزوجة أم حبيب والأولاد، اقتحمت الحياة وسَموت سمو الطائر الجواب.

لقد احتقرت الترفع، وكنت في كل لقاء مع أي إنسان تحمل كل معاني التعامل الإنساني، صادق مع نفسك ومع الآخر، متواضع دمث الأخلاق، ولم تُغرك أوهام الحياة، فعشتها حقيقةً فاعلةً مؤثرةً بشكلٍ جدلي من أجل خلق “نسيج آخر للوقت” والحياة، كما جاء ذلك في ديوانك “نسيج أخر للوقت”، وذلك لأن الشعر بالنسبة لك كان الوجه الآخر لحقيقتك وحقيقتنا.

لقد كان الشعر والأدب والرسم بالنسبة لك فلذة لا بل فؤادك، تتغنى بهم جاعلاً حياتك الأرقى والأجمل، حاملاً طفولتك الدائمة، وغبطتك وحنينك وشجونك وبهجتك وعناقك لربيع حياتك الدائم. لقد كنت طليقًا كطيف النسيم وحُرًّا كنور الضحى، والنور ظلّ الإله، وانعكس ذلك في أشعارك في ديوانيْ “إليك” ورفيقة يومي”.

لم ترض أبدًا بذّل القيود ولم تسكت نفسك عن قول موقفك ورأيك ودفاعك عن قيمك ومبادئك، وكنت أنيقًا “كحمام المروج” تعبيرًا جاء في إحدى قصائدك. أحببت الأرض والوطن فكتبت في إحدى قصائدك تقول:

“أعرفه حقل أبي/ صادقتُ الوجود معه/ الأرض سماءٌ/ طمأنينة/

من ليس له حاضر/ كيف يدركه المستقبل.”

احترمت وعرفت الماضي كمعرفتك لحقل والدك، وكنت صادقا مع وجودك، فحورية تسكن حواسك، وحبك للأرض سماء طمأنينتك “فكنت صاحب مشتل زهور”، وآمنت بالمستقبل، فبحثت دائمًا عن الدخول إلى “جنة البراءة”. فبالنسبة لك الشعر كما كتبت في ديوانك نسيج آخر للوقت، هو الوجه الآخر لحقيقتنا، فإن قرأته ولم تجد ذاتك الثانية فيه حسبك- أن تكون قد شعرت.

هكذا كان الشعر بالنسبة لك انعكاسًا جدليًا متفاعلًا مع الوجود، طارحًا بأحاسيس شاعر وقلم مبدع تغيير الواقع لكي نعرف حقيقتنا ونسعى بها إلى الأمام نحو الحياة المثلى “كحبة قمح- سنبلة فبيدر فقفير الحياة”. لقد رأيت دائمًا بأنَ وراء عصر الظلمة والاضطهاد لابد وأن تشرق الشمس، شمس حرية الإنسان والشعوب والإنسانية، لذلك مع كل ما واجهت وواجهه شعبنا من ظلم واضطهاد، آمنت بالغد المشرق وبأن الحياة سترد لشعبنا يومًا وشاحهُ.

فقيدنا الغالي أبا حبيب.. صاحب النفس الأبية، المحتمل دون أن يشكو، المناضل والصامد، والمشارك الفعّال على مدى أكثر من خمسين عامًا في معركة البقاء والحرية والمساواة. كأنه كان يقول: أَفضل أن أكون أصغر الناس ولي أحلام أسعى إلى تحقيقها، على أن أكون أعظمهم، مجردًا من الأحلام والمبادئ والقيم الإنسانية العليا. فقد كنت صاحب الأخيار، غنيًا بأصدقائك أصحاب النفوس الأبية وذوي الضمائر الحية، عظيمًا بتواضعك وتميزت بالاستقامة والأخلاق الكريمة. فمنذ سنوات الخمسين كان لك الدور الكبير في إعلان إضراب المدرسة الثانوية وكنت حينها طالبًا في المدرسة، كاحتجاج على فصل المربي الكبير الأستاذ مطانس مطانس، وخلال سنوات دراستك الجامعية شاركت في إقامة أول لجنة للطلاب الجامعيين في الجامعة العبرية بتنسيق مع قيادة الحزب الشيوعي في ذلك الوقت، وبعد عودتك إلى كفرياسيف كان لك دور كبير في إقامة لجنة اليوبيل في كفرياسيف. وكنت أول رئيس للجنة الدفاع عن الأرض في القرية وأول اجتماع لهذه اللجنة عقد في ساحة بيتك الكبير بساكنيه، وكنت أول سكرتير للجنة الدفاع عن الأرض، وكان لك الدور الكبير في إقامة النصب التذكاري لشهداء يوم الأرض في سخنين، وفي نهايات سنوات السبعين وبداية الثمانينات كان لي شرف العمل معك في إقامة رابطة الأكاديميين في كفرياسيف، والتي قامت بالعديد من النشاطات الثقافية والسياسية، بمشاركة رفاق عِظام أمثال توفيق طوبي، إميل حبيبي، إميل توما وآخرين. بعد ذلك “لقاء الثلاثاء” “والمنتدى”، وفي السنوات الأخيرة كان للفقيد العديد من النشاطات من خلال مؤسسة إبداع، ونشر العديد من المقالات والإبداع الشعري في صحيفة الإتحاد، وأحب الإتحاد السوفيتي وهناك التزام من مدير المركز الثقافي الروسي بعرض رسوماتك في المركز الثقافي الروسي في تل أبيب. وكنت للعديد من السنوات رئيسًا للمجلس الملّي الأرثوذكسي في كفرياسيف، ووضعت حجر الأساس للكنيسة الجديدة، وهناك مغزى كبير لزيارة التعزية التي قام بها غبطة البطريرك ثيوفيلوس ودعمه لإتمام مشروع الكنيسة.

العمل أعذب من الشعارات خاصة إذا كان العمل شعرًا وأدبًا ورسمًا ونحتًا، أي يجمع مجالات مختلفة من النشاط الثقافي الأدبي، ومارست مهنة الطب على مدى عشرات السنين وهذا أروع ما في حياة الإنسان، لقد عشت حياة رائعة.

فقيدنا الغالي لم يرفع شعارات المبادئ والقيم الإنسانية، فحسب بل مارسها عملاً وصمودًا ونضالاً على مدى عشرات السنين خادمًا ومعطاءً لبلده وشعبه ووطنه. لقد مارست يا فقيدنا الغالي المواقف المبدئية ولم تقلها فقط لقناعتك بأن عملك المهني كطبيب وكفنان وشاعر ضروري للناس، فغطيت بنشاطك جميع مجالات الحياة. لقد أراد فقيدنا العظيم أن يصنع –كما قال ماركس- “مملكة الحرية على الأرض” حيث يصبح الناس فيها معجبين ببعضهم بعض، ويتحول كل إنسان إلى كوكب أمام الآخرين وعندئذٍ سيحيون في الحق والحرية، من أجل الجمال وسيبقى أفضلهم من يعانق العالم بقلبه عناقًا أحرّ، ومن يحبّه حبًّا أعمق.

لم يكتب فقيدنا الغالي اسمه على رمال الشاطئ، فحياته لم تكن “ساعة رمل” كما كتب، فتأتي أمواج البحر فتمحوه، بل نقشه في قلوبنا لذلك سيبقى خالدا فيها. في كتابه “رفيقة يومي” الذي صدر عام 2003 كتب يقول وكأنه يقرأ المستقبل:

أعطى ومات/ على السرير مات/ سراجهُ انطفأ/ حياتهُ أعطى/ أعطى حياة.”

نعم أعطيت الحياة لعائلتك ولكل من حولك، لقيمك ومبادئك وطريقك النقي كحمام المروج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة