لقاءات مع الشاعر الفقيد سالم جبران بقلم/ توفيق أبو شومر
تاريخ النشر: 21/12/11 | 1:38بقلم/ توفيق أبو شومر
اللقاء الأول:
كان سالم عصفورا مغردا بألحان شعرية وقوافي موسيقية، يسكن عشا نسجه بخيوط من ذهب الكلمات، ومن حروفٍ شفافة كأحلام الأطفال، اعتاد أن يكتب وصفاتٍ طبيةً لكل أمراض العالم، واعتاد أن يمزج كلَّ وصفةٍ من وصفاته بإحدى بسماته.
اعتاد سالم أن يُضيف بسمةً إضافية عندما يلمح رفيقه وأخاه رياض كبها إلى جواره، وكان الاثنان يجعلان من مركز غفعات حبيبة جوقة موسيقية، تعزف ألحان الحرية والسلام، وتغني أغاني الحب والوئام.
اللقاء الثاني:
كان اللقاء الثاني على مائدة غداء الرئيس الراحل أبي عمار، كانت المائدةُ بسيطةً وشهيةً ، وبعد الغداء زارني جبران في منزلي بغزة، بصحبة الصديق رياض كبها أيضا، كنتُ أدَّخر لهما بضعة سمكاتٍ طازجة من بحرنا، ليحملاها إلى أهلهما التواقين لأسماك بحر غزة، وكم كانت سعادتي أنني حملتُ ثلاجة الأسماك الفلينية البيضاء بنفسي إلى السيارة، ولم أكن أعلم بأن جنود الاحتلال على حاجز القهر الذي يخنق غزة صادروا الأسماك منهما، وكانت الحجة أن أسماك غزة مفخخة، حينئذٍ قال جبران:سأضيف إلى مسلسل القهر الاحتلالي قهرا جدبدا اسمه (قهر الأسماك المتفجرة)
اللقاء الثالث:
عندما كان سالم يلبس عباءة الشاعر، كان يمسك بعصا الراعي، يقود القوافي إلى مرابع السهل، فتدر حليبا صافيا، كانت عصاه تطارد غبارَ اليأس، وتنقشُ فوق الكلأ دوائرَ من الحب والأمل، اعتاد سالم أن يجعل من قصائده دُررا وقلائدَ في صدور الجميلات الحسان،واظب جبرانُ على زرع فسائل الأمل، وأشتال الورود التي تحتمل حرَّ الصيف وبرد الشتاء، كان جبران يُراهن على الديمومة والخلود، فقد كان مؤمنا بأن الشاعرَ لا يموت، فظلال الشعراء هي حقيقتهم الساطعة، وما أجسادهم سوى ظلال باهتة زائلة.
اللقاء الرابع:
حينما كان جبران يرتدى زيَّ الكادحين، كان يُفصِّل من كلماته فأسا ومعولا ورفشا، يحفر بها باطن الأرض، وكانت الأرضُ مطواعةً لفأسه الحادة القاطعة، فسرعان ما ينبجسُ الماءُ الزلال الممزوج برحيق فكرِه، فيروي كلَّ مَن حولَه، وما إن يُحسُّ بارتوائهم، حتى يأخذ نصيبَه من كدِّ مُعولِه.
ظل جبران مواظبا على تقليده الدائب، وهو ألا يرتويَ قبل أن يطمئن على ارتواء كلِّ مَن يحيط به، فهو يُردِّدُ:
الريُّ والشبعُ الحقيقيُ لا يكون فردا، بل جماعةٌ، فالجمعُ سابقٌ على الفرد، وما الفرد سوى تُرسٍ في عجلة الجماعة، لذا فلا غرابة أن يظلَّ جبران في حالته الأولى، تُرسا ولولبا دوارا، يدور في فلك الجميع.
اللقاء الخامس
ظلَّ في برنامجه الإذاعي، وفي مقاله الصحفي يوزِّع موائد الطعام للجائعين للحرية ، والمقهورين بالظلم، والحالمين بالغد الآتي، وظل جبران مُصرَّا على أن يكون أستاذا ومدرسا، يُقدّم لطلابه ومريديه وجباتٍ مملوءةً بفتامينات الفكر، ثم يقدم لهم الحلوى التي اعتاد أن يصنعها من إكسير الحلم ، وعسل الأمل والرجاء.
ستظل معاول سالم جبران غير قابلة للصدأ، تتحدي نوائب الدهر، وستظل وصفاتُهُ الطبيةُ صالحةً مدى الأزمان، وستبقى وجباته من فيتامينات الفكر طازجةً و قادرة ًعلى قهر الجوع والمرض
تعزية بوفاة الشاعر والأديب الفلسطيني سالم جبران
لم يكن سالم جبران جسدا، بل كان أثيرا متوهجا بالإخلاص والوطنية والصدق والوفاء، لم يكن شاعرا كما الشعراء، بل كان يكتب شعره بروحه ودمه، وقد اعتاد أن يحول قلمه إلى مبضع جراح.
سالم جبران ابن قرية البقيعة في الشمال ولد عام 1941م ورضع الصحافة والإعلام من حليب الوطن، وحرر مجلة الغد الشبابية ومجلة الجديد الأدبية، والمستقبل ثم الاتحاد الحيفاوية، وكان رفيقا مخلصا لإميل حبيبي، ولكل محبي الحرية في العالم.
قال لي يوما:
إن ما جرى على لساني من الشعر، ليس سوى شذرات وخواطر، غير أن قصائدي الحقيقية هي مزيج من قسماتي وجغرافية الوطن، فأنا الحرية والحرية أنا .
توفيق أبو شومر