تفجيرات دمشق: والقادم اعظم
تاريخ النشر: 24/12/11 | 11:17بقلم عبد الباري عطوان
ظل المتحدثون باسم السلطات السورية يتباهون طوال الاشهر العشرة الماضية بان الانتفاضة الشعبية المطالبة بالتغيير الديمقراطي لم تصل مطلقا الى قلب العاصمة دمشق، وانحصرت فعالياتها إما في مدن بعيدة مثل حمص وحماة ودرعا او في الريف السوري، والدمشقي منه على وجه الخصوص، وجاءت التفجيرات التي استهدفت مركزين امنيين في قلب العاصمة يوم امس، واوقعت اكثر من اربعين قتيلا، ومئة جريح لتنسف هذه الحجة، وتعطي صورة مأساوية لما يمكن ان تكون عليه الاوضاع مستقبلا، والعام الجديد على وجه التحديد.
هناك روايتان متضاربتان، واحدة للمعارضة تقول ان هذه التفجيرات ‘مفبركة’، بدليل سرعة توجيه النظام اصابع الاتهام لتنظيم ‘القاعدة’، وتأكيده على اعتقال الذين نفذوها، الامر الذي ينطوي على تناقض كبير بين رواية رسمية تقول ان منفذي التفجيرات انتحاريون، فكيف يكونون انتحاريين ويتم القبض عليهم احياء، حسب تساؤل احد المعارضين وهو السيد ميشيل كيلو. اما الرواية الثانية التي يرددها المتحدثون باسم النظام فتؤكد ان تنظيم ‘القاعدة’ بدأ يمارس عملياته داخل سورية، وان الامن اللبناني حذر قبل ايام معدودة من تسلل عناصر للتنظيم الى البلاد، وجرى القبض على اكثر من عشرين شخصا من هؤلاء مدججين بالاسلحة، بعضهم سوريون، والبعض الآخر من جنسيات عربية.
لا نعتقد ان النظام السوري الذي يحاول اعطاء انطباع للداخل السوري اولا، وللعالم الخارجي ثانيا، بانه مسيطر تماما على الاوضاع في البلاد، واوشك على انهاء الاحتجاجات بالقوة، يمكن ان يقدم على ‘فبركة’ مثل هذه التفجيرات، من اجل تضليل وفد مراقبي الجامعة العربية، وحرف مهمته عن مسارها. والقول تبريرا لهذه النظرية بان المراكز الامنية المستهدفة بالتفجير محروسة بشكل جيد، ويصعب الوصول اليها مبالغ فيه كثيرا، وعلينا ان نتذكر بان الامن السوري ضعيف ومخترق، بدليل اغتيال الشهيد عماد مغنية في قلب العاصمة السورية وفي منطقة السفارات الاكثر امنا وتحصينا، ونسف حافلة ركاب لسياح ايرانيين في منطقة السيدة زينب، وقيل وقتها ان احد اطاراتها انفجر لرفع الحرج عن قصور الاجهزة الامنية وضعفها، وكذلك تفجير مقر للامم المتحدة. هذه التفجيرات وقعت كلها قبل الانتفاضة السورية وانشغال الامن والجيش في محاولة قمعها بالقوة، مما اضعف تركيزهما، واستنزف قواتهما، وتحميلهما اكثر من طاقتهما وقدراتهما.
واذا عدنا الى انشطة تنظيم ‘القاعدة’ وهجماته في العراق، والعاصمة بغداد على وجه الخصوص، نجد ان معظمها استهدف مواقع اكثر تحصينا من الناحية الامنية، مثل وزارة الداخلية، بل والمنطقة الخضراء نفسها، مثلما وصلت الى مركز التجارة العالمي، والمدمرة الامريكية ‘اس.اس.كول’ في ميناء عدن، وعشرات بل مئات العمليات الاخرى المماثلة في مختلف انحاء العالم.
تنظيم القاعدة لم يحتج الى اذن من صدام حسين او معارضيه لدخول العراق وتنفيذ هجماته داخل اراضيه، وكذلك لن يطلب اذنا من النظام السوري ولا من معارضيه لتنفيذ مثل هذه العمليات.
‘ ‘ ‘
لا نجزم ان تنظيم ‘القاعدة’ يقف حتما خلف تفجيرات دمشق الاخيرة، ولكن ليس مستبعدا او مستغربا اذا كان فعلا هو المنفذ، فايديولوجية هذا التنظيم، وكل التنظيمات الاصولية المتشددة المماثلة، تعادي النظام السوري وتكفره، وتتهمه بالطائفية. مضافا الى ذلك ان له فروعا قوية في العراق شرق سورية وقرب حدودها (دولة العراق الاسلامية) وفي لبنان (فتح الاسلام وغيرها).
تنظيم ‘القاعدة’ لم يعد تنظيما مركزيا، بل مظلة ايديولوجية جامعة تنضوي تحتها فروع متعددة بقيادات ميدانية اصبحت اقوى من المركز، مثل تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي، وشباب الاسلام في الصومال، وتنظيم القاعدة في الصحراء الافريقية والساحل (التوحيد والجهاد) وتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية ومقره اليمن، علاوة على التنظيم الام في افغانستان، ولن يكون مفاجئا اذا ما سمعنا قريبا عن تنظيم ‘القاعدة’ في سورية، فالكثير من الاصوليين السوريين كانوا من اعمدة التنظيم ومنظريه الايديولوجيين والعسكريين، وابرزهم ابو مصعب السوري (مصطفى الست مريم) الذي كان الذراع الايمن للشيخ اسامة بن لادن، وقد التقيته في لندن، وكان حاضرا اثناء اجراء مقابلتي الصحافية مع زعيم التنظيم في جبال تورا بورا. مضافا الى ذلك ان الخلية المسؤولة عن تفجيرات القطارات في مدريد عام 2006 ضمت عددا من السوريين، مثل ابو الدحداح. والنظام السوري تعاون بشكل وثيق مع الولايات المتحدة في حربها ضد الارهاب، وقدم 25 الف وثيقة في هذا الصدد، وصرح الرئيس بشار الاسد بان سورية منعت قتل عشرات الامريكيين بفضل هذا التعاون. وهناك ثأر مبيت بين الجانبين على اي حال.
استخدام النظام السوري لـ’فزاعة’ القاعدة لن يفيده، مثلما لم يفد العقيد معمر القذافي، واذا كان التنظيم وصل فعلا الى سورية، فذلك بسبب الحلول الامنية الدموية التي اعتمدها لمواجهة الاحتجاجات، تماما مثلما فعلت واشنطن وقادة احتلالها للعراق عندما اعتمدوا المحاصصة الطائفية، وانحازوا الى طائفة ضد اخرى، ومزقوا الهوية الوطنية للبلد، وتعامل حلفاؤهم بطريقة ثأرية انتقامية مع خصومهم.
القيادة العسكرية في العراق المحتل قلصت من عمليات تنظيم ‘القاعدة’ والجماعات المسلحة الاخرى عبر اتباع اسلوب العصا والجزرة، العصا من خلال زيادة عدد القوات الامريكية الى حوالي 175 الف جندي، بتوصية من الجنرال ديفيد بترايوس، والجزرة من خلال تكوين ما سمي بقوات ‘الصحوات’، اي توظيف بعض قادة العشائر واعضاء في تنظيم القاعدة والجماعات السنية المسلحة في المشروع الامريكي لقتال التنظيم، اي ‘القاعدة’ وابعاده من العراق. الخطة حققت نجاحا ملموسا، ولكن بعد اكتمال انسحاب القوات الامريكية من العراق، وتفرد النظام الطائفي الديكتاتوري الذي يحكمه بالسلطة، وفشله في تحقيق المصالحة الوطنية، واستيعاب قوات الصحوات في الجيش والقوى الامنية، فان علينا ان نتوقع عودة قوية لتنظيم ‘القاعدة’ والجماعات العسكرية الاصولية في المثلث السني الى ما كان عليه الحال عام 2006. وليس صدفة ان تأتي تفجيرات دمشق هذه بعد يوم من 14 تفجيرا استهدفت العاصمة العراقية واوقعت اكثر من سبعين قتيلا.
المنطقة العربية تشهد حاليا عمليات تحريض وفرز طائفيين غير مسبوقين، تلعب فيها فضائيات سنية وشيعية دورا كبيرا، وفي ظل هذا المناخ علينا ان نتوقع ترجمة دموية لهذا التحريض في العراق وسورية ولبنان على وجه الخصوص، في العام الجديد.
استهداف مركزين امنيين في التفجيرات الاخيرة في دمشق، وقبلها مركز للمخابرات في حمص لم يكن من قبيل الصدفة، لان هذه المراكز ارتبطت في اذهان المواطنين السوريين بكونها اوكارا للتعذيب الشرس، واذلال المواطن، وسحق ادميته، وتدمير كرامته الشخصية والوطنية في آن. وكان الاسلاميون هم الضحايا الاكبر لهذه الممارسات. وعلينا ان نتوقع هجمات مماثلة، اذا صح ان ‘القاعدة’ خلفها فماذا تنفع التحصينات الامنية مع انسان يقود سيارة ملغومة ويتطلع الى الشهادة باعتبارها اقصر الطرق واسرعها للوصول الى الجنة حسب معتقداته وتنشئته؟
‘ ‘ ‘
الحلول الامنية نجحت في تخفيض فعاليات الانتفاضة، فعدد ضحاياها وصل الى خمسة آلاف انسان على الاقل، حسب ارقام الامم المتحدة، ثم ان الشعب السوري تعرض للانهاك حيث تصدى لهذه الحلول الدموية وحده ودون اي عون خارجي لحوالي عشرة اشهر، بينما لم تستمر الانتفاضة المصرية الا 19 يوما والتونسية ستة اسابيع، ولكن هذا النجاح الامني في ظل انسداد سياسي واصلاحات داخلية حقيقية، دفع باتجاه عسكرة الانتفاضة، وتحولها تدريجيا الى الحلول العسكرية المضادة من خلال، حرب استنزاف ما زال ميزان القوى فيها يميل لصالح النظام، ولكن قد تتغير الصورة مستقبلا في ظل الحصار الاقتصادي المفروض الذي بدأ يعطي ثماره في انهاك النظام وقواته الامنية والعسكرية. فسورية محاطة بدول معادية ولها 800 كيلومتر من الحدود مع تركيا في الشمال و400 كيلومتر مع الاردن في الجنوب، واكثر من ذلك قليلا مع العراق وبدرجة اقل مع لبنان، وعمليات تهريب الاسلحة والمقاتلين في تصاعد مرعب.
سورية انجرفت، ولا نقول تنجرف، وبسرعة الى حرب طائفية وتمرد عسكري بعد تراجع احتمالات التدخل الخارجي، على غرار ما حدث في ليبيا، فاستغاثات بعض الجماعات المعارضة في الخارج لحلف الناتو لن تجد آذانا صاغية في الوقت الراهن على الاقل، فلا نفط ولا ودائع في سورية، كما ان التدخل العسكري قد يكون مكلفا جدا بشريا وماليا في زمن يعيش الغرب حالة من الافلاس الاقتصادي، وينسحب من العراق مهزوما وقريبا من افغانستان.
وفد مراقبي الجامعة العربية سيواجه الفشل تماما مثل المبادرة العربية، لان النظام لن يسهل مهمته، وقبل ببروتوكوله لكسب الوقت، اما الشعب السوري، او المنتفض منه، فيراه دعما للنظام واطالة لعمره، ولذلك شاهدنا لافتات يرفعها المحتجون تصفه بـ’بروتوكول الموت’ و’الجامعة تتاجر بدمائنا’.
المشهد السوري على ابواب مرحلة اكثر دموية، نقولها وفي القلب حسرة وألم، فضحايا القتل والتفجيرات والحرب الطائفية الاهلية هم سوريون واشقاء ايا كان الخندق الذي يقفون فيه.