خلِّ عينك على بيتك (2)
تاريخ النشر: 18/05/14 | 13:47الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ:
اعتنى الاسلام بالتربية الاسلامية للأبناء منذ اللحظة الأولى الذي يخرج فيها الطفل لهذه الدنيا، فيعلمنا الاسلام مجموعة من الآداب الشرعية التي ينبغي لكل مربٍ وراعٍ لأسرته أن يراعيها نحو أبنائه، حتى ينتج بذلك اسرة مسلمة صالحة على نهج النبوة، ثم على خطى الرعيل الأوَّل من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن أهمها:
1. سنة الأذان في الأذن اليمنى للمولود.
أما الأذان في أذن المولود فقد روى أبو داود، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة، وحسن الترمذي هذا الحديث بل وقال العمل عليه عند أهل العلم، (قال الحافظ في (التلخيص) (4/ 149): ومداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف).
ومن أهل العلم من أخذ بالحديث كما ذكر الترمذي كابن القيم رحمه الله، أخذا منهم بالعمل بالحديث الضعيف بشرطه أو أن يكون ذهب البعض إلى تحسين الحديث فالمقصود أن من أخذ بالحديث وأراد أن يتبرك بذكر الله في أذن المولود أول ما يولد فينبغي عليه ألا يعتقد والحالة هذه أن الحديث صحيح وإن ترك فلا بأس عليه وأيضا ينبغي عدم الانكار على من فعل والله أعلم.
وأما الجمع بين الأذان والإقامة، فقد ورد فيه حديثان:
– الحديث الأول: ما رواه البيهقي في (الشعب) بسند فيه ضعف، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذَّن في أُذن الحسن بن علي يوم ولد، وأقام في أذنه اليسرى.
– والحديث الثاني: ما رواه البيهقي أيضاً في (الشعب) بسند فيه ضعف عن الحسن بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَن وُلد له مولود، فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، رفعت عنه أم الصبيان”.
وعلى هذه الأحاديث الثلاثة اعتمد ابن القيم في (تحفة المودود في أحكام المولود)، وترجمها باستحباب التأذين في أذن المولود، والإقامة في أذنه اليسرى.
ثم أبدى ابن القيم رحمه الله الحكمة في ذلك، فقال: سر التأذين -والله أعلم- أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته -أي: الأذان- المتضمّنة لكبرياء الرب، وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها. وغير مستنكر وصول التأذين إلى قلبه، وتأثره به، وإن لم يشعر.
– مع ما في ذلك من فائدة أخرى: وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد، فيقارنه المدة التي قدرها الله وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه، ويغيظه أول أوقات تعلقه به.
– وفيه معنى آخر: وهو أن تكون دعوته إلى الله، وإلى دينه الإسلام، وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها، ولغير ذلك من الحكم.
2. سنة تسمية المولود يوم ولادته: والتسمي بأسماء الصالحين والمرسلين.
والسُّنّة أن يُسمَّى المولود في اليوم السابعِ من ولادته أو يوم الولادة، فأما استحبابه يومَ السابع فلِمَا جاء في كتاب الترمذي، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أمرَ بتسمية المولود يومَ سابعهِ، ووضعِ الأذى عنه، والعقّ. قال الترمذي: حديث حسن.
وجاء عند أصحاب السنن، بالأسانيد الصحيحة، عن سمرة بن جُندب رضي اللّه عنه؛ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ”كُلُّ غُلامٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سابِعِهِ، ويُحْلَقُ، وَيُسَمَّى” قال الترمذي: حديثٌ حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ”وُلِدَ لي اللَّيْلَةَ غُلامٌ فَسَمَّيْتُهُ باسْمِ أبي: إبْرَاهِيم صلى اللّه عليه وسلم”.
وفي صحيحي البخاري، عن أنس قال: وُلد لأبي طلحةَ غلامٌ، فأتيتُ به النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فحنَّكَه، وسمَّاه عبد اللّه.
وفي صحيحيهما، عن سهل بن سعد الساعدي رضي اللّه عنه قال: أُتي بالمنذر بن أبي أُسَيْد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين وُلد، فوضعه النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم على فخذه وأبو أُسيد جالسٌ، فلَهِيَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بشيء بين يديه، فأمر أبو أُسيد بابنه فاحْتُمِل من على فخذ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأقلبُوه، فاستفاقَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: ”أيْنَ الصَّبِيُّ؟” فقال أبو أُسيد: أقلبناه يا رسول اللّه. قال: ”ما اسْمُهُ؟” قال: فلان، ”قال: لا، وَلَكِنِ اسْمُهُ المُنْذِرُ” فسمّاه يومئذ المنذر.
وفي صحيح مسلم، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ”إنَّ أحَبَّ أسْمائكُمْ إلى اللّه عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللّه، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ”.
وفي صحيحي البخاري ومسلم، عن جابر رضي اللّه عنه قال: وُلد لرجلٍ منّا غلامٌ فسمَّاه القاسم، فقلنا: لا نُكَنِّيك أبا القاسم ولا كرامة، فأخبرَ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: ”سَمّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ”.
وفي سنن أبي داود والنسائي، عن أبي وُهيب الجشمي الصحابي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ”تَسَمَّوا بأسْماءِ الأنْبِياءِ، وَأحَبُّ الأسْماءِ إلى اللّه تَعالى عَبْدُ اللّه وَعَبْدُ الرَّحْمَن، وأصْدَقُها: حَارِثٌ وَهمَّامٌ، وأقْبَحُها: حَرْبٌ وَمُرَّةُ”.
وفي سنن أبي داود، بالإِسناد الجيد، عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ”إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بأسْمائكُمْ وأسماءِ آبائِكُمْ فأحْسِنُوا أسْماءَكُمْ”.
3. سنة التحنيك، والدعاء بالبركة:
والتحنيك وهو مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل ويقوى عليه وينبغي عند التحنيك أن يفتح فاه حتى ينزل جوفه واولاه التمر، وإلا فشيء حلو وعسل النحل أولي من غيره. انظر: فتح الباري-ابن حجر (9/ 588).
جاء في صحيح البخاري: عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ).
4. سنة حلق شعر الرأس للمولود، ثم التصدق بوزن شعره فضة أو ذهباً.
إن مما جاءت به الشريعة العظيمة استحباب حلق رأس المولود يوم سابعه، والتصدق بوزن شعره فضة على الفقراء والمستحقين، والحكمة في ذلك، صحية: لأن في إزالة شعر المولود تقوية له، وفتحا لمسام الرأس، وتقوية لحاسة البصر والسمع والشم، كما ذكر ابن القيم، واجتماعية أيضا: لأن التصدق بوزن شعره فضة، من ينابيع التكافل، ويبعث الفرحة في نفس الآخذ، فيشارك من رزقوا بالمولود فرحتهم، هم جاءهم وافد جديد انضم إلى الأسرة، وهو أخذ من اليد العطية وزن شعر المولود فضة أو ذهبا، وكأني بالشريعة لما ربطت العطاء بوزن شعر المولود، ليكون هو الحافز على العطاء، وربما فقدنا هذا المعنى، لو قدر العطاء دون الوزن بمقدار ما، كصدقة الفطر مثلا.
ومن الأحاديث التي استدل بها الفقهاء على استحباب الحلق، والتصدق بوزن الشعر فضة: ماروى الإمام مالك في الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: “وزنت فاطمة –رضي الله عنها- شعر رأس حسن وحسين، وزينب وأم كلثوم، فتصدقت بزنة ذلك فضة” والحديث رواه البيهقي أيضا وغيره مرسلا عن محمد بن علي بن الحسين.. وقد نص الحديث هنا على الذكور والإناث من حيث حلق الشعر والتصدق بزنته فضة..
وفي الموسوعة الفقهية (2/6249) ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب حلق رأس المولود، في اليوم السابع، وذهب المالكية والشافعية إلى أنه لا فرق بين الذكر والانثى لما روي أن فاطمة بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وتصدقت بزنة ذلك فضة، ولأن هذا حلق فيه مصلحة من حيث التصدق، ومن حيث حسن الشعر بعده، وعلى الكراهة من تشويه الخلق غير موجودة هنا.
5. سنة الختان: قال صلى الله عليه وسلم:
“الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب”. متفق عليه. والفطرة في الحديث فسرها أكثر العلماء بالسنة، قال النووي رحمه الله: تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب. والسنة هنا هي الطريقة المتبعة، وقد اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة كما ثبت ذلك في حديث متفق عليه، وقال تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين). [النحل:123]. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في حكمه بعد اتفاقهم على مشروعيته. فقال الشعبي وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد ومالك والشافعي وأحمد هو واجب، وشدد فيه مالك حتى قال من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته. ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة، ولكن السنة عندهم يأثم تاركها فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب.
6. سنة العقيقة:
جاء في صحيح البخاري: (مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى)، فالعقيقة هي الذبيحة التي تذبح للمولود، وأصل العق الشق والقطع، وقيل للذبيحة عقيقة، لأنه يشق حلقها، ويقال عقيقة للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه.
وهي سنة مؤكدة كما عليه جمهور أهل العلم. لما رواه مالك في موطئه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل”. وقد روى أصحاب السنن عن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويتصدق بوزن شعره فضة أو ما يعادلها ويسمى”. ويذبح عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لما رواه الترمذي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “أمرهم أن ُيعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة” ويسن أن تذبح يوم السابع للولادة فإن لم يكن ففي الرابع عشر وإلا ففي الحادي والعشرين لما أخرجه البيهقي عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “العقيقة تذبح لسبع أو لأربع عشر أو لإحدى وعشرين”. فإن لم يتمكن في هذه الأوقات، لضيق الحال أوغير ذلك فله أن يعق بعد ذلك إذا تيسرت حاله، من غير تحديد بزمن معين. إلا أن المبادرة مع الإمكان أبرأ للذمة.
والسن المجزئ في الأضحية والعقيقة إذا كانت من الإبل أن تكون مسنة وهي ما لها خمس سنين، ومن البقر ماله سنتان. ومن المعز ماله سنة، ومن الضأن ماله ستة أشهر. لا يجوز أن يكون سنها أقل مما ذكر.
ولايشترط أن يرى الوالد دم العقيقة وليس على ذلك دليل.
وذهب جمهور الفقهاء الى أنه يستحب طبخ العقيقة كلها حتى مايتصدق به، وإن فرقها بدون طبخ جاز ذلك.
ومن هنا لنا أن نَفهم حقيقة التربية عند “مالك بن نبي” المستقاة من نهج النبوة، ذلك يوم جاءه رجل وهو يمسك بيمين ابنه الذي بلغ من العمر خمس سنوات، فقال له: جئت اليك بولدي حتى يتربى على يديك، فقال له مالك بن نبي: كم عمر ابنك قال: خمس سنوات، فما كان من “مالك بن نبي” إلا أن يقول: لقد فاته القطار، وذلك أن اسس التربية تبدأ منذ اللحظة الأولى من ولاة الطفل.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم: الدكتور الشيخ ضرغام صالح