سالم جبران: بين المضمون الثّوري والأسلوب المُنتزع من واقع الألم
تاريخ النشر: 05/01/12 | 5:57هيفاء مجادلة
الأبعاد الإنسانيّة/الاجتماعيّة في شعره: الاتّجاه اليساري الجبراني:
ارتبط شعر جبران – وهو المنتسب إلى الطبقة العاملة فكريًا وتنظيميًّا- وكتاباته النثرية أيضل، ارتباطا وثيقًا بالأبعاد الاجتماعية، فتجلّى ذلك من خلال دعوته إلى تضافر القوى وتوحّد العمل، ومن خلال تحسّسه ظروف الطبقة الكادحة، ومناصرته للعمّال والفلاحين ودفاعه الحارّ عن حقوقهم، تحرّيه الإنصاف والعدالة الاجتماعيّة، التناغم مع قضايا التحرير العالمية. ميله لهذه الموضوعات يُبرز اتّجاهاته اليساريّة وميله للاشتراكيّة.
من ذلك تلك القصيدة التي تلخّص مأساة العامل بحكائيّة تبرز المشاق التي تواجهه وهو يبحث عن عمل يضمن له لقمة العيش، يخرج باكرًا من قريته البعيدة للبحث، يكرّر سؤاله عن عملٍ، وتكون النتيجة واحدة: بصقه من قبل المعامل والمحال، يحاول خنق بكائه، فيرنّ صوت أمه تطلب منه كتابة رسالة يعلمهم في حال حصوله على عمل، ووعدها لأخته بأن يحضر لهم البرتقال والثّياب، وبعد محاولات متكرّرة فاشلة يعود أدراجه على بيته ويده خالية من البرتقال والثّياب! (كلمات من القلب، ص 51-54).
واللافت أن الشّاعر يوظّف مفردات من صميم الفكر اليساري ومن معجم الاتّجاه الاشتراكي، مما يؤكّد انتماءه للعقائد الماركسية اللينينية وللمبادئ الاشتراكيّة؛ منها: “الكادحين”، ” العمّال”، “الرّغيف”، “الشّعب والكفاح”، “العدالة ستشرق”، “رمز الطّبقة”، “فقراء الأرض”، “الفلاح”.
تتجلّى يساريّة الشاعر من خلاله استخدامه للون الأحمر في عدّة قصائد نحو: “الثّورة الحمراء”، “أنا أحمر من بلد حمراء”، “علم أحمر”، “دم أحمر”، “الرّاية الحمراء”، “الحريّة الحمراء”. ويضمّن لفظة “رفيق” أو “رفاق” -وهي من روح الفكر اليساري-في مواقع كثيرة أبرزها في عنوان ديوانه رفاق الشّمس.
جبران ومرارة الإقامة الجبريّة: السّجن في شعره
ذاق جبران مرارة السّجن وتجرّع طعم القيود والسّلاسل. وكما يبدو، فإن الجدران التي أطبقت عليه وأسرت جسده، ساعدت على إطلاق روحه الشاعرة وأطلقت عنانها ليعبّر عن واقعه في السّجن، بدءًا بالتعبير النّاطق عن الواقع الذي ينضح مأساويّة، وانتهاءً بإشعال فتيل المقاومة من خلال الكلمة الشعريّة.
يمكننا أن نقسم عالم جبران الأَسْري إلى قسمين: الأول حين أُسِرَ في سجن خاصّ، هو بيته حيث فُرضت عليه الإقامة الجبرية فمُنع لمدّة سنتين من مغادرة المدينة في النهار ومن مغادرة بيته في الليل، لا لشيء إلا لأنه رفض العفو مقابل الاعتراف بتهمة “التجسّس” المنسوبة إليه! وتماهيًا مع هذه التجربة المريرة التي عاشها، أخرج إلى النور ديوانًا شعريًا عام 1970 بعنوان: قصائد ليست مُحدَّدة الإقامة. تبرز تجربته في القصيدة التي يفتتح بها مجموعته، حين يعلن حنينه إلى قريته: أنا بلا كروم زيتونك / يا قريتي القريبة البعيدة / زهر بلا عطر بمزهريه ]…[ / وغاصب التّراب والأشجار والأزهار والهواء / لا يمنحني التّصريح / وخطوتي سجينة في البيت / لا تحسن أن تطير ،كالقصيدة. (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 5-6).
يشعر القارئ بنبرة اليأس تطغى على سطور القصيدة. ونجده يخاطب أمّه طالبًا منها ألا تنتظر عودته: أمّاه يا أمّاه ]…[ / لا تقفي، بعد، على الشبّاك في انتظاري / جلالة السلطان لا يمنحني التصريح / لا تنتظريني، واسمعي أخباري (ن.م.، ص 11).
منعته الإقامة الجبرية كما يتبدّى من أبيات القصيدة من التواصل مع أمّه وأهله وقريته، فبترته عن الآخرين نفسيًا وجسديًّا. ولكنه سرعان ما ينفض عن نفسه ملامح اليأس ويعلن أن الإقامة الجبرية لم تعد مرهقة ولا معيقة: لم تعد الإقامة الجبرية / مرهقة، لديّ ألف شغلة أنجزها / من قبل أن أنام (ن.م.، ص 12-13)
تجدر الإشارة إلى أن الإقامة الجبريّة لجبران لم تحصر أشعاره في إطار الفردانيّة، بل نجح في الخروج من إطار الذاتيّة إلى إطار المجموعة، فقصائده وإن كانت ذاتيّة في مرجعيّتها ونقطة انطلاقها، فإنها تعبّر عمّا يعيشه الشعب الفلسطيني بأسره، الذي عاش هذه الإقامة الجبرية – ولو مجازًا- وذاق مرارتها. وفي مقابلة معه، أكّد جبران هذا الأمر حين أشار إلى أن ديوان قصائد ليست محدّدة الإقامة يستلهم مواضيعه وصوره من حرب حزيران وما بعدها، من المأساة المتفجّرة يوميًا للشعب العربي الفلسطيني. في الديوان رفض للهزيمة، رفض نابع من الاقتناع العميق بقدرة الشعوب العربية، ومعها الشعب العربي الفلسطيني على تجاوز الهزيمة. في الديوان إدانة السياسة العنصريّة للحكومة تجاه الجماهير العربية الباقية في الوطن، من زاوية أوامر الإقامة الجبريّة وتحديد الإقامة. ويؤكّد أنه لم يكن بطلاً فرديًا مأساويًا في الدّيوان، بل كان واحدًا من أفراد شعب بطل، معذّب، مناضل. وبذا فإن أشعار الديوان هي انعكاس لتجربة شعبيّة وليست تجربة شخصيّة فقط.
أمّا القسم الثاني فنقصد به الفترة التي أُسِرَ فيها وسُجِنَ بشكل فعلي، مثله مثل العشرات بل المئات في تلك الفترة، كمظهر من مظاهر التعذيب التي فرضها العدوّ. ووسط ظلمة السّجن يصف الشاعر أوضاع السّجناء، وتعلو من داخل جدرانه صرخاته في وجه سجّانه الظّالم. في قصيدة يهديها إلى “الوطنيّين الفلسطينيّين المعتقلين إداريًا، الذين أعرفهم، والذين لا أعرفهم..” (رفاق الشّمس، ص 20). يتماهى السّجن مع القبر حين يصف المكان الذي سُجِن فيه: متر بمتر كلّ ما عندي من الدنيا / قميصي صار رثًّا، أكلُهُم يُقرِفُ، والدّخان / لم يدخل الزّنزانة الصّفراء من زمانْ / ومعدتي أوجاعُها تقتلني في كلّ يوم / ثمّ لا تلبث أن تعيدني إنسانْ (ن.م.، ص 20)
الوصف الذي منحه لمكان أسره في البيت الأول يذكّرنا بالتّابوت، فتلتقي صورة الزنزانة مع التابوت في ضيق المساحة. يشعر القارئ مع هذا المتن بأن السجن هنا ليتجاوز كونه أسرًا لجسد الشاعر، ويتعدّاه إلى أسر روحه، كيانه، وجدانه، ويصل إلى حدّ وأد إحساسه بالحياة وتوريثه أوجاعًا نفسيّة وجسديّة. بعد مسحة من الألم والوجع التي تعتري كلمات الشاعر، ينبّهنا الشاعر إلى أن هذا الحزن ليس مؤشرًا على النّدم أو التّعب من الأسر، بل هو نابع من تغيّبه عن ساحة المعركة: باسمك يا شعبي أغنّي، إذا / لمحت في أغنيتي / شيئًا من الأحزانْ / فليس ذاكَ أنني تعبتُ أو ندمتُ، بل يجرحُني / تغيّبي عن ساحة العراك، من زمان (ن.م.، ص 21-22).
لم يقتصر الأمر على ضيق في مساحة السّجن، بل تعدّاه إلى ظروف قاسية تحيط به، فالرطوبة والعفن ينفثان أنفاسهما ويحيطان به، والظلمة تغزو المكان، والبطانيات المقدمة لا تفي بالغرض مع البرد القاسي الذي ينخر في الجسد كالإبر، فتشكّل كلّها لوحة قاتمة تضيّق الخناق على شاعرنا، وتضفي أبعادًا جديدة لمعاناته: يصف وضعه في أغنية فتح حساب: هذه أول ليلة / في الخارج، صوتُ مطر / ألمحُ في العَتْمَةِ، من فتحةِ شُبّاكي / شَبَحَ النّخلة / البردُ إبرْ !! / البطانيّات: بصاق وعفونة / والصّمتُ: لعنت رنينه (ديوان الوطن المحتلّ، ص 536).
العتمة تسيطر على المكان، لذا لم تبد النخلة من فتحة النافذة بل بدا شبحها، إنها عتمة وظلمة الزنزانة التي تلفّ المكان وتلازم حياة الأسير. العتمة تطوّق المكان يؤازرها في ذلك صمت رهيب، إنه صمت من نوع خاص، صمت له رنين، ربما يقصد به صمت الحياة وانعدامها. الصّمت سكون، والرنين حركة وضوضاء، ومن خلال هذه الثنائيّة الضديّة تتّضح ملامح اللوحة القاسية التي يعيشها الشاعر، ففي مكان جامد ساكن لا حركة فيه ولا أنفاس، بات الصمت جرسًا يقرع رنينه في داخل الشاعر. وسط هذه الظروف القاسية من صمت، برودة، عفونة؛ يعاني الشاعر من الوحدة التي تبدو كالبحر يغرقه بأمواجه العميقة: وأنا وحدي، في السّجن سجين! وحدي، وحدي / ما أعمقَ أمواجَ الوحدة / وحدي في الليل أفكّرْ / أهمِس، أنشِدُ، أتذكَّرْ (ديوان الوطن المحتلّ، ص 537).
ووسط هذه الوحدة، وهذا الصمت القاسي، خرجت صرخة الشاعر متحدّية ثائرة: ما أسخفكم يا أعداء الدرب! ….. / هذي أول ليلة / هذي ليست آخر ليلة! (ديوان الوطن المحتلّ، ص 537). يرى محمد حور أن هذا الرفض إنما من باب استخفاف الشاعر بأعدائه، وما النقاط المتتالية إلا فراغًا ليملأ المتلقي ما شاء له من تأويل وإيحاء كأنما يقول: ما أسخفكم باعتقالي، لأن هذا سيزيدني قوة في الوقت الذي تظنون أنكم تضعفونني (حور، محمد. القبض على الجمر: تجربة السجن في الشعر المعاصر. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004. ص 349).
يعاني الشاعر في سجنه شتّى ألوان الحرمان الذي فرضه عليه سجّانه، حرمانه الأكل، الحرمان من الدخان، والأصعب حرمانه من أولاده. يعبّر عن لوعته: عيون أطفالي عصافير تجيء دائمًا / ترفُّ فوق السّجنِ ثمّ ترتمي / راجعة..فهكذا أوامر السجّان! (رفاق الشّمس، ص 21).
صورة قاتمة سوداء، خيوطها نُسجت من صمت مطبق، عفونة، برد قارس كالإبر، ظلام دامس، كل هذه الظروف بطبيعتها تؤدّي إلى جوّ نفسي حافل بالقلق والأرق واليأس والكآبة. ولكن، هذا لم يحدث لشاعرنا، فرغم كل هذه الظروف المحبطة إلا أنه استطاع أن يتجاوز حالة اليأس والاكتئاب لينتقل إلى حالة من الأمل والإيمان بحتميّة الانتصار. فوظّف الكلمة الشعرية والطاقة الإبداعية الكتابية في سبيل تطويق حالات المعاناة والخروج من الفردانية إلى الجماعية من خلال بثّ روح الأمل. انتماؤه المخلص لوطنه وأرضه كان بمثابة الضوء الذي بدّد عتمة السجن وظلمته؛ يقول: هل تذكرني يا حمدي، يا علم الدين / كنّا في السجن، نقيض يقين / ننشد في ثقة لا تقهرْ / للثورة، للجيش الأحمر / نرسم لوحاتٍ عن عمّال النّفط / وعن مأساة الفلاّحين (كلمات من القلب، ص 70).
إنه لا يستسلم للواقع، للأسر، بل يعلن التحدّي: إن سجنوا لي خطوتي ]…[ / فلن تشلّ خطوتي / وسوف يعلو الصوت (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 19). لم يكتف بتحدّيه، بل يعلن وعده: لكن إذا دار الزمان، إنه دوّار / سيسقط الجدار / ويثأر الأحرار (كلمات من القلب، ص 76).
مما سبق، يتّضح أن السّجن أصبح رديفًا عند جبران لمعاني الثورة والانطلاق والتحدّي، وبذا تنتفي الدلالة المعجميّة الأصلية للسجن، ويأخذ دلالات جديدة تحمل معنى الثورة والأمل والتحرّر. تتجلّى هذه الصورة الثورية بأقوى صورها في حواريّة يخلقها الشاعر بينه وبين سجّانه، تبرز صموده صمود وقوّته، ففي صورة شعريّة استعاريّة يصوّر موقفه النابض رفعة وعزّة وشموخًا في الوقت الذي تكبّل يديه بالأغلال: سلسلةُ الحديد في يديّ / وجبهتي تتّكئ الشّمس عليها / قبل أن تسقط للمغيب (ديوان الوطن المحتلّ، ص 537).
وبعد مجموعة من التساؤلات الهازئة التي تنهال عليه من شرطيّ العدو: “هل جئتَ للمركز من جديد؟ أما تزال تكره اليهود؟ منذ متى أنت هنا؟ محكمة؟ قصّة دير حنّا؛ يكون جواب الشاعر حاسمًا، جريئًا، متحديًا: يا أصفر العينين والضّميرِ، يا حقودْ ! / سأحملُ القيودْ / سأسمع السّجنَ أغانيَّ التي أنشدها / للناس، في الحارات والدّروب !! / القيد في يديَّ: عار يحرق الضّمير / فعلاً.. ولكن ليس لي / وإنما لحُكمكَ الحقير / يا بوليسه الصّغير!! (ديوان الوطن المحتلّ، ص 538). تحوّلت القيود من عار للسجين إلى عار يكلّل السجّان، وباتت مصدر اعتزاز وفخر للشاعر.
الخصائص الفنيّة لشعر جبران: أساليب منتزعة من واقع الألم:
لعلّ أكثر ما يلفت النّظر في الشّكل الفنّي لقصائد جبران هو قصرها، وحين سُئِلَ جبران عن هذه الخاصيّة التي تميّز أشعاره أجاب: “فعلاً أكثر قصائدي قصيرة، ولا أجدني بأيّ حال بحاجة إلى التّبرير ]…[، أنا حين أكتب لا أقرّر سلفًا ما هو حجم القصيدة وعلى أي وزن. أنا أعيش الواقع وأجمع منه الصّور وحرارات التّجارب الشّخصيّة والشّعبيّة، أتفاعل مع ما أجمعه، أحاول أن أهضمه فكريًا وعاطفيًا. ]…[. أنا ألتزم بشيء واحد: أن يكون ما أكتبه صادقًا ليس مع نفسي فقط، بل مع الحياة]…[. يهمّني أن يكون في شعري شيء جديد، كشف جديد، هذا أحرص عليه. أمّا الطّول والقصر فلا يعنيني؛ لأنّني لا أبيع قماشًا!” (الجديد. الشاعر سالم جبران يتحدث إلى مندوب الجديد. ع (4-5)، 1972، ص 41). واللافت أن هذا القصر للقصائد لم يُفقدها قيمتها، بل جاءت مكثّفة مركّزة، كما نجد في قصيدته حب:
كما تحبّ الأم / طفلَها المشوّها / أحبُّها / حبيبتي بلادي! (كلمات من القلب، ص 102) ففي بضع كلمات يختزل ويلخّص مشاعر جارفة إزاء فلسطين.
يتميّز شعر جبران بالصّدق الفنّي متمثّلاً في بساطته وانسيابيّته وتعبيره عن تجارب واقعية معيشة، نضح بحماسة ملتهبة، وشفافية صادقة، تعبّر كلماته عن وجعه وألمه، فيشعر القارئ معه أنه يكافح ويناضل بالكلمة، كونه عاش التجربة بكل تفاصيلها منحه القدرة على صدق التعبير وشفافية المعنى. هذه التلقائية الانسيابية مردّها إلى قوّة التفاعل بين الذات الشاعرة وبين الواقع المرير المعيش.
يتحرّك جبران بين الوصف الرومانسي وبين التقريري التسجيلي الواقعي، ويُلاحَظ أن النّغمة الخطابيّة التي بدأت بتأثير المهرجانات الشعريّة حيث أملت طبيعة شعرية خاصّة وضرورة تعبيرية تتّسم بالخطابية، لم تتلاشَ من أشعار جبران فرافقته في معظم دواوينه، تماشيًا، كما يبدو، مع المضمون الثوري الذي يمتدّ على الدواوين الثلاث. يقول مخاطبًا شعبه:
هزّي، من الأعماق، يا عاصفة الهزيمه / عالمنا الشّائخ / فليدمّر الإعصار كلّ التّحف القديمه / ناسًا وأفكارًا / ليحرق لهب الثّورة كلّ أراضينا / كي لا تحاك، من جديد، فوقها مهزلةٌ / كي لا تُعاد، من جديد، فوقها جريمة (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 36).
تموج القصيدة بمشاعر ملتهبة من الغضب والتحدّي، وكلها مشاعر تقتضي بطبيعتها لغة خطابيّة ومباشرة فنيّة. ينضاف إلى ذلك اختياره لهاء السّكت رويًا لأبياته، منحت قصيدته إيقاعًا خطابيًّا ثوريًّا، وساعدت على كشف ما يعتمل في صدره من ثورة. ونحن، في حكمنا على اتّسام قصائد جبران بالطابع الخطابي المباشر، نخالف ما ذهب هو إليه من أن أكثر شعره يميل على تقديم اللّوحة أو الصّورة، ولا يميل إلى المخاطبة المباشرة (الجديد. الشاعر سالم جبران يتحدث إلى مندوب الجديد. ع (4-5)، 1972، ص 41). ولعلّ في المثال الشّعري الذي سقناه ما يدعم رأينا.
هذا الطّابع الخطابي يفرض على الشاعر أحيانًا الاتّكاء على أسلوب التكّرار، من أجل ترسيخ المعنى وتجذيره في نفس القارئ، بالإضافة إلى أن التكرار يتجاوب مع طبيعة شعر المقاومة الذي يعبّر في مضمونه عن ألم ومعاناة، مما يستلزم استخدام التكرار كآليّة صوتيّة ومعنويّة تساعد على نقل هذا الألم. ولا يقتصر الأمر عند شاعرنا على تكرار في الألفاظ والتعابير، وإنما يقع في فخّ تكرار الفكرة والمضمون في كثير من القصائد، فنظرة إحصائية لدواوين الشاعر تفضي إلى أنه قد خضع لنطاق شعري مضموني رئيسي هو المقاومة، هذا الخضوع أوقعه في فخّ التّكرار، لذا نجد المضامين المكرّرة والموضوعات تعود على نفسها في أكثر من قصيدة. وقد يبرر هذا بأن الشاعر لم يشأ أن يكون خارجًا عن القطيع، فانغمس في قضايا وطنه مثله مثل شعراء المقاومة.
يبرز الأسلوب القصصي في بعض أشعار جبران، فتتوافر فيها عناصر القصّة من شخصيّات، حوار، حبكة، زمان ومكان، مع الحفاظ على البنية الأساسيّة للنصّ الشعري. يظهر هذا الأسلوب في الكثير من القصائد مثل: 1948 (مقاطع)، المعركة، الحبّ العظيم، في السّينما، يوم وليلة في المدينة (كلمات من القلب، ص 5، 14، 25، 48، 51)، وتستهلّ الأخيرة أبياتها بالتعبير القصصي “في ذات يوم”، وتزخر بالتساؤلات والحوار والشخصيات (كلمات ليست محدّدة الإقامة، ص 51).
تأرجحت أشعار جبران بين القصيدة الكلاسيكيّة والحديثة، وجمع بين الموروث والحرّ في موسيقى قصائده، ولكن -تأثرًا بالسيّاب كما صرّح جبران- نجد الغلبة الواضحة في قصائده لصالح نظام الشعر الحديث والابتعاد عن نسق القصيدة التقليدية، معتمدًا بشكل كبير على الرجز بحرًا لقصائده.
ملاحظة أخرى تستوقفنا عند النّظر في الشّكل الفنّي لقصائد جبران هي اقتراب لغة شعره من حديث النّاس اليومي، فجاءت بسيطة، سلسة غير متكلّفة أو مفتعلة، ألفاظه وتراكيبه منتقاة بعفويّة وانسيابّية. من ذلك قوله في قصيدة بلا أوسمة: يتعلّم الشّعب المعذَّب كيف يدفع للبطولة / بنتًا لحدّ الآن لم تحلم بغير العرس / لم تتقن سوى لمّ الجديلة (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 65).
يشعرُ القارئ من خلال هذا المتن بمدى العفويّة والشفافيّة التي تطغى على التّعبير، وهذه الخاصيّة تتيحُ لكلمات الشاعر القدرة على النّفاذ إلى القارئ وتجعل وقع تأثيرها أكثر قوة. ويبدو واضحًا-من الأبيات السّابقة- أن الشاعر تحرّر من قيود اللغة التقليديّة ذات المعجم الفصيح، وآثر البقاء في حدود اللغة المباشرة المبسّطة. وقد نعزو هذه السّمة لدى جبران، والتي تنسحب على غالبيّة قصائده، إلى أنه يعبّر عن هموم الفلسطيني ومعاناته في تفاصيل حياته اليوميّة، وهذا دفعه إلى أن يُخضع لغته الشعريّة إلى اللغة الجماعيّة للشعب، ويستلهم مفرداته من فتات الواقع اليومي الذي يعيشه الفلسطيني.
يعمد جبران بشكل لافت إلى الاستقاء من اللغة المحكية، فنجد الكثير من المفردات والتعابير المحكية مثل: “ألف شغلة” (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 12)، “خلّوني” (ن.م.، ص 5)، تعلّم التياسة” (ن.م.، ص 31)، “راجل” (رفاق الشّمس، ص 54)، “المرجَلَهْ” (ن.م.، ص 54)، تَخْتِي” (ن.م.، ص 58)، “اترُك الصبِّة” (كلمات من القلب، ص 7)، “بيّاع الخُضْرَة” (ن.م.، ص 22)، “ما حدَّدَ ما نَجَّرَ” (ن.م.، ص 23)، “نباطِح الرّيح” (ن.م.، ص 38)، “على الميس” (ن.م.، ص 38، ويقصد المعلمة)، “جنب العين” (ن.م.، ص 3)، “دوّرت كلّ شاع يمّمت كلّ حاره” (ن.م.، ص 51). كما يستقي أحيانًا من التراث الشّعبي، كاستخدامه لتعبير “الميجنا والعتابا” في أكثر من موقع (انظر مثلاً: رفاق الشّمس، ص 86؛ كلمات من القلب، ص 38).
استقى جبران أيضًا مفرداته من عالم العقيدة المسيحيّة ليُسقِطها على الواقع الفلسطيني، فجعل من المسيح المصلوب الذي يرمز للتضحية في سبيل البشريّة، المعادل الموضوعي لإبراز الفلسطيني الذي يضحّي بنفسه من أجل الوطن. يقول في إحدى قصائده: وأقول بثقة نبيّ مصلوب يعلن آخر كلمة: إني متفائل (رفاق الشّمس، ص 9. تَرِد لفظة المسيح في قصائد أخرى، انظر مثلاً: “كأسماك المسح” (ص 66 قصائد)، بل وظهر المسيح في عنوان قصيدة المسيح قام (قصائد ص 56).
وأخيرًا، هذا هو شعر سالم جبران، شعر نبع ممّن تشبّع من هواء فلسطين وصلب عوده بحبّ ترابه فقرّر انتفاضة الكلمة والقصيدة، شعرٌ تخلّق من رحم المقاومة، والتحم مع القضيّة الفلسطينيّة، ولكنّه لم يقف عندها أو يعلَقُ بها، بل جعل منها ومن انتكاساتها وقودًا لضخّ الدّماء في الشّعب الفلسطيني وحثّهم على الصّمود والتمسّك بالأرض.
تحليل منطقي لك شكري